يُصعب في الواقع الكتابة عن الراحل، فمن أين البداية. هل من النشأة أم من مراحل طلبه للعلم، أو عن انشغاله بالعمل العام. على أية حال، قررت ابتدار الكتابة عن الأخيرة، لأنها الأهم، فمواقفه حول قضايا الحرب والسلام هي لب حياته وتركيز أعماله المنشورة. لا جدال، على موسوعية منصور المعرفية، فهو مفكر نهل من علوم الشرق والغرب، شأنه شأن نفرد من جيله الذين تلقوا علمًا في أرقى جامعات العالم. إلا أن منصور، تفرد، فهو الوحيد، الذي وهب حياته لقضايا الحرب والسلام. متنقلا بين ضفتي النهر جنوبًا وشمالًا. شاءت الاقدار بأن يرسي الراحل مع آخرين، أسّس الوحدة الوطنية السُّودانية مرتين. أولًا، حينما كان وزيرًا لخارجية السودان، وعضوًا مفاوضًا في مباحثات السلام مع حركة تحرير جنوب السودان "الأنانيا" بقيادة جوزيف لاقو. وفي المرة الثانية، كان منصور في الضفة الأخرى، مشاركًا ضمن قيادة الحركة الشعبية بزعامة الراحل قرنق، محققًا اتفاقية السلام الشاملة مع حكومة السودان. ولعل المفارقة هنا، بإن الاتفاقية الأولى والتي شارك فيها منصور، أعطت الحكم الذاتي وقتئذ، بينما اشتملت الثانية على بند حق تقرير المصير، أفضت كما هو معلوم إلى ميلاد جنوب السودان. ولفهم هذا الانتقال، لابد من استيعاب تضاريس السياسية السودانية ومنعرجاتها. والأخيرة، كفيلة بتفسير المفارقة أعلاه. وهي بتعبير كثيرين، إحدى علل التجربة، لمكر الساسة ونقض العهود والمواثيق التي أشار إليها أبيل ألير. كما تكرّرت في كتابات الراحل. عاش منصور كل هذه التجارب في سودان ما بعد الاستقلال، بصفته كاتبًا مجيدًا، سياسيًا ضليعًا، مشاركا في صنع الأحداث والقرارات. وفوق كل ذلك، جمع منصور خبراته ووضعها في سبيل السودان الجديد لبناء دولة سودانية مستقرة. المهمة التي نزر لها سنين حياته الأخيرة، مشاركا صديقه ورفيقه الراحل دكتور جون، رحلة البحث عن أسس جديدة، لبناء سٌّودان واعد. منصور وقضايا الحرب والسلام خاض الراحل منذ بواكير عهده بالشأن العام، مشدّدا على خطورة التناطح الحزبي الطائفي التقليدي، أو مخاطر الصراع الحزبوي الحداثي، والتي أدت لوأد التجارب الديمقراطية الثلاثة. ولكن الإسهام الأكبر لمنصور في تقديرنا، تمثل في إدراكه المبكر لإشكال الوحدة الوطنية، وقناعته بأنها ليست مختصرة بإقليم بعينه من أقاليم السودان يومئذ، والتي كانت تسمى ب"مشكلة الجنوب". وفي الواقع، لم يخلو موقفه هذا من إثارة عواطف الكثيرين، حيث انهمرت عليه سهام النقد من كل صوب، ولكنه لم يتهيب مقارعة الحجة بالحجة. ومثلما أشار الدكتور واثق كمير، إن كانت مواقف منصور مثيرة للجدل، فإنه يظل المثقف السوداني الوحيد الذي لم يملّ الطرقّ المتواصل على قضايا الحرب والسلام والوحدة". أنظر ورقته الموسومة (في أطروحة منصور خالد السلام ووحدة البلاد: الفرص المهدرة، سودانايل، مارس 2016). هذا الاعتراف من الواثق كمير، تأكيدا آخر على ما نشير إليه، وهي بصيرة الراحل المبكرة بإشكال إدارة الدولة على ذات النهج الخاطئ، فأجاد الراحل بإصدار الكتابات في كشف علل المعضلة، بدءا بحواره مع الصفوة، مرورًا، "السودان والنفق المظلم قصة الفساد والاستبداد"، وأخرى في "السودان أهوال الحرب وطموحات السلام قصة بلدين"، وغيرها. والتي تنبأ فيها بزوال الوحدة الوطنية حال استمرار الساسة في اختزال قضايا السودان في اتفاقيات السلام وشراء الذمم بعض القيادات المعارضة. وعلى الرغم من تحذيراته المستمرة، لم يستجب الساسة لأثر هذه الأمة على وحدة السودان. لعجز النخبة السياسية عن تجاوز خلافاتها وظلاماتها. النخبة التي دمغها الراحل بالفشل وإدمانه في كتابه ذات الصيت "النخبة السودانية وإدمان الفشل" في جزئين. منصور وجنوب السودان كما هو معلوم، جمعت الراحل وشائج خاصة بجنوب السودان. نشأت هذه العلاقة لقناعة منصور بان الطريق الوحيد لإدامة الإخاء الشعبي، هو الاعتراف بالخصائص التي تميز السًّودان، بتنوعه الثقافي والاثني والديني الفريد. سعى منصور باكرا لردم الفجوة في علاقات النخبة السياسية. ولا غرابة، بأن أصدرت رئاسة الجهورية في جوبا الحداد ثلاثة أيام على روحه الطاهرة، دلالة على رمزية العلاقة بالراحل، وخصوصيتها. كان الراحل قد وقع الراحل اتفاقية أديس أبابا 1972، نيابة عن حكومة السودان مع حركة الأنيانيا، لرفض قادة الأخيرة وقتها، توقيع أبل ألير رئيس الوفد الحكومي ونائب رئيس الجهورية، لاعتبارات كثيرة، ليس المجال للخوض فيها. ولكن ما يهم، هو مشاركة الراحل في تنفيذ تلك الاتفاقية، والتي أرست دعائم الاستقرار والوحدة لعقد من الزمان. شهد فيها الجنوب استقرار ومشاريع تنموية ما تزال راسخة في الوجدان، لعل أشهر جامعة جوبا والتي أنشئت في منتصف السبعينيات بقرار من الرئيس وبدعم من الكثيرين من بينهم الراحل. كذلك، لا يمكن اغفال اسهام الراحل في مسيرة الحركة الشعبية. كما لا يمكن التقليل من دوره الوطني إبان مرحلة الشراكة في تنفيذ اتفاقية السلام الشامل 2005 – 2011، من خلال موقعه التنفيذي مستشارًا في القصر الرئاسي في الخرطوم. ونشر الراحل كتابا مرجعيا في تقييم هذه الفترة، "تناقض سودانين: اتفاقية السلام الشامل والطريق للتقسيم" بالإنجليزية. كشف فيها الراحل فشل طرفا الاتفاقية من انجاز التحوّل الديمقراطي، وتنفيذه بنود الاتفاقية كما جاءت في نصوصها التي اشهرت للناس وللعالمين. الحضور رغم الغياب بلا شك، سيبقى الراحل حضورا في ذاكرة من قرأوا له، ومن عاصروه، ومن عملوا معه، ومن رافقوه وجالسوه، في مسكنه وفي ترحاله. ولكنه أثره العظيم في تقديرنا، يتمثل في اسهامه في حل إشكال الدولة السودانية مرتين. فهو الوحيد الذي استطاع بفكره ان يمد جسر التواصل والمحبة جنوبًا وشمالًا، شرقا وغربا. فمنصور المتفرد وحده من يستطيع فعل كل ذلك. تماما فعل رفيقه الراحل قرنق بإجماع السودانيين أطيافا في استقباله في الساحة الخضراء، وقبله، الشهيد جوزيف قرنق، وآخرين من الذين بذلوا النفس وساهموا في ربط البلدين شعبيًا ووجدانيًا قبيل أن تفرقهما حيل الساسة لحدود جغرافية يتصارعون بشأن حدودها. يظل منصور حيًا في قلوب أحبائه. كما سيتذكره خصومه الذين اعترفوا له بشجاعته وبيان قلمه في التعبير بشجاعة متفردة عن قناعاته. تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته وأسكنه فسيح جناته. 27 ابريل 2020 الدوحة عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.