الوسطية السياسية "centerism"، هي: مجموعة من الإدعاءات الإعلامية والمواقف السياسية و الإفتراضات النظرية المترابطة، في ساحة البراغماتية، و التي من خلال تبنيها، تتجنب بعض المجموعات و اللوبيهات و الأحزاب السياسية، المصادمة الحادة و المواجهة المباشرة مع الآخرين، على المستويين الأيديولوجي والسلوكي معاً، و تسعي في النهاية الي التسوية و الحلول الوسط. وترجع أصول هذه النظرية إلى أعمال روبرت ميشيل الذي قدم دراسة كلاسيكية حول الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في كتابه "الأحزاب السياسية" (Political Parties). و تضم هذه النظرية السياسية المفتوحة، طيف عريض من المواقف السياسية و الأحزاب المختلفة، و رؤى فكرية متعددة تتعلق بمدى واسع من الحالات المعاصرة و التاريخية، بما في ذلك إشتمالها علي أحزاب يسار الوسط الاجتماعية، و أحزاب يمين الوسط الديموقراطية المسيحية و الإسلامية، معاً. لذلك لا يمكن النظر الي الوسطية السياسية، علي أنها تأكيد و تعريف لقوة حزبية سياسية متميزة عن اليمين و اليسار، بهذه البساطة و السذاجة، أو كَحَل وسط بين الإثنين، لأن الإدعاءات الوسطية تضم داخلها طيف واسع من المواقف المتدحرجة و الأحزاب السياسية، يمتد من يمين الوسط الي يسار الوسط، مع بعض الميول النسبي التلقائي نحو أحد الجانبين، و لا يوجد منطقة "وسط صفري مُطلق" ساكن كما يتوهم الكثيرون. يمكن أن تمثل النظرة السياسية الوسطية، موقف الإعتدال بين المحافظة والتقدمية من حيث التوجهات الإجتماعية، و التوسط الفِكري بين الليبرالية أو الاشتراكية من جهة والمحافظة من جهة أخري، و الموازنة بين رؤية تدخل وعدم تدخل الدولة في العملية الإقتصادية. النظرة الوسطية يمكن أن تقبل و تدعم التوازن، عند درجة من المساواة الإجتماعية والتسلسل الاجتماعي، بينما تعارض الوسطية التغييرات السياسية التي قد ينتج عنها تحول كبير في المجتمع، بقوة نحو اليسار أو اليمين. المواقف الوسطية السياسية، لا تخلو أيضاً من التكتيك المرحلي و المراوغة السياسية، من أجل كسب أصوات الناخبين، أو تجنب المواجهة المفتوحة مع نُخب الدولة العميقة، أو التأقلم مع محدودية الموارد التنظيمية أثناء العملية السياسية. في حين يمكن التفكير في إعتدال الجماعات و الأحزاب الراديكالية، على أنه يفضي إلى الديموقراطية، فمن الممكن أيضًا أن يعيق التقدم الديموقراطي، حيث تستميل نُخب الدولة العميقة، الراديكاليين ليفقدوا خصائصهم الإصلاحية و الثورية. للوسطية تعريف مختلف داخل مضمار الفلسفة الماركسية، و يشير الي الموقف المتوسط بين الدعوة الثورية و الدعوة الإصلاحية. لذلك تم إعتبار الحزب الديمقراطي الإجتماعي الحر و حزب العمال الحر في ألمانيا، علي أنهما أحزاب وسطية، لأنهما يجمعان بين الدعوة للوصول الي إقتصاد إشتراكي عن طريق الإصلاح التدريجي، و يدعوان الي الثورة في نفس الوقت. أيضاً، يمكنني إعتبار الحزب الشيوعي السوداني، بأنه حزب وسطي، إعتماداً علي التعريف الماركسي لمفهوم الوسطية، و ذلك من أجل إثارة الجدل المُثمِر. الأحزاب السياسية التي تنتمي الي ما يسمي بالأممية الثانية و النصف، و الأممية الثالثة و النصف، و التي لا يمكنها الإختيار بين التوجه الإصلاحي الديمقراطي الإجتماعي للأممية الثانية، و التوجه الثوري السياسي الشيوعي للأممية الثالثة، أيضاً يمكن إعتبارها أمثلة للوسطية علي هذا الأساس. يستخدم التروتسكيون و الشيوعيون الثوريون، مصطلح الوسطية للإدانة و التبخيس، بإعتبارها موقف إنتهازي، يدعو الي الثورة في المستقبل البعيد، و في نفس الوقت، يدعو الي توجهات إصلاحية في الوقت الحالي. الليبراليون الإجتماعيون، أيضاً ينظروا الي الموقف الوسطي الإصلاحي، علي أنه موقِف سياسي إنتهازي، لأنهم يروا أن التوجه الأصلاحي غير قادر علي إحداث تغييرات بنيوية هيكلية عميقة في جسد المنظومة الإجتماعية البالية. لكن السؤال الأخلاقي الذي أطرحه هو: هل يجوز رفع شعارات وسطية سياسية داخل زخم ثورة شعبية مُشتعِلة؟ خصوصاً أن الثورة السودانية لم تحقق أهدافها بعد، من حرية و سلام و عدالة معقولة. أم أن الشعارات الوسطية، يمكن أن تُرفع فقط لاحقاً، داخل حدود نظام ديمقراطي ليبرالي إجتماعي مُستقِر، و به قدر معقول من العدالة الإجتماعية ؟ لأن طَرح الرؤي الوسطية أثناء الثورة، قد يؤدي الي المُساومة السياسية بأهداف القاعدة الجماهيرية. في العصر الحالي، لا يمكن إعتبار كل من يدعي الوسطية السياسية، وسطياً، و لا يكفي للأحزاب السياسية فقط مُجرد الإدعاء بالوسطية، بكلمة واحدة، بدون تحديد طيف السياسات و الأفكار الواسع للمواقف الوسطية المعنية بالحديث، لأن الوسطية السياسية أصبحت تعني أشياء مختلفة، لأناس مختلفين، في بلدان مختلفة، و أزمان متعددة. كما يتدحرج الموقف السياسي الوسطي، يساراً و يميناً، للمجموعة السياسية الواحدة، و بإستمرار، نظراً للمتغيرات الإجتماعية و الثقافية و الإقتصادية التي تحدث، و ينتج عنها تغييرات في توازن المعادلة السياسية للبلد المَعنِي. حركة التأريخ، تُبين أن الإنسانية تسير و تتقدم بسرعة نحو الأمام، في وِجهة صاعدة تقدمية، مهما كانت مقاومة القوي المحافظة اليمينية الرجعية، و مهما كانت مساومة القوي السياسية التي تدعي الوسطية، و لكن يمكن أن تلعب المجموعات الوسطية دور إيجابي في هذه المسيرة البشرية، عن طريق عقلنة العملية التقدمية و إزالة المخاطر عنها، و ليس إعاقة التقدم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.