ثورة التعليم العالي التي ظل يباهي بها نظام الانقاذ طيلة ثلاثين عاماً، لم تكن في مخرجاتها النهائية سوى دمار ماثل للعيان لا يحتاج لبينة فوق مستوى الشك المعقول لإثباته. فقد أعلن نظام الانقاذ عن ثورة التعليم العالي في ديسمبر 1989 وتضمن إعلانه التوسع في مؤسسات التعليم العالي، والأخذ بنظام الانتساب في الجامعات السودانية، وإلحاق المعاهد العليا والكليات القائمة بالجامعات، والتصديق بفتح جامعات خاصة على أساس تجاري، إضافة إلى محاولة أدلجة الجامعات واستبعاد الكفاءات المناوئة للنظام، ومن ثم تهاوت مستويات التعليم العالي إلى حضيض جعل الجامعات السودانية بما فيها الجامعات العريقة التي ظل السودان يفاخر بالكفاءات التي خرجتها، وعملت في الخدمة العامة على المستوى الداخلي والعالمي، تتراجع إلى مستويات متدنية ومخجلة. بدأ مسلسل الانهيار في منظومة التعليم العالي باكراً جداً من عمر نظام الانقاذ. فبعد أقل من ست سنوات من بداية ثورة التعليم العالي تم تعيين البروفسير عبد الوهاب عبد الرحيم وزيراً للتعليم العالي خلفاً لبروفسير إبراهيم أحمد عمر، ومن ثم شكل لجنة ضمت عدداً من الخبراء في مجال التعليم العالي ترأسها بروفسير مدثر التنقاري المدير الأسبق لجامعة الخرطوم، وبذلت اللجنة جهداً مقدراً وطافت على مؤسسات التعليم العالي في مختلف أنحاء السودان، ومن ثم خلصت إلى وجود ممارسات كارثية حول إنشاء مؤسسات التعليم العالي وتعيينات الأساتذة. فذكرت في إنشاء الجامعات الجديدة (إن بعض مؤسسات التعليم العالي التي أُنشئت لا تملك شيئاً من المقومات فليس بها مكتبات أو معامل أو كتب جامعية ) وفي نفس الوقت انتقد تقرير اللجنة أسلوب التعيينات والترقيات للأساتذة فأورد (أما في الجامعات وفي الوظائف الاكاديمية خصوصاً فلم تراع فيها قيود ولا ضوابط، وتم منح الألقاب والمراتب العلمية بلا حدود، وأن الصورة التي وقفنا عليها جد قاتمة. فهنالك من تم تعيينهم كأعضاء ومساعدي تدريس دون مراعاة لاستيفاء الحد الأدنى للتأهيل المطلوب، وهنالك من منح مرتبة علمية تفوق تأهيله وعطاءه، وهنالك كثير من حديثي التأهيل بدرجة البكالوريوس والماجستير من أسندت إليهم مهام إدارية على مستوى رئاسة الأقسام وعمادة الكليات، بل إن بعض من لم تتوفر فيهم الخبرات اللازمة كلفوا على مستوى إدارة الجامعات، ومنح درجة الاستاذية بعض ممن لم يحصلوا على درجة الدكتوراه). وبناء على الوقائع التي وقفت عليها اللجنة فقد قدمت في تقريرها عدة توصيات، تضمنت دمج بعض الجامعات أو الكليات، وإلغاء بعضها، وتقوية الجزء المتبقي بما يمكنه من الصمود على مستوى مناسب من الكفاءة، كما قدمت عدة توصيات بخصوص تعيينات وترقيات الاساتذة، ومعايير اختيارهم. إلا أن هذا التقرير الذي أعده منسوبوا الانقاذ الذين تثق فيهم، لم يتحمل ساستها إعلانه، فتم عزل الوزير عبد الوهاب عبد الرحيم في اليوم الذي قرر فيه الكشف عن التقرير وبيان ما توصلت إليه اللجنة من توصيات، ورغبته في إحداث تغيير في مسيرة التعليم العالي. وعاد بروفسير إبراهيم أحمد عمر مرة أخرى للوزارة، ليتسارع مسلسل التدهور والانهيار الذي لم يجد من يكبح سرعته. على المستوى الشخصي فقد زرت المدرسة التي درست بها المرحلة الابتدائية وهي مدرسة بخت الرضا الابتدائية فوجدتها قد تم تحويلها لكليات جامعية، ومررت بالمدارس الثانوية العامة التي كنت أمر عبرها وأنا في طريقي من المدرسة الابتدائية إلى بيتنا وهما مدرستا النيل الأبيض الثانوية العامة ومدرسة الدويم شمال الثانوية العامة، فإذا بهما أيضاً قد تحولتا لكليات جامعية، ومررت بالمدرسة التي درست بها المرحلة الثانوية وهي مدرسة النيل الأبيض الثانوية، وألفيتها بدورها قد تم تحويلها لكلية جامعية. فواضح أن نظام الإنقاذ لم يكن ينشيء جامعات على نفس آلية الجامعات التي سبقتها مثل جامعة الجزيرة وجامعة جوبا، عندما كان العمل يجري على إنشاء الجامعات الجديدة وفق خطط تراعي معايير إنشاء الجامعات على المستوى العالمي، بمواردها البشرية وبنيتها التحتية، وقدراتها التي تمكنها من أداء رسالتها، وإنما سار الأمر على التعدي على مؤسسات التعليم العام القائمة منذ زمان طويل، ثم ملؤها بأساتذة لم يتحصل بعضهم على المؤهلات التي تمكنهم من الانضمام لهيئة التدريس الجامعية. وبنظرة سريعة على موقف الجامعات السودانية وفق تصنيف ويبومتركس للعام 2019 لترتيب الجامعات يتضح مدى التدهور الذي لحق بالتعليم العالي، والتراجع في مستوى الجامعات السودانية بين رصيفاتها على المستوى الدولي والأفريقي والعربي. فالعالم يتطور، وجامعات كانت مغمورة تنافس لرفع كفاءتها وقدراتها، بينما الوضع في السودان ينحدر نحو الهاوية، فلم تدخل أي جامعة سودانية ضمن الألف وخمسمائة جامعة الاولى على مستوى العالم، وجاء ترتيب جامعة الخرطوم على المرتبة 1994، واحتلت جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا المرتبة 3457، ثم جامعة الجزيرة المرتبة 4374 وجامعة النيلين المرتبة 5198. وبنفس المقياس جاءت جامعة الخرطوم بين الجامعات الأفريقية على المرتبة 37، ولم ترد أي جامعة سودانية خلافها ضمن المأئة جامعة الأولى. وعلى مستوى الجامعات العربية جاءت جامعة الخرطوم على المرتبة 43 ولم تأت أي جامعة سودانية أخرى ضمن المأئة جامعة الأولى. وهذا الوضع القاتم يلزم بالقيام بإجراءات سريعة وفق رؤى مدروسة لتفادي الانحدار، والوقوف مع الذات لوضع رؤية واقعية نتجاوز بها معايب الحاضر. فقد قال المتنبيء وكأنه يشير لحالنا: عَجِبتُ لِمَن لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنبو نَبوَةَ القَضِمِ الكَهامِ وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ أوردت الوثيقة الدستورية في مادتها السابعة ضمن مهام الفترة الانتقالية التزاماً بإصلاح مؤسسات الدولة خلال الفترة الانتقالية بصورة تعكس استقلاليتها وقوميتها وعدالة توزيع الفرص فيها دون المساس بشروط الأهلية والكفاءة. وهذا النص يلقي على عاتق وزارة التعليم العالي عبئاً بوضع خطط واضحة لإصلاح مؤسسات التعليم العالي خلال الفترة الانتقالية، وليس تزجية وإهدار الوقت دون رؤية محددة. والفترة الانتقالية تقترب الآن من نهاية الثلث الأول، ومن الضروري إحداث التغيير المطلوب الذي يمكن مؤسسات التعليم العالي من النهوض من جديد. في تقديري أن من المفيد تشكيل لجنة على غرار اللجنة التي كونها بروفسير عبد الوهاب عبد الرحيم في عشرية الإنقاذ الأولى، للطواف على مؤسسات التعليم العالي المختلفة ودراسة أوضاعها وإمكاناتها على مستوى البنى التحتية والموارد البشرية وتقديم توصيات واقعية وعملية تجعل النهوض في التعليم العالي أمراً ممكناً. د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.