ولم يكن هذا هو حال الكيانات المدنية التي تصدرت المشهد الثوري ككتلة واحدة إبان ذروته، رغم أنه كان أكبر تجمع سياسي ومهني يضم كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي في السودان، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، مروراً بالوسط والطرق الصوفية، والحركات المسلحة. شكل في ساحة الاعتصام أعظم لوحة اجتماعية تمازجت فيها كل ألوان الطيف السودانية المتنوعة الزاهية، وتناغمت الأصوات بمختلف درجاتها الصوتية في نشيد اختصر المسافات والأزمنة في "راهن" يفتح أبوابه على المستقبل. ولم ينقضي عام على تشكيل سلطتهم السياسية حتى تفرقت القلوب أيدي سبا، وتحولت السلطة إلى عظمة يتنازعونها بالمناكب والأظافر والأسنان. والنتيجة فشل، لا يماري فيه أحد، عن إنجاز مطالب الثوار التي من أجلها أشعلوا أعظم ثورة في تاريخ السودان الحديث والمعاصر. وقد أعترف مساء الخميس الموافق 16 أبريل 2020 ، على شاشة التلفزيون القومي، كل من مانيس (عن الحكومة) والتعايشي (عن المجلس السيادي) وخالد عمر صديق يوسف (عن القوى الحاضنة المدنية)، – وهم يمثلون أضلاع مثلث السلطة المناط بهم تنفيذ هذه المهمة – بأن الثورة الشعبية العارمة التي انطلقت في ديسمبر من العام الماضي لم تبلغ غاياتها، ولم تحقق أهدافها، وأن طموح الشعب السوداني في إنجاز العدالة والسلام والحرية لم يتم. ونحمد لهم هذا الاعتراف الشجاع. (2) لم تكن الثورة مولود خَدِجٌ ولد قبل أن يكتمل نموَّه في رحم الشعب. فقد أكمل عدة الحمل وكاد أن يتجاوزها. ولم يكن ابن زواج الرهط (1)، مجهول الوالد، كي يتنازعه الآباء. فهو ابن زواج شرعي، والديه معروفان: كنداكات وفرسان قبيلة السودان الكبرى. ورغم هذا ولدت الثورة بعد معاناة وبعملية "قيصرية" قاسية. ولكنها كانت برغم قسوة آلام المخاض والولادة، سليمة البدن والجوارح، وسيمة القسمات، بل كانت أجمل المواليد. وما ضرها وأوهنها سوى التنازع والتشاكل (2) على حق تبنيها ورعايتها، مما استوجب وضعها في خيمة أوكسجين طبية "مؤقتة" ريثما يقوى عودها ويشتد. ولكنهم لم يتركوها لحالها تكمل فترة حضانتها في خيمة الأوكسجين، فأخذوا يتنازعونها ويتجاذبون كلُّ يشدها إليه. فمنهم من يرى بأنها قوية بما يكفي لتخرج وتمارس نشاطها الطبيعي ويحاول نزع أنبوب الأوكسجين لتخرج من الخيمة. ومنهم من يرى بأنها ما زالت تحتاج إلى مزيد من الرعاية، ويمنع خروجها. دعنا نحسن الظن بهؤلاء الذين يتنازعونها، وأن كل منهم لا يريد أن يكتفي بشرف نسبها إليه، وإنما أبعد من ذلك يريدها أن تكون حِكراً له، ينشئها وفق ما يرى فيه مصلحتها وصلاحها، فهذا يريد أن يذهب بها يساراً وذاك يرى أن مستقبلها مضمون إذا ذهب بها يميناً، وثالث يُعدُّ لها مساراً ثالثاً، حتى ولو كان غير واضح المعالم، ولكنه على ثقة من صلاح مساره لمستقبل الثورة. لا بأس فهذا من حق كل حادب وغيور يرى أن له نسباً في الثورة. ولكن أن "يقلعها غَصِبْ"، كل واحد منهم، وأن يستخدم التآمر والعنف والخيانة والكذب وكافة أساليب اللعب القذر والضرب تحت الحزام. أو أن يستنصر بغرباء لا علاقة لهم بها على أصحاب "الجِتة والراس"، فإنه في واقع الأمر، شاء أم لم يشيء يدعو الآخرين لأن يستخدموا نفس الوسائل والأساليب والتكتيك ضده. وماذا يتوقع الجميع بعدها غير النتيجة الحتمية: موت طفلتهم بأيديهم. تمهلوا قليلاً سادتي، فدموع الندم غداً لن تعيد لكم ما أضعتم. مصادر وهوامش (1) زواج الرهط في جاهلية العرب: أن يدخل على المرأة عدد لا يتجاوز العشرة من الرجال وتحبل، فتدعوهم وتنسب المولود لمن شاءت منهم، ولا يستطيع أن ينكر أو يرفض. (2) في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي، تشاكل الرَّجلان: تعاركا وتخاصما. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.