تروي العديد من السور القرآنية حكاية سيدنا موسى مع فرعون .. وهى ولظروف طبوغرافيا المكان قد ارتبطت بشكل وثيق بالمياه منذ ولادة كليم الله عليه السلام - والقائه في اليم - الي أن انطبق البحر بفرعون في مشهد تراجيدي يؤكد مصارع الطغاة حال الاستكبار. وقد بلغ الاستكبار بفرعون مداه الأقصى عندما استهان بموسى { أَمْ أَنَا خَيْر مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِين } ثم اردف ذلك الاستكبار بزهو يؤكد به جبروته وسلطانه { وَهَذِهِ الْأَنْهَار تَجْرِي مِنْ تَحْتِي }. وقد كانت الأنهار تجري من تحته بالفعل، فمنها استمد ذلك الجبروت لأنها واحدة من أهم مقومات القوة لأي دولة. فالمياه وهبت الحياة لمصر منذ ذلك الزمان ومازالت تفعل. تؤكد حقائق التاريخ أن المياه كانت تنساب في سريان سرمدي من أعالي الهضبة الإثيوبية، تشق سهول وبطاح السودان في جلد واناة، لتصب في ذلك الماعون الكبير ذو الماء الاجاج في أقصي شمال مصر عند الدلتا. غير أن الوضع الآن يشهد تغيراً ما دار بخلد مَن اعتلوا عرش مصر ذات يوم . وأن ذلك الدفق الحاني الذي يهب الحياة مرشحا الي نضوب. بعد أن إنتصب في ذلك المجرى كائن اسطوري ليس من ذلك النوع الذي يحمل آلاف الرؤوس، وأجنحة كُثر يثير حفيف ريشها عواصف هوجاء، انه كائن ما طاف بخيال نجيب محفوظ الخصب، ولا أستلهمه من وادي عبقر شاعر النيل حافظ إبراهيم. إنه سدٌ منيع من الحديد المسلح، والخرصانة الصماء، وأكوام من الصخور تعترض الجريان الأبدي بدوعى خلق (النهضة) لأبناء الهضبة. وعند انتصاب ذلك السد المهول أو قبله بقليل، اعترت أهل مصر مخاوف مبررة من ذلك الكائن، وتسربت الأنباء أن سلفكم قد توعد بضرب الكائن الأسطوري عسكرياً قبل أن يشب عن الطوق. وأحتفى قسم من أهل السودان بهذا الكائن لا فرحة به، ولكن نكاية بكم ... فهم يدركون أنه ما لم تجر الأنهار تحتكم فلا مجد لمصر يُرتجى، ولا حضارتها ترتقي . وأخذت فئةٌ قليلةٌ ممن حباهم الله بنعمة البصيرة وراء حجب السياسة القاتمة للنظر بعين الريبة لمخاطر محدقة ومحققة من ذلك الكائن. فأرتفعت عقيرتهم تعلن الرفض للمسخ المهول. فما أصغت لتخوفاتهم أُذن الحاكمين ، ولا يكاد يسمع لهم العامة صوتاً. فالجميع قد وضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يستمعوا لصوت عقل ولا يستنبؤوا النصح من لدن عليم أو خبير. فقد رَكْن العامةُ في السودان لأصولهم ومميزاتهم التي يمتازوا بها دون خلق الله أجمعين. فكما أن لكم أنتم - أبناء المحروسة - خصائص وسمات قومية تميزكم من سائر الناس، فهم كذلك لهم ما يميزهم. فقد عُرف عنكم أنكم أبناء (نكة) تحبون الطُرفة وتصنعون من كل موقف لطيفة، تضحكون ملء أشداقكم. وترتادون الردى بروح اقتحامية ( كجدعان) فتظهرون للعيان بأرواح محاربين اشداء تشهد لهم سوح الوغى ببطولات فذةٍ، نادرة المثال. أما القوم في السودان فهم أناس طيبون تأخذهم العاطفة كل مأخذ، تأسرهم الكلمة الطيبة والحسنة فيرسفون في قيودها في استسلام تام .. فهي عندهم (تمعط شنب الأسد ) يكظمون الغيظ ويأبون الضيم. وتسري في عروقهم " جينات" ورثوها من جدهم المك نمر تتلبسهم عندما تبلغهم المهانة. فعندهم (ركوب الرأس) أهون من شرب الماء حتي لو أوردهم موارد الهلاك. يعطون بلا حساب، وبلا خوف من فقر، ولا خشية من إملاق، لكنهم لا يرضون بما يسمونه ( الحَقّارَة) وهي الازراء بهم وسلب حقهم دون رضاهم أو دون وجه حق. يُقال في المثل العربي (إن المصائب يجمعن المصابين)... وأن ما يُوحد بين أهل مصر وأهل السودان غير خفي على من يفهمون أصول الجيواستراتجي، وذلك بشواهد كثيرة منها التاريخي ومنها المصيري، ومنها الديني ومنها اللساني ومنها التجاري ومنها الاجتماعي. غير أنكم قد ضربتم بكل تلك الحقائق عُرض الحائط، ولم تنتبهوا لهذا العمق، وغرتكم مطامع مهووسة باغتصاب منطقتى حلايب وشلاتين، استقواءً بميزان قوى متأرجح تُحسب فيه حقائق الجغرافيا كما تُحسب فيه عدة الجيوش وعتادها، وتُوضع فيه تلك المميزات الوطنية لخصال الشعوب ضمن حسابات ردة الفعل على كل فعل. لقد أدرك أهل السودان ببصيرة نافذة أنكم تحتاجون إليهم في درء مخاطر ذلك الكائن الخرافي الإثيوبي الذي سيخنق كيانكم تحت وطأة العطش، ويقوض أركان عرش كانت الماء تجري من تحته. فتنادوا مصبحين ( مالنا ومالهم) دعوهم لمصيرهم. فقد لاذوا بتلك الخصائص التي تأبى الضيم والاستحقار ، وآثروا ألا ينتصروا لأنفسهم حتى لا يتضامنوا معكم، وقد حوروا تلك الأنشودة الرائعة التي تجسد إخوة النيل نكاية فيكم فبدلوا ( مصر يا اخت بلادي يا شقيقة) ب (إثيوبيا يا اخت بلادي يا شقيقة). وهكذا قد ردوا عليكم باغتصاب حلايب وشلاتين ومحاولة تمصيرهما رغم سودانيتهما البينة. فصارت رعونة ذلك التصرف وبالاً على كلا الشعبين رغم ما يجمعهما من وشائج. فصار الفراق المؤسس على فراغ سيد الموقف. لقد كان نجاح إثيوبيا في دفعكم نحو هاوية اليأس نصفه بيدكم، إذ فرّطتم في اخوانكم باغتصاب أرضهم، ولن تجدوا فيهم سنداً أو عوناً ما دامت أرضهم مغتصبة، وما داموا يشعرون بنصل الخيانة مغروس مابين كتفيهم. نعم ربما تندفعون لحلول معقدة، وربما تجدون أنفسكم في أتون حرب لضمان وجودكم على قيد الحياة، لكنكم ستكونوا مضطرين لخوضها دون حليف أو شقيق يسند ظهركم ويشد من أزركم ، وقد بدا ذلك واضحا أمام الملأ عندما عرضتم الأمر على جامعة الدول العربية باعتبار أن السودان معكم في نفس القارب، لكنه إزورَّ عنكم ورفض رفضاً باتاً أن يجمع مصيره بمصيركم رغم واحدية ذلكم المصير. فبدا ركوب الرأس سيد موقفهم. كما بدا الطمع في أرض غيركم سيد موقفكم. د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.