تناولت فى مقال سابق لى استحالة الحل العسكري لازمة سد النهضة من جانب مصر، لأسباب تتعلق بعدم قدرة مصر عليه بالأساس، برغم كل العنتريات المصرية الجوفاء فى هذا الصدد (رابط المقال ادناه). فى هذا المقال اتناول فرية مصرية اخرى و هى "تدويل" الازمة. و لتبيان هذا الامر لابد لنا من النظر فى اصل المشكلة و طبيعتها لمحاولة فهم مظاهرها و استنتاج مآلاتها. يكمن اصل الخلل فى ان الترتيبات المائية فى نهر النيل معيبة بشكل ظالم بل و فاحش الظلم. فاتفاقية تقسيم المياه بين السودان و مصر تعطى مصر ثلاثة ارباع مياه النيل و تعطى السودان الربع، و لكن عندما يأتى الامر الى البخر الناتج عن السد العالى فإن الاتفاقية تحمل السودان نصفه! علينا ان نتذكر هنا ان السد العالى هذا اغرق النوبة السودانية و شرد اهلها و طمس تاريخهم وتراثهم للأبد ولم يفد السودان منه قطميرا! و هكذا فإنه عندما يتعلق الامر بالسودان فإن الاتفاقية سيئة الذكر هذه انما هى قسمة ضيزى بلا شك. اما فيما يتعلق بباقى دول النهر التسع، فإن مجموع ما تسمح لهم به الاتفاقية جميعاً هو صفر من الامتار المكعبة!! ليس هذا فقط، بل انها (الاتفاقية) تلزمهم بعدم اقامة اى مشروع من اى نوع على النيل الا بعد اخذ الاذن من مصر!! عليه ايها القارئ الكريم فلعلك ترى انه ان كانت هذه الترتيبات قسمة ضيزى فيما يتعلق بالسودان، فإنها فى حالة الدول التسع الاخرى (و اكثرها دول منبع) لاترقى حتى لتسميتها بالقسمة ، فلا قسمة و لا انصبة و لا حقوق، خضوع مذل فقط و ظلم شائه!! هذا باختصار هو لب المشكلة و اصلها و ما ازمة سد النهضة الا احد تجلياتها الذى ستتبعه تجليات اخرى كثيرة، و ما اتفاقية عنتيبى ببعيدة. الآن، عندما يتحدث "الخبراء" فى مصر عن تدويل ازمة سد النهضة فإنهم اما جاهلون بحقيقة المشكلة و جوهرها الظالم، او انهم مضللون و أفاكون يعتقدون انه يمكن عزل مظهر الازمة عن اصلها القبيح و تسويقها للمجتمع الدولى على هذا الاساس. الاحتمال الاخير هو فى ظنى اقرب للصحة لانه ادل على "الفهلوة" المصرية المعروفة و التى تدعو اهلها لاعتقاد الذكاء فى النفس و الغباء فى الآخرين. على اية حال، ومهما يكم من امر الخبراء و الكتاب و المدونين و غيرهم، فإننى اظن ان الدولة المصرية تدرك تماماً ماهية المشكلة و اصلها، وهذا بعينه هو ما يردعها عن تدويل الازمة، لانها تعرف ان الامر لن يتوقف عند سد النهضة، بل سيتعداه الى فتح ملف مجمل الترتيبات المائية فى النهر لتتماشى مع مبادئ الاستخدام المنصف و المعقول (و هو ما يعنى بالضرورة السماح بحصص لكل الدول المتشاطئة) وعندها لن تستطيع مصر ان تربح المرافعة، بل و ستلزم بمراجعات سوف تراها قاسية خاصة فى ظل حالة الهدر و البذخ المائى التى تعيشها. ان معرفة المجتمع الدولى بابعاد ازمة سد النهضة يشرح غياب اى استجابة للمذكرة المصرية لمجلس الامن، والتى لم تقدمها مصر اصلاً الا من باب رفع العتب الداخلى (بعد الإيعاز طبعاً للكتاب و الصحفيين بالإحتفاء بها و إظهارها على انها "شكوى" لمجلس الامن، بل و مقدمة لعمل عسكرى مجيد). ذات المعرفة تشرح عدم حماس الراعى الامريكى (الذى ايضاً تم تصويره فى الاعلام المصرى على انه "وسيط") للدفع باتجاه انفاذ الاتفاقية التى وقعتها مصر منفردة! بل ان وزير الخارجية الامريكى بومبيو صرح من اديس ابابا انهم لن يضغطوا على احد للتوقيع و ان التوصل الى اتفاق قد يستغرق شهوراً، مما يعنى ضمناً ان الاتفاق قد مات! المحصلة ان مصر لن تدول ولا تستطيع لأنه و باختصار لا قضية عادلة لها تدافع عنها او تتخذها اساساً و تبريراً لعمل عدائى (مع عدم قدرتها عليه اصلاً). اما الذين يسودون الصفحات بدعاوى ان مصر يجب ان تدول القضية او انها تأخرت فى ذلك فعليهم ان يعلموا انه لا خيار لمصر فى ذلك و لا حيلة. خلاصة ما تقدم ان على مصر ان تختار بين امرين لا ثالث لهما: اما الاصرار على تجاهل اصل المشكلة و محاولة التعامل مع نتائجها و الاستمرار فى مفاوضات عبثية تقود الى تنازلات مذلة فى كل مرة يبنى سد او ينشأ مشروع زراعى فى دول الحوض، او ان تنخرط فى نقاش جاد حول ترتيبات جديدة، عادلة ومنصفة لجميع دول الحوض تعالج اصل المشكلة و تبرز وجه مصرى آخر غير الذى عهدناه. فى هذا السياق فإن اتفاقية عنتيبى تمثل اطاراً جيداً يؤسس، ليس فقط للعدالة و الانصاف، بل للتعاون البناء الذى يقود لزيادة ايراد النهر و حصصه للجميع، فماذا ستختار مصر يا ترى؟؟ http://www.sudanile.com/index.php/%D9%85%D9%86%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/34-0-6-8-3-1-6-8/123651-%D8%A7%D9%83%D8%A7%D8%B0%D9%8A%D8%A8-%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%B1%D8%AC%D8%A8 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.