إن كان لجائحة فيروس كرونا - التي أخذت العالم على حين غرة - ثمة إيجابية ، فإنها قد اوصدت الأبواب التي كانت تُفتح مع تنفس كل صباح ليخرج بني البشر من خبائهم وموائلهم ، يبتغون الرزق في ركض لاهث لتحقيق أكبر قدر من المكاسب ، وتعظيم الفوائد في نهم متخاصم مع قوانين الكون و نواميسه. فمنذ أن أطلقت راشيل كارسون صرختها الداوية في كتابها ذلك المشهور والمنشور في 1962 والذي تنبأت فيه بحلول يوم على الإنسان تزوي فيه الحياة وتنعدم فيه مقوماتها ليسود فيه (ربيع صامت) بفعل ما كسبت يداه، ومسلسل الاستنزاف الدامي للبيئة يجري كأنه غاية في ذاته. ولعل كارسون كانت تنظر من وراء الحُجُب أن نتيجة انفلات غرائز الإنسان ستورده موارد الهلاك في استهلاكه البشع للبيئة. فقد فاقت حالة الانفلات حمولة البيئة حتى كادت موازينها تنقلب رأساً على عقب. وأنها صائرة الي محاق عبثي تستحيل معه الحياة. ولما لم يكف الإنسان عن نزواته، واستخفت به الأهواء واستبد به الطمع في جمع الثروات.. ولما لم يستمع لرسائل كارسون المحملة بالإنذار المبكر .... أعلن هذا الفيروس التاجي الصغير عن نفسه (كملك متوج ) يتسيد المشهد بعد ان تسيده الانسان، فجاء كمبعوث عناية الهية يحمل الوعيد لكبح جماح التفلت البيئي. فأوصد الأبواب على الإنسان الدّعِي. وحكم عليه بالبقاء خلف جدرانه الصماء. وفرض عليه عزلةً فصمت عُرى تواشجه الاجتماعي . فقبع في عزلته المجيدة يرقب الحياة تدب في كل عناصر البيئة، بينما أخذ هو يتاهفت للحصول على كمامة تقيه استنشاق هواء ملوث بالفيروس . وطفق ينازع لتوصيل جهاز تنفس صناعي يعيده ثانية للحياة .. فعادت السماء صافية لا يكدر صفحتها ما تخلفه الطائرات النفاثة من تلوث. وحلقت في الفضاء أسراب الطيور من كل جنس. وانداحت المياه منسربة في الأنهار والبحار والمحيطات، متطهرة مما يثقل جزيئاتها من مخلفات عضوية وصناعية، وعلى الأثر راحت الأسماك وكل الأحياء المائية تتهادى سابحة في حبور مستمدة الحياة من عذرية فُضّت ذات يوم في هجوم غشوم. واستعادت الشُجيرات على وجه الأديم طيلسانها بعد أن كادت تفقده من انبعاثات فوهات المداخن الحارقة. فضجت الأكوان بالفرحة تعلن عن تعافي تنوعها الاحيائي في غيبة الرقيب. وهكذا أسدى هذا الفيروس الصغير للبيئة واحدة من أجل الخدمات، فازدهت برونق تلتقط به انفساها ريثما يخرج ذلك المارد من خلف أبوابه الموصودة. لعل في تجربة الإغلاق ما يثير التأمل في ذكرى الاحتفاء بيوم البيئة العالمي. وأن على الإنسان أن يثوب الي أمر رشد له، يتدبر فيه التعامل مع هذه البيئة بكيفية مغايرة. أجل ربما تكون البيئة خرساء لا تقوى على النطق ، ولربما لا تستطيع أن تُعبّر عن مكنون ذاتها بشكوى تبثها من جوف يحترق من سؤ المعاملة وفرط الأنانية ، وسيادة الجشع ، لكنها مجبولة بحكم قانون خفي أن تستعيد توازنها لأنها مسيرة من لدن إرادة إله قوي جبار. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. د. محمد عبد الحميد. استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية