لماذا نتراجع في منتصف الطريق الوعر الذي يؤسس لحكم ديمقراطي أو قل هل نحن قادرون على تحمل الكلفة المرتفعة للتخلص من الاستبداد ؟ ولماذا تتوفر لدى قطاعات مقدرة من المجتمع المدني قابلية المساومة على الشمولية مقابل بعض الحريات و الاصلاحات الاقتصادية ؟ وهل المؤسسات المدنية المختلفة التي تعبر عنا مؤهلة لفهم متطلبات التغيير في بنية وعي المجتمع نحو ترسيخ الديمقراطية والمواطنة مفهوما وممارسة؟ محاولة الإجابة عن هذه الأنماط من الأسئلة تكون عبر العقل السياسي دائما ، مع أنها تقع في قلب النظام التربوي ، فالنظم التربوية الممتدة لا تشجع ، بل لم تصمم على ترسيخ روح المواطنة الديمقراطية التشاركية ، بل تركزت على التعلم واكتساب مواد معرفية محددة متفق عليها من خلال التلقين و نقل المعرفة . و في أحسن حالاتها تركز على احتياجات سوق العمل، و كأن الازدهار الاقتصادي هدف أوحد ، متجاهلة الاستقرار الاجتماعي و السياسي ، فتعظيم مفاهيم التعددية والتشاركية واحترام الآخر و مفاهيم المواطنة المتساوية و إعلاء قيم التسامح و العدل و المساواة و إعادة التعريف المستمر بالحقوق و الواجبات و الموقف من مؤسسات الدولة و التفريق بينها و بين السلطة ، كل هذا يتم اكتسابه خارج الإطار التربوي الرسمي من خلال الإعلام و الوسائل الأخرى التي تقدم المحتوى وفق مصالحها ، و بذلك تتخلى المنظومة التربوية عن إحدى غاياتها في تشكيل و بناء المهارات و القيم اللازمة لاستدامة الديمقراطية. و بالرغم من إنجاز الثورة السودانية المتمثل في إعادة رسم صورة السودان . فإن إعداد منهج التربية الوطنية بمختلف تسمياته يشكل تحديا وجوديا في عالم اليوم ، ليس الأمر محصورا في إعداد المقررات و الكتب، بل في توفير الفرص و التقنيات لتأسيس مفاهيم المواطنة من خلال الأنشطة اللاصفية داخل وخارج المدرسة ،إن تعقيد التحديات الماثلة أمامنا في قضايا الوطن يتطلب نوعا من التعليم يتضمن الابتكار في الاستراتيجيات و الممارسات التعليمية، فنحن هنا بصدد منهج تطبيقي عملي وليس مجموعة من النصوص التي يتم حفظها للحصول على درجات ... ، فالقياس هنا نوعي وليس كمي، ومعلم مادة التربية الوطنية ينهض بدور وظيفي مهم، فهو يساعد الطلاب على التعبير الواضح عن أفكارهم ويطور لديهم ملكة التفكير الناقد والتقييم والتحليل ، فضلا عن تعزيز قيم المسؤولية بنوعيها الفردية والجماعية واحترام التنوع واحترام الآخر وتقبله، هذه أدوات أساسية في مادة التربية الوطنية، لأنها ليست مجموعة معلومات أو معارف ... بل هي طريقة لبناء انتماء للوطن وللجماعة وتشكيل أساس أخلاقي يتعهد من خلاله أن يمارس هذا الانتماء عبر الالتزام بهذه القيم وأن يبشر بها. و لا نبالغ إن في القول إن مادة التربية الوطنية تمثل قيمة مضافة لمخرجات التعليم . إن الثورة السودانية تقدمت على المنظومة التعليمية القائمة التي تفتقر إلى الممارسات التعليمية التي تعزز مهارات العمل الجماعي وتقدم الفردانية كنموذج وحيد للنجاح ، على النقيض تماما في الثورة التي نجدها تأسست على الجماعية و لا يوجد موضع فيها للفردانية ، حتى المهام الفردية بنيت حول الوظيفة و ليس الشخص (مثل بمبان مان و جردل مان و رجال الترس) و أيضا القيم التكافلية من خلال نماذج كثيرة ( لو عندك خت ، لو ما عندك شيل ) ، و تراجعت هذه القيم كلما صعدنا من القاعدة رأسيا إلى أعلى و تمظهر عدم إتقان العمل الجماعي في أشد تجلياته عند القمة ، فالخلافات المتعددة بين المكونات السياسية تقدم دليلا واضحا على ضعف مهارات العمل الجماعي في النظام التعليمي ، فما هؤلاء إلا من مخرجات لهذا النظام التعليمي. لكن المبشر هنا أننا كلما نزلنا للأسفل في سلم العمر نجد الأجيال الأصغر لديها استعداد كبير للعمل ضمن مجموعة وتتراجع لديها النزعة الفردية، هذا الاستعداد يضاعف المسؤولية على واضعي مناهج التربية الوطنية لجعل مهارات العمل الجماعي والقيم المتصلة بها أحد الأهداف في المنهج، أيضا المعلم الذي يقوم بتعليم التربية الوطنية بالإضافة الى تدريبه يجب أن تتوفر فيه من السمات الشخصية ما تجعله نموذجا لتجسيد هذه القيم. هذا بافتراض أن المنهج يحوي القيم التي سبق ذكرها. ختاما أجد نفسي أكرر القول بأن الأزمات التي نعيشها ما هي إلا انعكاس للقصور في غرس قيم المواطنة من خلال النظام التعليمي، فالحرب و الظلم و الاستبداد تهزم بالمواطنة الكاملة لتصبح حرية ..سلام وعدالة. عبدالمنعم عبدالسلام أحمدفضيل -معلم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.