بسم الله الرحمن الرحيم لقد كان من تأثير الالتزام بقرار الحجر والبقاء فى البيت أن رجعت ابحث فى الكتب والمقتنيات القديمة ما يستحق القراءة أو المشاهدة . ولحسن الحظ وجدت بين الأقراص المدمجة ضمن سلسلة التاريخ الفرنسي المعاصر معنون "سنوات ميتران " عن الفترتين الرئاسيتين للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران 1981- 1995 الثرية بالأحداث المؤثرة فى تاريخ جيل كامل من الفرنسيين ودور بلادهم فى العالم . وقد دفعنى شعور ينتابى دائما عندما أقرأ تجارب الآخرين أن ابحث فيها عما يمكن أن يكون تجربة إنسانية يستفاد منها فى بلادنا رغم اختلاف الظروف . ومن هذه التأمل خرجت بالاتى : أولا : حقيقة لابد من التأكد عليها تتمثل فى عظم الاهتمام بالتوثيق لدى الفرنجة . فانك تجد كل أحداث التاريخ موثقة فى الاثار و القلاع الشامخة تجد قصر فرساى وحدائقه الغناء كما هي منذ عهد بانيه الملك الشمس لويس الرابع عشر . و الكتب القديمة والوثائق العتيقة محفوظة فى المكتبات والافلام والاقراص المدمجة متاحة لتجد التاريخ امامك كأنك تعيش احداثه وتخالط سكانه . أما اذا قارنت ذلك بما عندنا في السودان فان حالنا من الضعف والاهمال يصل الى التلاشى , لولا الذاكرة الشفهية والحكايات التى تتناقلها الافواه علي طريقة عمر والكلام حتى يصلنا وقد تغير الى قصة اخرى . ان ما يسمى " المسكوت عنه" هو واحد من التقاليد السيئة التى نتمسك بها لأغراض حماية سمعة ما ننتمى إليهم من أقارب وأصحاب وأحزاب وقبائل وجهات . ولدينا متعة خاصة فى حك الجروح والبكاء على ما نفقد من حظوظ و أشياء دون الاهتمام بإصلاح الخطأ ومعاملة الأمر كتجربة يستفاد منها . نحدث بعضنا بأسى عن أفلام لاخبار وتسجيلات لاغنائي وتراث فنى كان مسجلاً فى وحدة افلام السودان وصور فوتوغرافية نادرة كلها ضاعت بسبب الإهمال الضارب فى وزارة الاعلام . ووثائق قيمة آلت الى الاهتراء أو سرقها الجواسيس من دار الوثائق المركزية . ولا تزال تلك الدار في حالتها القديمة لم تجر تحديثها وتطويرها بالامكانيات والاجهزة الحديثة للتصوير و الحفظ وسرعة الوصول للمعلومة وضمان الرقابة من التشويه والسرقة . ونظل نتباكى على ما ضاع من مكتبة الإذاعة و الأحداث المصورة لنشرات الاخبار المناظر بالسينمات واختفاء أشرطة لمقابلات عن مواضيع هامه مع شخصيات عليمة من مكتبة التلفزيون . ونقرأ عن ضياع وسرقة أثارنا من تماثيل رموز و خراف مقدسة و أدوات حجرية ترجع بتاريخنا لازمان إنسان سنجة والعصر الحجرى وفخاريات وأهرامات ومعابد مروي القديمة فى البجراوية والنقعة والمصورات وكريمة والبركل حيث نقوش صور الكنداكات والملوك العظام ، وما خفى فى رمال الصحراء حتى الحدود الليبية والتشادية أعظم . وحتى مباني تاريخنا المعاصر فى سواكن انتهى الى أطلال لا تجد من يبكى عليها ثم ويرممها . لقد أقام ميتران فى عهده اضافة حديثة فى فناء مدخل متحف اللوفر القديم ببناء أهرام من الزجاج لم يعجب البعض فى حينه . ثم اصبح معلماً من معالم المتحف . لماذا لا نجد من يعيد صيانة أهراماتنا ومعابد أجدادنا أهل كوش ومروى وكنائس المغرة والابواب وسوبا ، وحراسة اثارنا فى مواقعها ومتاحفها . ووثائقنا فى دورها . إن الاهتمام و تعبئة الموارد لحفريات ومشرعات ترميم لهذه الثروات القومية ضرورة وأولوية فى بلد فيها مشكلة هوية وهي ثرية بتاريخ قديم ومعاصر لا يقدر بثمن . ثانيا : من تجربة فرانسوا ميتران الكبرى انه وقبيلته الاشتراكية كانوا معارضين أقوياء لمبادرة الجنرال شارل ديجول بدستور جديد لجمهورية خامسة تقوم على الجمهورية رئاسية بعد ان ضعفت الجمهورية الرابعة بتداعيات الحرب العظمى وحرب الجزائر . لم يستطيعوا إسقاط الدستور والجمهورية الجديدة لكارزمية الجنرال ديجول الذى تمكن من الفوز لوثيقته الدستورية في استفتاء عام 1958 . ولكنهم استطاعوا بقدر الامكان تعديل الوثيقة بحيث ان النسخة النهائية لها كانت أقرب الى الهجين بين الجمهوريتين الرئاسية والبرلمانية . ومن غرائب الأقدار أن ذلك المعارض ميتران هو الرئيس الوحيد فى الجمهورية الخامسة الذى حكم ولايتين متتاليتين أى 14 سنة . اذ استقال ديجول وتوفى بومبيدو وخسر جيسكار دستان الانتخابات لفترة ثانية ، وعدل شيراك الفترة الرئاسية لتكون خمس بدل سبع سنوات . لا شك أن ابتداع هذا الهجين فى النظام الرئاسي الفرنسى جاء نتيجة للحوار والمسؤولية المشتركة بين الاطراف الفاعلة فى الساحة السياسية من أحزاب حكومة وأجزاب معارضة بدون التخندق و دس المحافير الذى يصاحب إعداد مسودات الدساتير عندنا فى السودان . والان بعد ثورة ديسمبر المجيدة وانفتاح الاجواء الى الحوار الصادق لقيام نظام ديمقراطى منتج و مستدام وقادر على حماية نفسه , وليس تجارب حوار الطرشان و الوثبة فى نفس المكان والجزرة والعصا والمحاصصات التى عشناها . هناك قناعة بضرورة قيام نظام حكم ديمقراطى قادر على اتخاذ القرار وتنفيذه . وفى نفس الوقت رفضنا الدكتاتورية والتسلط الفردى وتولدت لدينا قناعة بضرورة توسيع مواعين المشاركة فى السلطة واتخاذ القرار وتفعيل المراقبة لمسيرة التنفيذ . وقد يكون الجمع بين هذه الخيارات التى تبدو متناقضة ممكن فى نظام الجمهورية الفرنسية الهجين الذي يستحق الدراسة والاثراء وفق الواقع السودانى . ثالثاً : امتاز عهد الرئيس ميتران فى فرنسا باتخاذ قرارات ناجزة وحاسمة فى مرحلة التغيير وفق البرنامج الرئاسي . ثم اصطدمت التطلعات بالواقع فلم تتردد القيادة فى إعادة النظر فى كثير من الموضوعات وتوخت المرونة في إدارة الشأن العام . وعندما قرر الناخبون سحب الأغلبية من الحزب الاشتراكى الحاكم فى الانتخابات التشريعية أسس الرئيس ميتران لنظام التعايش بدعوة صاحب الاغلبية فى البرلمان لتشكيل الحكومة . وظل الرئيس ميتران يرأس مجلس الوزراء وفق الدستور الذى يكون فيه قائد ومنسق العمل الوزارى هو الوزير الاول الذى يعمل تحت توجيهات الرئيس ويدافع عن سياسة حكومته أمام البرلمان ويكسب او يفقد ثقة البرلمان التى تجدد مصيره بأن يبقى او يذهب وذلك دون أي مساس بسلطات الرئيس . استطاع الرئيس ميتران ادارة الحكم فى جو تعقيدات التعايش التي تم تجاوزها برضاء الرئيس تمرير كل ما يتفق عليه الوزراء فى حالة انعقاد . ولقب لطافة فى ذلك الزمان بالملك . ولكنه فى الواقع احتفظ لنفسه بحق اتخاذ القرار النهائي خاصة فى مجالي السياسة الخارجية والدفاع . وتجدر الاشارة الى أن التعايش قد تكرر فى ولاية الرئيس ميتران الثانية مع الوزير الاول ادوار بالادور وكذلك فى رئاسة جاك شيراك اذ تولى الوزارة الاولى صاحب الاغلبية البرلمانية الاشتراكى ليونل جوسبان . رابعاً : كانت قضية الشفافية والحكم الرشيد من اعقد المسائل التى واجهت فترة الرئيس ميتران حتى نهاياتها . فقد واجهت حكومته قضية سفينة منظمة السلام الاخضر الناشطة فى مجال البيئة واغرقتها المخابرات الفرنسية الخارجية قرب سواحل نيوزيلاندا عام 1985 . انكر وزير الدفاع الفرنسى مسؤولية بلاده عن الحادث ثم عاد الوزير الاول واعترف به مما أحرج موقف فرنسا الدولى واضعف الحكومة داخليا . ثم جاءت قضية تسرب معلومات فى قضية عطاءات فاز بها رجل اعمال صديق للرئيس ميتران بعد رشاوي لمسؤولين . كانت النتيجة ان انتحر الوزير الاول حينذاك بيير بيريقوفوا لان اسمه ورد باعتباره مديونا لرجل الاعمال المستفيد رغم براءته من أي دور له فى عملية الفساد . والقضية الاخيرة كانت بسبب إعلان إصابته بمرض سرطان البروستاتا واتضح ان بدايات المرض قد ظهرت قبل ترشيحه للولاية الثانية دون ان يكون صريحا كما ينبغي عن حالته الصحية للناخبين مما اعتبرته الصحف التفافاً على احتمال غياب بعض الأصوات عنه . وازداد الطين بلة اعلامياً علي المريض ميتران عند ظهور مازارين وهي ابنة غير شرعية له زارته وأمها علناً فى المستشفى برغبته وهو على فراش الموت وأوصى بحضورهما جنازته بجانب زوجته الشرعية دانييل وابنيه جيلبير وجان كرستوف. وهكذا مات ميتران يوم 8 يناير 1996 واقيمت له جنازة رسمية حضرها عدد من رؤساء الدول . ولكن الصحف الجارية أصرت على تلوين صورته بالفضائح المذكورة مما وضع عراقيل امام اصحابه والحكومة الديجولية فى ذلك الوقت ان تحتفى بذكراه وتعمل على تسمية واحد من انجازاته المدنية باسمه . وبعد ان اضمحلت الاثار السلبية بفعل الزمن من الذاكرة الجمعية وافقت الدولة علي تسمية المكتبة الوطنية الحديثة التى رعى إنشاءها باسمه تخليداً لذكرى فرانسوا ميتران كواحد من صانعي تاريخ فرنسا الحديث . لقد رأينا أن نربط ذكري عهد ميتران بفرنسا باحتياجنا الراهن فى السودان لدراسة تجارب الاخرين ونحن نمهد فى هذه الفترة الانتقالية لقيام نظام ديمقراطى جديد . وكنا قد طرحنا فى مقالات سابقة أهمية العصف الذهنى المبكر وطرح الدراسات والتجارب لحوار بناء حول الديمقراطية التى نريد فى ظل حرية الرأي والتعددية الحزبية والفدرالية بهدف التوافق على نوع رئاسة الجمهورية رئاسية أم برلمانية أم هجين . وعلينا ان نختار بين الانظمة الانتخابية صوت واحد لشخص واحد في دوائر جقرافية ام قوائم نسبية . ونرى تنشيط المنابر الحزبية ومراكز البحوث الاكاديمية والقانونية لايلاء الامر ما يستحق من اهتمام للتوافق على وثيقة دستورية جامعة تبحث وتجاز فى مؤتمر دستورى قبل نهاية الفترة الانتقالية . يجب البدء فى الترتيب لذلك منذ الان حتى لا يتسرب الوقت من بين أصابعنا ، وتظل محنة بقاء السودان بلا دستور دائم التى ظلت ماثلة منذ استقلال البلاد اول يناير 1956 حتى يومنا هذا . وبالله التوفيق. الخرطوم فى 21 يونيو 2020م عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.