لن استنجد بأحد، إن فعلت، سيقولون أنني خرّفت وسيخبرون أولادي .. وهؤلاء لن يرحموني من عتابهم القاسي. إبني الكبير، بحجة عطفه عليّ، سيجد مبرراً لسوقي معه إلى المدينة، وأنا أمقت السّكنة هناك، بعيداً عن أرضي وبيتي. بيتي ...آه كيف لي أن أستدلّ عليه في هذا الظلام الدامسِ، كل ما أنا فيه استحقّهُ، ما بالي ومواعيد الرّي الظالمة ، دائما يفوتُنا ريّ الغراس لأنهم يخصّصون لقريتنا ريّا ليلياً، وولدي لا يأتي إلا نهارَ العطلة. أردت أن أفرِحهُ بما سيُدهَش به، لذلك قررت أتحدّى (سنيني) الثمانين، أتكئ على عصاي لأسقيَ الغِراسَ المجاورة لبيتي ...لكن ..قُلب رأسي بهذه الظلمة اللعينة، فقدتُ الاحساسَ بالاتجاهات ،بِتُّ أشرِّقُ وأنا مقتنعةٌ أنني بالطريقِ الصحيح غرباً ...عُدت أبحثُ بنظري الضعيف عن بصيصِ ضوءٍ يُعيدني،يالِسخريةِ القدر!! لقد تهت بأرض أعرف ذراتِ ترابها ذرّةً ذرة. أغدو وأجيء مرات ومرات ،أتتبّعُ رائحتها.. ليس لأشجارنا رائحة..؟ بل أنفي شاخَ ولم يعدْ يميّزُ حتى رائحةَ النعناع، إذن لأُصغيَ للماء قليلا . الليلُ باردٌ وقاسٍ، لكنه هادئٌ، قد يساعدْني بسماع تدفّقِ الماء الذي يُثلج صدري، نسيتُ أننِي فقدتُ الكثيرَ من سمعي، يكفيني ما سمعتُه طوال عمري ،بقيَ أن أتلمّسَ الطين ...يداي ستعرفان كيف تُسبرانِ دروبَ الطين... انفلت مني الخرطومُ الوقحُ وكاد أن يرْميَني أرضا. أُسنِدُ ظهري المحني إلى صخرةٍ ...صخرة؟! ..قضّيتُ عمري وأنا أُنقّي أرضي من الصخرِ ..إذنْ أنا لست بأرضي.. فأرضي كقطعةِ إسفنجٍ ...سهلةٌ ليّنةٌ ..كنت أقول لأولادي إفترِشوها ...هي أحنُّ عليكم من أسرّتكم...سقَى الله تلك الأيام بحُلوها ومُرها . أقسمَ يميناً معظماً ألا أبيت تلك الليلة ببيتِه، كما أسماه. أُخرُجي من هنا أيتها الغبية ..بيتُ أهلِك أوْلى بغبائك ......وكان ذلك عقاباً لي لأنني أضعتُ المِجرفة. توسٍلت إليه أن يسمحَ لي باصطحابِ إبني الرضيع، لكنه أبَى، فالغضب كان قد أوْدَى بعقله. جررتُ خَيْبتي، وانكساري، وتركتُ قلبي مع ولدي ...هَممتُ بالنزول بدربٍ يوصلني إلى أهلي ...لكن بكاءَ إبني أعادني لأدورَ حولَ صوتِه. ..يحاول إسكاتَه، يروح ويجيء به، وأنا أراقبُهُ من طاقةٍ صغيرة، يُقربُه من مصباحِ الكاز ،كي يُلهيَه عن جوعِه بمراقبة لسانِ اللّهبِ ..يمتدُّ خيالُه على الحائط كماردٍ كبيرٍ ..قلبي يُعتَصَرُ ألما عليهما ...كاد الولد أن يُغمى عليه من شِدةِ البكاءِ ..لم يعُدْ قلبي يحتملُ مددْتُ يدي من الطّاقةِ ..وصرخت صرخةً أسكتتْهُ و أجْفلَتْ زوجي . ناولْني إياه أرضعُه ثم خُذه إلى سريره .. أنت هنا ...!! قالها بصوت متهدج ...لما لم تذهبي لأهلك؟ .خشِيتُ أن يتناولوكَ بسوءٍ إذا علموا أنك طردْتني ليلا. أصيلةٌ أنت....تعاليْ أُدخلي ... معاذَ الله أن أكسِر لك يميناً ...هاتِ الولدَ أرضعْه وأباتُ ليلتي هنا ... أذكُر يومَها ..بكى زوجي بشدّةٍ ..للمرة الأولى أرى دموعَه ...كان طيّباً..وسريعَ الغضبِ لكن دموعَه عزيزة. ليلتَها..تسامَرْنا حتى الفجر ..وكانت نسائمُ الفجرِ محملةً بحبٍّ وحنانٍ ..لم ينقطعْ إلا بوفاته. لم أكن غبيّةً، كما أني لست خَرِفةً الآن،.ها أنا أذكرُ كل هذه التفاصيل،لكن توّهَني الظلامُ ..وقتَها فعل ضوءُ القمرِ فعلتَه،ورأيتُ ما أحببتُ بعينيْ زوجي، لكن، لا قمرَ ولا ضوءَ الآن..ولا عيونَ تعتذرُ ..التيارُ الكهربيُّ مقطوعٌ ..وكلُّ الأواصرِ مقطوعةٌ، وقد لا يأتي ولدي. .. بَزغتْ خيوطُ الفجر، فبانت أخْيِلةُ الأشجار من حولي، أعرفُها جيداً هذه غرسَها زوجي، وهذه غرستُها بيدي، وتلك الغِراسُ الفتيّةُ لإبني أظنُّها الآن قدِ ارتوتْ. اسْتوتْ بوْصلتي، لكن ضاعَ عكازي، رُحت أحبو ...بدأتِ الدّماء تَتخامدُ بأوردتي، جفّ حلقي، شعرتُ بالإنهاكِ وبألمٍ شديدٍ في قلبي .. غاصت قدماي ويداي في الطين ولا سبيلَ للفكاكِ منه،أسلمتُ رأسي للوحَلِ، آخرُ ما لمحتُه ..كان الدّرجَ الموصلَ إلى باحة البيت ،كان قريباً جداً ...لكنني الآن مغروسةٌ وعليّ أن أنتظرَ إلى أن تجِفّ الأرضُ كي يَقتلِعوني ..وما زلتُ أنتظرُ شمساً .. ويداً. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.