ابتلى الله السودان بفئتين من الجماعات السياسية وكان لهما دور كبير ولا تزال في معظم الأزمات التي مرت عليه . وهي الأحزاب ذات التوجه العقدي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، كلها أحزاب لا تؤمن بالتعددية ولا بحرية الرأي ، والآخر عندهم عدو يجب محاربته . من تجارب السودان الحديثة مررنا بفترات حكم فيها هؤلاء وهؤلاء مع اختلاف طول وقصر المدة ، لكن تأكد في كل الأحوال أن هناك سمات وصفات مشتركة إذا وضعنا جانبا اختلاف الفكر. فاليسار واليمين كلاهما لا يحتمل الديمقراطية ، وعندما يدخل فيها إنما يدخل مضطرا ، متحينا الفرصة للانقضاض عليها والسيطرة على الحكم وفرض أفكاره ومبادئه بالقوة . نفس الشيء ينطبق على اليمين وأمامنا تجربتان ، التجربة المايوية في فترتها الأولى ، التي سيطر عليها اليسار ، بالرغم من قصرها إلا نها لا تختلف عن تجربة اليمين في الحكم ، في فترة الإنقاذ المبادة . بنفس مفهوم الإقصاء والتمترس خلف المعتقد ، والحكم على الآخر من خلال فكره وإنتمائه . كلا التجربتين كللتا بالفشل ، وخسرا فيهما خسارة لا يمكن جبرها . بعد ثورة ديسمبر المجيدة والتي خرج فيها اليمين المتطرف مهزوما ، كان المتوقع أن يستفيد اليسار من الدفع الثوري وأخطاء اليمين المتأسلم ليصحح مساره هو ويستفيد من أخطائه الماضية ، والا يسير مغمض العينين في نفس سيرة خصمه ولكن هيهات ، فما نراه اليوم يخبرنا بأن لا أحد يتعلم من دروس وعبر التجارب التي عاشها . فالواضح ودون مواربة ما اتيح للأحزاب المناوئة للمتأسلمين ، وأقصد بهم الحزب الشيوعي والبعثي والمؤتمر السوداني ومن شايعهم من فرصة لتقديم نموذج أفضل ضاعت للأسف بسبب سيطرة فئة ذات أطر بالية ومفاهيم قديمة على هذه الأحزاب ، نفس الفكر الذي لم يتطور ولم يستفيد من تجاربه السابقة ولا من تجارب خصمه . للأسف الشديد ظلوا يستخدمون نفس التكتيكات القديمة لتنفيذ نفس الاستراتيحيات البالية ، التي لم تثبت نجاحا في الماضي وقطعا فاشلة في الحاضر والمستقبل . الحزب الشيوعي كمثال هو في الحكومة فعلا ويتظاهر بأنه خارجها بنفس منهج الصادق المهدي ولا أعرف مَن نقل مِن مَن ؟ والمضحك أنك ما إن تنتقد الحكومة إلا وتجدهم قد نسوا تكتيكم هذا وتصدوا لك في عنف وقوة ! مهما كان رأيك سديدا ، وما أن تمتدحها إلا وتجد الراحة بادية على وجوههم . وما سبق المليونية الأخيرة يعطيك مثالا واقعيا على غفلة هؤلاء ، فهم مع المليونية ، وضدها ، ومع الحكومة وضدها ، اختلطت عليهم الأوراق تماما . فهم يريدون كسب الشارع بالوقوف معه ضد الحكومة الفاشلة وفي نفس الوقت لا يمكنهم ذلك صراحة لأنهم هم الحكومة فيلجأون إلى محاولة السيطرة على المليونية تارة ، وبتخويف الناس من عودة الكيزان بالانقلاب وبث الشائعات عن انقلاب مزعوم . لا أدري إلى متي يتذاكى هؤلاء على هذا الشعب ، وإلى متي يظل الفكر السياسي السوداني يمينا ويسارا في مرحلة الطفولة ، ولا يتطور ويلحق بركاب الثورة فالواقع السياسي الراهن يحتاج لثورة داخل هذه الأحزاب يبدأ من تغيير أسمائها وصولا إلى تغيير أهدافها وطريقة عملها ، تغييرا في الثوابت البالية والفروع الرخوة . ما معني وجود حزب شيوعي بنفس مسماه القديم الذي انتهى في بلده نفسها ؟ ونفس الشيء ينطبق على البعث الذي أصبح لا وجود له في العراق نفسه ؟ وما معني وجود طائفة حاضنة لأكبر حزبين في البلاد في زمن التكنلوجيا وتطور العلم ؟ ليضطر الصادق المهدي للاجتهاد المخل في حديثه عن المهدية بمفهوم جده الإمام بعد أن عفا عليه الزمن . وكذلك حزب "مولانا" المرغني ، أناس يعيشون كلهم في مفاهيم القرن الثامن عشر والتاسع عشر ولم يدخلوا حتى الآن في القرن العشرين ناهيك عن القرن الواحد وعشرين . يقولون لو أنك لا تتقدم ولا تتطور فلن يكتب لك البقاء وهذه الأحزاب إن لم تتطور وتتقدم فسوف يحيق بها الفشل المؤكد في الانتخابات القادمة ، هذا إذا لم يتقدم مغامر ما وينصب نفسه حاكما بقوة السلاح لنكتشف أن وراءه يختبئ واحد من هذه الأحزاب الفاشلة ، تماما كمايو التي كان خلفها اليسار والانقاذ التي كان خلفها اليمين . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.