أولاً شكرا للإدارة لقبولها انضمامي لهذه المجموعة الخيرة "مجموعة أصدقاء ومحبي هشام بشير عثمان" ويا ليت كان هو معنا... ثانياً حزنت كما لم أحزن من قبل حين سماعي الخبر الشوم.. رحيل صديقي وزميلي في وادي سيدنا والجامعة وكلية الاقتصاد وداخلية الجامعة وأخيرا فى مجال العمل. هشام بشير عثمان الذي كان يقول لي مبتسماً "مسكا آقنا يا بربري" كلما قابلني، وأنا الذي كنت أقابله آنذاك عشرات المرات فى اليوم الواحد.. هي كلمات تقال للتحية بلغة النوبيين وترجمتها "طبت حالاً". والغريب أن نطقه كان صحيحاً بل كان ينطقها أحسن من الناطقين بغير اللغة العربية. كانت مداعبة جميلة من شخص جميل كنت احبه واقدره واسعد برؤيته وأكثر بتحيته هذه. منذ أن رأيت هشام كنت معجباً بشخصيته عموماً وبلهجته الجعلية الأصلية الضاربة فى القدم ربما كانت متداولة عند الأشراف فى مملكة الملك إبراهيم جعل أو هكذا أحسب. كانت لهجته فيها نبرة أبوية حين يقول لي "تعال هنى يا جنا" وأنا نديده إن لم أكن أكبر منه سناً لكن كانت هذه هى طريقته وهذا هو شعوره الأبوي تجاه كل أصدقائه وزملائه. هشام عرفته فى مدرسة وادي سيدنا الثانوية العريقة حين إلتحقنا بها كدفعة قادمة من المدارس المتوسطة من إقليم المديرية الشمالية وإن تباعدت المسافات بيننا. هو قادم من منطقة المتمة وأنا قادم من أقصى شمال الوادي من منطقة وادي حلفا . لكن كان هذا هو نظام القبول والتوزيع على الثانويات القليلة العدد آنذاك وربما كان لهدف نبيل لا يقل عن أهداف التعليم قصد به الإنجليز خلق بوتقة لإنصهار كل الجنسيات والقبائل المختلفة فى هذه المدرسة وقد كان. وكان هذا هو الحال فى كل المدارس الثانوية حنتوب وخورطقت وبورتسودان وعطبرة إلخ... وسبحان الله من أول أيامنا فى وادي سيدنا راق قلبي للأخ هشام وعدد من أبناء منطقته أذكرهم بالإسم إبراهيم الخواض وعبد الله حاج حمد (زيتون) وأبوالحسن الحاج أبوالحسن وصاروا أصدقاء لي منذ الأيام الأولى في وادي سيدنا.. كل واحد منهم كانت له ميزة حسنة خاصة تجعله عالَماً بذاته.. هشام كان رجلاً سياساَ ورجل قيادة من يومه، إبراهيم الخواض كان لاعب كرة قدم من الطراز الأول وقد جمعتنا هذه الكرة، زيتون كان شاباً رياضياً عاماً يمارس كل ضروب الرياضة بإتقان شديد وفى كل الأوقات ساعده طوله ورشاقة جسمه فى ذلك. أما أبو الحسن فكان فاكهة المجموعة .. كان شخصاً جاداً وفكِهاً فى نفس الوقت. أعود إلى هشام الذي كان شخصاً ذكيا بالفطرة.. لم أره يوماً ممسكا بقلم أو ورقة بعد انتهاء اليوم الدراسي...كان ينشغل بأشياء أخرى غير الدراسة والمذاكرة.. سياسة لعب جدل ونسة. وفى امتحان الشهادة أحرز الدرجة الأولى متفوقا على أقرانه والتحق بكلية الاقتصاد جامعة الخرطوم.. وفى الجامعة، التي كان يطلق عليها "جميلة ومستحيلة" لصعوبتها، سار بنفس نمط وادي سيدنا بل منشغلاً أكثر بأجواء المدينة الصاخبة وأجواء الجامعة وأنشطتها الكثيرة.. اللعب والميادين والمعارك السياسية فى قهوة النشاط وفي النادي والسينما والحزب وهلمجرا.... المرات القليلة التي كان يذهب فيها للمكتبة كانت لزيارة الزملاء الكبكابين أو ليكحله زملاؤه المشفقون عليه من رواد مكتبة كلية الاقتصاد...كان يسخر من طريقتهم لتجويد العلم وهو الساخر اذا اراد...كل شئ عنده كان سهلا لثقته بنفسه وفي قدراته ولذلك اكمل الجامعة بدون تأخير بل وأحرز نتيجة باهرة عند التخرج منها. افترقنا هناك في عام 1972 وللأسف لم التقيه فى الحياة العملية إلا لماما فقد عملت لفترة قصيرة فى السودان واغتربت منذ عام 1979 والتحق هو كمفتش ببنك السودان وسافر إلى الخارج هولندا وإنجلترا للدراسات العليا وعاد ليواصل عمله فى بنك السودان لفترة ثم ترك ليجرب العمل الحر وظل يكافح ويناضل فى ارض الوطن متمسكاً بترابه لكنه رغم البعد بقى في بالي ذكريات من ماض جميل. بعد سنوات طويلة علمت من شقيقي الأصغر د. خالد الذى كان بالصدفة على علاقة تجارية به انه التحق موظفاً أو مشاركاً فى مجال التأمين مع إحدى الشركات....فزرته مرة هناك في مكتبه فى قلب الخرطوم وكالعادة "مسكا آقنا يا بربري" والونسة والسعال عن الاحوال العامة وعن اصدقاء أو شلة الأنس في وادي سيدنا من أبناء ديار جعل المتمة وشندى وكبوشية وكلى وقندتو والمسيكتاب والهوبجي وحجر العسل إلخ... اذكر بعضهم ابو الحسن الحاج ابو الحسن وفاروق بلى و ابراهيم الخواض وعبدالله حاج حمد (زيتون) وسيف الدولة محمد الحسن وعبد الكريم فضل المولى وعلى جني وعبد الرؤوف عثمان وطارق ميرغني وصلاح حسن ابو صالح وهاشم قسم السيد وابراهيم المحجوب ومحمد عبدالله وعبدالله التجاني الاغبش وبشير مصطفى وابو الجوخ والباشاب وآخرون كثر.. كانت لقاءاتنا متباعدة عندما أزور الخرطوم فى الاجازة السنوية...لكن كانت تصلني بعض اخباره عن طريق شقيقي د. خالد إلى أن جاءني، ذات مساء موحش، خبر رحيله المحزن من زوجة شقيقى خالد فكدت لا اصدق الخبر، فإتصلت بشقيقى خالد الذى أكد لى خبر وفاته إثر علة مفاجئة لم تدم طويلاً.. وكان خالد قد تردد فى أن يبلغنى خبر الشوم خوفاً علىّ من قع النبأ المفاجىء. وقد تزامن خبره المحزن مع خبر رحيل عدد من الأصدقاء والزملاء وأفراد من الأهل فى ذات الفترة فظننت أن القيامة قد أوشكت وما فيروس كرونا إلا هو علامة من علامات القيامة التى لم تذكر صراحة لكن هناك علامة كثرة الموت والابتلاءات....حزنت كثيرا لرحيل هشام وكأني رأيته بالأمس...وفى الواقع كنت لا اراه كثيرا بعد تخرجنا لظروف المعيشة والحياة التى فرقت الأهل والأحباب أيدي سبأ.. لكن تبقى بيننا ذكريات الصبا والشباب وهي فترة ثرة و لا تنمحي من الذاكرة لأنك تجد نفسك في هؤلاء الأصدقاء، أصدقاء الصبا والشباب..حزنت اكثر لفراقه وانا أجتر ذكرى آخر لقاء بيننا فى مكتبه الأخير فى التأمين وهو يصرّ على أن نلتقي قبل سفري في غداء.. فكنت اقول له دعك من عزومة المراكبية هذه لأثير حفيظته وأسمع كلماته المنتقاة فى ذمّ كل النوبيين بلهجته الجعلية الأصيلة وأنا أدري يقيناً أنه أبو الكرم والرجولة والحب وما كلماته فى الذمّ إلا باطنها مدح.. وسافرت دون أن أودعه على أن نلتقي في الاجازة التالية اذا أمد الله فى الأيام... لكنه فارقنا مسرعا دون وداعٍ ليلتقي بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. تتجدد الأحزان كثيراً في الحياة ففي نهايات شهر فبراير عام 2019 رحلت السيدة الفضلى زوجة الأخ هشام عن دنيانا وتزامن فى نفس يوم رحيلها وفاة الفضلى زوجة شقيقي الذى يصغرني أمين، رحم الله السيدتين رحمة واسعة، فعشت أحزاناً مضاعفة فى تلك الفترة من العام الماضي.. وها قد تجددت نفس الأحزان الآن برحيل هشام بعد أقل من عام ونصف منذ رحيل شريكة حياته. هشام.... كان شخصية فذة... ذكي ولماح كريم ابن كريم.. شجاع قيادي من الطراز الأول.. يملك ناصية الحكمة والشخصية القوية... صارما عند الصرامة وحنينا تهزه بكية الطفل الرضيع.. أبيُّ النفس.. نزيه عفيف اليد واللسان.. متحدث لبق... ديدنه الصراحة والشفافية لا ينِمُّ ولا يغتاب...يقول ما يجيش بصدره فى وجهك....لا يخاف لومة لائم...جعلي قلبه حار وغيور.. كان ضو القبيلة وحامي العشيرة... يدافع عن الحق والمظلوم... توفرت فيه كل متطلبات القيادة من الرؤيا والأهداف والمنطق وأصبح علماً وقائداً فى حزبه. وللحقيقة لا أجد الكلمات لأصف لكم ذلك الإنسان النبيل. وهو الذى اكتسب وُد الناس وحبهم بلا حدود، فكان فقده كبيراً ومجلجلاً فقد افل نجم ساطع بل اختفى البدر من السماء فأظلمت الدنيا من بعده... وما هذه المجموعة الخيرة التي التقت إسفيرياً دون سابق معرفة إلا نتاج طبيعي لحب الناس لهشام ولعلاقاته الحميمية الواسعة الممتدة داخل الوطن وخارجه. لا نملك فى ايدينا ما نقدمه لهشام مقابل عطائه اللامحدود إلا أن نرفع اكفنا إلى السماء إلى الخالق الرحمن الرحيم ان يرحم اخانا هشام ويغفر ذنوبه ويقدمه إلى جنات عرضها السموات والأرض جزاءً لعطائه وإحسانه واخلاقه وسبحانه العالم ببواطن الامور وما تخفيه الصدور...فنم قرير العين اخي هشام فقد عملت و احسنت العمل وتركت وراءك رجالاً يهدون الجبال وهم انشاء الله خير خلف لخير سلف.. دعواتنا بحسن العزاء والسكينة لأبنائه وبناته وأحفاده وأسرته الصغيرة والكبيرة فى الخرطوم والمتمة وشندي وفى كل مكان.... اما قبيلة أصدقائه وزملائه واحبائه المحزونين فصبرا جميلا فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا جليلا لصبركم وتعاضدكم حين فقدنا الرجل القامة هشام بشير عثمان... انا لله وانا اليه راجعون... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. شوقى ابوالريش .... صديق وزميل 17 يونيو2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.