في العديد من الدول التي تعاني خللا اقتصادياً ومالياً هيكليا ، يتهرب السياسيون والحكام من تحمل المسؤولية ودفع فاتورة الإصلاح ، والسياسات التقشفية، كونها تخصم من رصيد من يطبقها عند الجماهير، وغالباً ما تقضي على مستقبله السياسي، فيتجنب تطبيقها حتى الحكام المستبدين، حذراً من تداعياتها. في السودان، لم نكن نتوقع من رئيس الوزراء الانتقالي، وهؤلاء الإخوة من حكام اليوم معارضي العهد القديم، الإحجام عن تطبيق حزمة الإصلاح، لا سيما أن سرطان التضخم بسبب طباعة العملة الذي يعاني منه السودان سيؤدي لوفاة المريض عاجلاً أم آجلا، ولن تزيده المماطلة وأحابيل عقد المؤتمر الاقتصادي إلا وجعاً وعذاباً، وليس أمام أي طبيب يتمتع بأي قدر من الأمانة العلمية والشرف المهني، إلا الإسراع بالعلاج الجراحي أو الكيماوي. رفع الدعم عن الوقود والخبز والكهرباء وتحرير سعر صرف الجنيه والاستغناء عن كثير من موظفي الدولة المدنيين والعسكريين وخفض المصروفات الحكومية غير التنموية للحد الأدنى، ليس تخلياً عن الشعب والبؤساء والمسحوقين، لكنه قدر محتوم تفرضه حقيقة أن الدولة مفلسة ولا تملك ما تدعم به المواطنين، كما يعني من منظور التخصيص الأمثل للموارد، وهو من أسمى غايات علم الاقتصاد، تحويل موارد المجتمع والدولة من تمويل استهلاك الخبز والوقود إلى مشروعات إنتاجية في القطاعين الزراعي الحيواني والصناعي، وما يلزم من ترقيعات إسعافية في البنية التحتية لتسهيل عمليات الإنتاج والتصدير. إن تطبيق أي نموذج لدولة الرعاية الاجتماعية يحتاج أولاً لوجود أموال ، أي موارد حقيقية للحكومة، كي تستطيع أن تدعم المواطن دعماً حقيقياً قائماً على أساس مالي سليم ومتين، وليس دعماً كاذباً خاطئاً يدمر حاضر الإنسان ومستقبله بالغلاء وانهيار الاقتصاد والقوة الشرائية للعملة والدخل الحقيقي للأفراد، وبذلك لا تكون حزمة الإصلاح التي ندعو لها، بيعاً للشعب في سوق الرأسمالية الدولية والماسونية العالمية، كما يزعم بعض الإخوة بدوغمائية عجيبة، وكل ما في الأمر أنها إجراءات حتمية مؤقتة ستمتد بضع سنوات حتى يزيد دخل المجتمع والحكومة وتستطيع حينها تقديم دعم حقيقي للمحتاجين من المواطنين. إننا لا نملك رفاهية الدخول في جدل بيزنطي ومزايدات سياسية ومماحكات لا طائل منها تزعم وجود خيارات أخرى غير رفع الدعم وتحويل مخصصاته لتمويل مشروعات زراعية وصناعية وترقيع البنية التحتية المتهالكة،، وليعلم العامة والخاصة، أن الحكومة مفلسة تماماً، ولا تكفي إيراداتها لدفع رواتب موظفيها ومصروفاتها التشغيلية الأخرى، ناهيك عن استيراد القمح والوقود، ولابد أن تكف عن دعم هذه السلع، كي تبدأ مسيرة الإصلاح والبناء الحقيقي للاقتصاد السوداني الجديد. من المؤسف أن أطرفاً سياسية يفترض أنها تكوينات حداثية مستنيرة، كنا نحسبها على شيء من الرشد والإلتزام بالمنهج العلمي، إذا بها تنحدر إلى مواقف دعائية ودوغمائية وشعبوية غير مسؤولة، تتخبط في كهوف مظلمة لفكر اجتماعي واقتصادي "مقدس" تجاوزته التجربة الإنسانية الموضوعية الصلبة ونبذه التاريخ، ومن سخرية القدر، أن جهة كنا نرجح أنها حبيسة مرجعيات فكرية وتاريخية وسياسية ظلامية خرافية، تعلن عن موقف يتسم بالعقلانية والحكمة والمسؤولية البالغة، يدعم الإصلاح على أساس علمي، إذ أن أكبر زعيم سياسي في السودان وفق نتائج آخر انتخابات حقيقية، أعلن ضمنيا قبوله بخيارات الإصلاح الاقتصادي في معرض دفاعه عن وزير المالية السابق المحسوب عليه. إن الأماني والخطابات السياسية الشعبوية غير المسؤولة لن تحل المشكلة الاقتصادية، ولا يمكن أن نطالب بإيقاف طباعة العملة لاستيراد المواد الأساسية المدعومة، فيرد الشعبويون بأن الدول التي طبقت شروط صندوق النقد قد أدركها الخراب، فما لهذا وذاك، وهل يأمرنا بإيقاف طباعة العملة العقل والمنطق والعلم أم يأمرنا بذلك الصندوق؟ ثمن العناد والهروب من دفع فاتورة الإصلاح، والإصرار على السياسات المالية الحالية، سيكون باهظاً ومدمراً، على شكل تضخم وانهيار متواصل لقيمة الجنيه ومستوى دخل المواطن. مؤقتاً، قد تنجح مناورات الهروب من دفع فاتورة الإصلاح الاقتصادي في تجميل وجوه القوى السياسية والأطراف المشاركة في معادلة الحكم الحالية ، لكنها بالتأكيد لن تحقق نموا حقيقياً في الناتج المحلي الاجمالي، ولن تزيد متوسط دخل الفرد، ولا إجمالي الصادرات، ولن تخفض معدلات التضخم المجنونة التي باتت تحلق في مستوى من 3 أرقام. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.