عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في أجزاء المقالة السابقة شرحنا الأساس الدستوري الذي وضعته الوثيقة الدستورية لمكافحة الفساد، ومن ثم استعرضنا بعض ما اشتمل عليه [قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م وإزالة التمكين لسنة 2019م] في نسخته الأولى بتاريخ 29/11/2019م، وأيضاً التعديل اللاحق لهذا القانون الذي نُشر بتاريخ 30/04/2020م ثم مضينا في استعراض ما رأينا أنه يُبيّن الفرق بين معالجة موضوع الفساد بشمول وهو الأمر الصحيح الواجب العمل به أو بالتجزئة وهو ما يجري الآن، وبينا ضرورات وجوب الإسراع في تشكيل مفوضية لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة لوضع استراتيجية وطنية وآليات لمحاربة الفساد ذات أولويات مدروسة ومؤسسة على أسس منهجية واضحة. لقد ظننا وليس كل الظن إثم، أن أجزاء المقالة السابقة كافية لتبيان وجهة النظر التي نتبناها، إلا أن الأحداث ما فتأت تتجدد لتجعلنا نعيد الكتابة في هذا الموضوع الذي يبدو أننا لن نبارحه حتى يقول البعض وددنا لو أنه يصمت!!! حفلت وسائل الإعلام العالمية صبيحة يوم الخامس عشر من شهر يوليو الجاري بنبأ القرار الصادر عن the Department of the Treasury's Office of Foreign Assets Control (OFAC) مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (الأوفاك) التابع لوزارة الخزانة الأمريكية الذي قضى بإجراءات وعقوبات إضافية تجاه رجل الأعمال الروسي [يفقيني بريجوزين / Yevgeniy Prigozhin] الخاضع أصلاً لعقوبات منذ العام 2016م، وقد طالت العقوبات الجديدة شركات وأصول ومعاملات تخص رجل الأعمال المذكور في ثلاث أماكن هي على التوالي: السودان، هونكونج، وتايلاند! وقد استند القرار في حيثياته المنشورة إلى أن من ضمن أسباب هذه العقوبات ما يعود إلى أن مجموعة من العمليات الدولية قادها الرجل – عبر الكيانات التي يملكها – هدفت لقمع ثورة الشعب السوداني، و العمل على تشويه سمعة قيادات الثورة والمعارضة السودانية بصورة ممنهجة و السعي لإفشال تظاهراته التي انطلقت في ديسمبر 2019م للانعتاق من قبض النظام البائد الفاسد أملاً في بناء نظام ديمقراطي في السودان،. قرارات الحكومة الأمريكية استندت إلى حيثيات تقول أن [يفقيني بريجوزين / Yevgeniy Prigozhin] وهو رجل أعمال روسي تلاحقه السلطات الأمريكية منذ أكثر من خمسة أعوام وصدرت في حقه عقوبات عديدة، لديه شبكة أعمال قامت بتواطؤ ممنهج مع نظام البشير وخلال الثلاثين عاماً الماضية باستغلال ثروات السودان وموارده الطبيعية المختلفة في التكسب الشخصي ومن ثم توظيف واستغلال هذه الثروات في أعماله وانشطته الأخرى حول العالم ، وقد صرح وزير الخزانة الأمريكي في ذات اليوم المذكور آنفاً أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ملتزمة بمحاسبة رجل الأعمال الروسي المذكور وكل الفاعلين الفاسدين وأن السودان والدول المتضررة لها كامل الحرية في اتخاذ ما تراه من إجراءات ضده. ليس هذا هو الخبر – كما يقول أهل الصحافة – وإنما الخبر أنه حتى لحظة كتابتي هذا المقال بعد مضي أكثر من ثلاثة أيام على نشر القرار الأمريكي لم يصدر من الجهات الرسمية السودانية: رئاسة الوزراء، وزارة الخارجية، وزارة العدل، وزارة المالية، وزارة الطاقة والتعدين، بنك السودان ...أو لجنة تفكيك التمكين أي تصريح في هذا الخصوص، ولو على شاكلة أننا – من نمثل - شعب السودان (المنهوب) سوف ندرس القرارات الأمريكية ونوضح الإجراءات التي سوف تتخذها الجهات المعنية في شأن الادعاءات التي تضمنتها حيثيات قرار الأوفاك ، وبالطبع لم أطمع في أن أسمع قرارات فورية بتجميد أصول وشركات رجل الأعمال المذكور في السودان ووضعها قيد المراجعة والتدقيق والتحقيق ! هذا أمر يبدو بعيد المنال حتى الآن! إن ما رشح حتى الآن في الأخبار مما تنعقد له مجالس الوزراء ويناقش بجدية ويخرج المسئولين للتصريح بشأنه بكل شفافية، ولو كان هنالك مجلس تشريعي لعقد جلسة خاصة وأخضعت الكثيرين للمسائلة، ولو أن الأمور تُدار بشفافية لانعقد مجلس الأمن الوطني بحضور رؤساء الأحزاب وتم تمليكهم الحقائق حول هذا الموضوع بدلاً من تسقط الأخبار الصادرة من مسئولين أجانب في وسائل الإعلام، والأنكى والأمر أن تتخذ دول أجنبية قرارات تتعلق بأصول موجودة داخل السودان قبل أن تتخذ حكومة السودان قرارات بشأن هذه الأصول ومالكيها !!!! رجل الأعمال الروسي المذكور هو ممول شركة the Internet Research Agency (IRA) وهي الشركة المتهمة بأنها وراء الحملات التي انتظمت وسائل التواصل الاجتماعي في العام 2015 م للتأثير على الانتخابات الأمريكية وإفسادها عبر العمليات الممنهجة للتدخل في تشكيل الرأي العام وعملية اتخاذ القرار المعروفة اصطلاحاً باسم Troll Farm أو Troll Factory، وهي نفس العمليات التي استخدمها رجل الأعمال المذكور عبر شركاته في محاولة التأثير على الأنشطة السلمية للمعارضة والثوار السودانيين وعمليات اغتيال الشخصية الممنهج لقيادات ورموز المعارضة السودانية التي انتظمت منذ بداية الحراك في العام 2018م حتى بلوغ ذروته في العام 2019م ويظل السؤال المحوري هل توقفت هذه الأعمال ؟ أم أن هذا النشاط الاستخباراتي المرتبط بالفساد الاقتصادي والسياسي مازال مستمراً حتى الآن ويعمل على تخريب الفترة الانتقالية وزرع الفتن بين مكونات الشعب السوداني الاجتماعية والسياسية؟ وهل ما زال الرجل عبر واجهاته مستمراً في نهب الثروات الطبيعية السودانية؟ . إضافة لما سبق فق جاء في حيثيات القرار الأمريكي أن رجل الأعمال الروسي [يفقيني بريجوزين / Yevgeniy Prigozhin] هو الممول الرئيس للشركة العسكرية Private Military Company (PMC) المعروفة بإسم Wagner (فاغنر/واغنر) والتي تقوم بأعمال بالوكالة لوزارة الدفاع الروسية في كل من أوكرانيا وسوريا والسودان وليبيا!!! وأن الشركة المذكورة لها يد طولى في الصراعات والنزاعات المسلحة والقتلى والضحايا من المدنيين وعدم الاستقرار في الدول المذكورة. هذا يقودنا لما يدور في داخل السودان وفي الدول المجاورة شمالاً وشرقاً وغرباً من نزاعات سياسية وصراعات مسلحة على الموارد الطبيعية ما يجعل الأمر يتجاوز مسألة الفساد إلى المصالح العليا للسودان. كان من الضروري سرد التفاصيل السابقة حتى يسهل على القارئ الربط بينها وبين قضية محاربة الفساد في السودان، إذ يتعين على حكومة الفترة الانتقالية السودانية توضيح الآلية التي مُنح بها رجل الأعمال الروسي المذكور صلاحية التنقيب عن الذهب وغيره من الثروات الطبيعية في السودان في العه البائد، وتبيان حجم أعماله ومدى التزامه بالقوانين السودانية، وماهي التسهيلات الممنوحة له ولشركاته والعاملين فيها، وهل يتم التفتيش عليها بانتظام من الجهات الرقابية السودانية ذات الصلة، وتحديد الجهات الداخلية المشاركة له سواءً كانت تتبع للحكومة نفسها أم أفراد خواص طبيعيين أو اعتباريين، وعلى أجهزة الحكومة الانتقالية أن تعلن بشفافية وعلى الملأ الدور الذي لعبه رجل الأعمال الروسي المذكور وسعيه في تخريب وإجهاض الثورة السودانية ومدى علم الأجهزة الأمنية والمخابراتية بما يقوم به وماهي الإجراءات التي اتخذت ضده منذ أن خلع الشعب السوداني البشير وزمرته، وهل النائب العام والحقوقيين السودانيين قاموا بتتبع هذا الخيط والتحقق من كافة التفاصيل التي تشير إلى تورط رجل الأعمال الروسي المذكور وشركاته في أعمال هدفت لقمع وإجهاض الثورة وفض التظاهرات، وعمليات الاغتيال المعنوي لقيادات المعارضة ورموز الثورة السودانية، والحملات الممنهجة ضد الثوار في وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل هنالك أي مساع من النائب العام ووزارة العدل والحقوقيين السودانيين لضم رجل الأعمال الروسي المذكور وشركاته وكافة الواجهات التي يعمل من خلالها كمتهمين في كافة القضايا ذات الصلة المرفوعة ضد النظام السابق والطلب من الجهات الحكومية تجميد أصولهم داخل السودان ضماناً لتعويضات يجب أن تعود للدولة السودانية ولكافة أهالي شهداء وضحايا ثورة ديسمبر وغيرهم ممن كانوا هدفاً للأنشطة التخريبية التي قام بها عبر شركاته وواجهاته، أم إن الدم السوداني ليس ثميناً كما دماء من دفعنا لهم التعويضات من شعوب العالم!. هذا الحديث يتصل والأثر السالب للفساد على علاقاتنا الإقليمية وتأثيرنا وتأثرنا بما يجري في دول الجوار من نزاعات مسلحة مهددة للأمن القومي السوداني، ويتصل للعجب بكون السودان بطرف خفيقد يكون ممولاً لهذه الأعمال المشبوهة التي تستهدف الثروات الطبيعية ليس داخله فقط وإنما في كامل دول الإقليم. لقد جاء في حيثيات القرار الأمريكي أسماء الشركات العاملة في السودان التابعة لرجل الأعمال الروسي [يفقيني بريجوزين / Yevgeniy Prigozhin] وهي جزء من شبكة الأعمال والمصالح المرتبطة به المنتشرة في عدة دول حول العالم وقد شرح القرار المعاملات وآليات غسيل الأموال التي تتم عبرها. هذه الشركات – العاملة في السودان – منها شركة M Invest وهي الشركة التي – وفق القرار الأمريكي – متورطة مباشرة في أنشطة تخريب الثورة التي تحدثنا عنها بتفصيل أعلاه، وهذه الشركة تحوز على امتياز تنقيب عن الذهب في السودان وقد أنشأت من أجله شركة أخرى تابعة للقيام بالعمليات على الأرض تسمى "ميروقولد" Meroe Gold وقد أوردت حيثيات قرار الحكومة الأمريكية أسماء المدراء الروس لهذه الشركات في السودان. إن البنية القانونية المعقدة للشركة الأم والشركات التابعة والشركات الشقيقة والشركات المسهلة التي أشارت لها وأوردتها حيثيات القرار الأمريكي داخل وخارج السودان وفي ولايات قانونية مختلفة عابرة لعدة قارات توضح أن الفساد في السودان أخذ طابع الفعل المُنظم والمُخطط والمُرتب Scheme الذي يحتاج تتبعه ومحاربته لآليات بذات القوة والقدرة، هذا الأمر يجعلنا نواصل الطرق على ضرورة الإسراع في إنشاء مفوضية محاربة الفساد وتعزيز النزاهة، والعمل على تكوين آلية وطنية تعمل بالتوازي مع لجنة تفكيك التمكين يكون هدفها تتبع الأموال السودانية ومعاملات الفساد ذات الصلة التي تنشأ في الداخل وتتفرع في الخارج، وضرورة إيجاد استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد وتعزيز النزاهة تستوعب تعقيد منظومة الفساد وأثرها على كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلاقات الخارجية والمنظومة العدلية وأسس منح امتيازات استغلال الموارد الطبيعية وتأسيس الشركات وحركة رأس المال الوطني والأجنبي وعلاقة كل ذلك بتعامل العالم معنا وعلاقة ذلك بسيف العقوبات الدولية المسلط على رقاب شعبنا بأكمله، وبالإضافة لذلك تضع الأولويات التي تتم بها محاربة الفساد وفق المصالح الوطنية العليا. إن التأخير في هذه الإجراءات يعني طمس الأدلة وضياع الأموال والأصول عبر عمليات الغسيل التي تتم على قدم وساق لإخفاء حقوق الشعب السوداني المنهوبة، خصوصاً وأن ما كشف عنه القرار الأمريكي يوضح بجلاء أن دورة الفساد تغذي نفسها وتغذي أنشطة تستهدف الشعب السوداني وتطلعاته في وطن ديمقراطي يسوده حكم القانون ، كما أن هذه الأنشطة ذات تأثير مباشر في تخريب علاقات السودان الإقليمية والدولية وتعمل على جره إلى صراع المحاور والمصالح المتقاطعة والمتضاربة، وأن أموال الفساد وأنشطته ليست ذات خطر على الحكومة الانتقالية فقط وإنما تهدد أي مستقبل للديمقراطية وحكم القانون في السودان.