دبابيس ودالشريف    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    شرطة دبي تضبط حافلة ركاب محملة بأسطوانات غاز!    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سال من شعرها الذهب وأستطال من نظمه الطرب – أبو آمنة حامد – سلامات ياخ .. بقلم: د. وجدي كامل
نشر في سودانيل يوم 13 - 08 - 2020

الحلقة التلفزيونية التي استضاف فيها قبل أيام الإعلامي التلفزيوني عمار أبوشيبة الشاعرين إسحاق الحلنقي، وعبد الوهاب هلاوي، والفنان مجاهد عمر بقناة سودانية 24، وبالرغم مما أصابته من خفة ورشاقة من ناحية الإدارة وتدفق المعلومات المفيدة عن الفنان صالح الضي، وبعض استعادات الحلنقي عن علاقتهما معاً عبر السكن المشترك، إلا أنها أغفلت ذكر الشاعر الراحل الجميل الصديق أبو آمنة حامد من قبل الضيفين القادمين بالأصل من الشرق. وقد كان صيت أبو آمنة طاغياً، قد وفد قبلهما من ذلك الجزء الخصيب من البلاد.
أبو آمنة حامد لم يكن علماً فقط في حركة الشعر الغنائي السوداني الحديث، ولكنه كان من أهم الشعراء الذين تغنى لهم عدد من الفنانين والمغنين، ومنهم أحمد المصطفى في: (غريب) وسيد خليفة في: (جاري وأنا جارو)، ومحمد الأمين في: (رجع البلد)، ومحمد وردي في: (بنحب من بلدنا) و(فرحة)، وصلاح بن البادية في: (سال من شعرها الذهب) و(وشوشنى العبير)، والكابلي في نشيد: (جمال العربي)، والجابري في: (ما نسيناك)، وهاشم ميرغني في: (أمدرمان)، وصالح الضي في عدد من الأغنيات.
تعتبر أشعار أبو آمنة مرحلة مهمة جداً في سيرة ومسيرة غناء صالح الضي والذي لم تجمعه معه صلة التعاون الفني فقط، ولكن الصداقة العميقة الحقة التي بدأت بالخرطوم وخلفية في الارتباط ببورتسودان، ثم انتقلت إلى القاهرة في واحدة من أخصب التجارب الغنائية الثنائية على الإطلاق.
سكن الشاعر والمغني لأوقات عديدة معاً بأنحاء متفرقة من القاهرة أثناء إقامتهما بالسبعينيات بها. وكتب أبو آمنة لصالح عدداً من الأغنيات التي تظل خالدة في الوجدان السوداني وفي مقدمتها أغنية (نحنا ما ناسك).
لو بتلقى زول بحبك زيّنا
زول بشيلك في عيونو وفي ضلوعو
وفي دموعو وفي ابتسامتو وهناهو
في شجونو.. ما بنعاتبك
يا ما جيناك ويا ما بابك
لو بحس دقات قلوبنا.
ثم غنى له:
احتشد العمر حباً في لحظة من لحظين
ففاضَ ثم تلاشى في ضحكة المقلتين
ثم:
تفتح الزهر حلوٌ لكن فاهك أحلى
والبان عالٍ شموخٌ لكن جبينك أعلى
آمنت بالحسن لما إلحاده فيك صلى
والليل وهاج وضئُ،
فكيف ارتحالك عنا وكيف المجيء
ثم:
يا حزن مليون عامٍ دارت عليك الدوائر.
- وغنى صالح لأبو آمنه حامد.." اللقاء المستحيل:
سألت عينيك وعداً وذبت قبل الوصول
فوق احتمالي فعفواً لقياك المستحيل
في نظرة الورد لينا في شموخ النخيل
هل سطوة الحسن إلا اعتداد ظبي كحيل
أرخى المساء خصلات عليه ليل جليل
والحسن صوّر فيه حقيقة المستحيل
فمن شهى.. شهي ومن بتول بتول
ومن عصى، عصى من ذلول ذلول
يا أريحية حسن تكاثرت في بخيل
مد الأيادي وضم اخضرارات الحقول
هذا زمان جميل فارفق بقلب الجميل
شربت من مقلتيه وعد اللقاء المستحيل
سكرت لكن مثلي هل يرتضي بالقليل
لا يرتضي بالقليل.. لا يرتضي بالقليل.
علاقة احتشدت بالدراما والمواقف، والحكايات اللطيفة، والمواقف المحرجة التي لا تنسى لمن عاصروها معهما، ولا يتسع المجال لسردها هنا، ولكن يعلم بها أغلب أهل الوسط الفني والأصدقاء المشتركين الذين كانوا شهوداً عليها.
عدم ذكر حلنقي وهلاوي لكبيرهما، وسابقهما في الشعر والشهرة أبو آمنة يؤلم حقاً، وكأني كنت أراه يشاهد ويستمع إليهما ولا تعليق يبديه إزاء ما يشاهد سوى ابتسامة ساخرة ترسمها عيناه الواسعتان.
لا أدري ما الذي دفعهما للتناسي، وعدم الوفاء لابن المهنة والمصدر الجغرافي، وقد كانت فرصة طيبة أتيحت لهما للترحم عليه وتزجية التحية لروحه.
أبو أمنة شخصية فريدة ويمكن وصفها فضلاً عن الشاعرية الفذة بأنها شخصية كانت صاحبة طرفة وسخرية تصدر على السجية بنحو مفاجئ وعجيب.
إنه كتاب ضخم لم يتم التوثيق له بعد بنحو جيد وطيب. جمعتني به سنوات من الصداقة التي كان قد وفر بداياتها الصديق الراحل محمد الحسن عبد المحمود، والصديق طارق ميرغني له الأمنيات بالشفاء العاجل فعشنا زمناً مترعاً بالذكريات المشتركة مع أبو آمنة وصديقنا القادم من القاهرة والشرق أيضا موسى بيرق. القاسم المشترك في ذكريات محمد الحسن وموسى بيرق مع أبو آمنة وقد عادوا إلى الخرطوم بعد سنوات من الحياة المشتركة بقاهرة المعز كان وبلا منازع صالح.
أبو آمنة لا يسرد مواقفه مع الآخرين أبداً بقدر ما يتركهم هم يحكون عنها وعن طرفها وزقاقاتها.. وأنت في حضرته ما عليك إلا أن تفتح أذنيك لأقصى حد، وذاكرتك من كل باب وتسجل بكل حب ما يحدث. هو لا يقصد الإضحاك أو النيل بالسخرية م أحد أو عن عمد، ولكنهما الضحك والسخرية يفاجئانك وأنت معه في الشارع أو عند زيارة أو في عزومة يدعوه لها أحد معجبيه الجدد فيأتي بنا مضيفاً لنا لقائمة المدعوين دون استئذان صاحب الدعوة.
جسد نحيل، وعينان واسعتان شاردتان، ضاحكتان، تلمعان بذكاء مشع ونافذ وباهر بأفكار تنبع من ماء طيبة نادرة تسكنهما.
كل من يقابله يظن أنه يعرفه من وقت بعيد وزمان غابر فيأنس ويأمن صحبته ويعتاد على مجالسته. كنا نلتقي ونجلس دون مواعيد، نلتقي بمنزل صديقنا محمد حسن عبد التام أو منزل العم عبد المحمود أو العم ميرغني أو بمنزلنا. بالأمسياتِ كان يحلو الجلوس ونتبادلُ قراءة الأشعار والأحاديث في الأدب والشعر والفلسفة. وكان أبو آمنة وبجانب اهتماماته الأدبية محباً للفلسفة التي درس مناهجها وتعلق بأصدقائه من أساتذتها المصريين.
حكى لنا ذات مرة أن قصيدته سال من شعرها الذهب أنقذته من فشل محقق بامتحان الفلسفة بجامعة القاهرة الأم التي درس فيها الإعلام. حكى أنه جلس لامتحان مادة الفلسفة ولم يكن مستعداً له، واكتشف ذلك أستاذ المادة الذي كان على علم بشاعريته. وبعد أن لاحظ الأستاذ عدم جاهزية الطالب الناضج سناً بالمقارنة بزملائه وزميلاته طلب منه وقد أخذه بجنب أن يقرأ له قصيدة فاختار أبو آمنة (سال من شعرها الذهب) والتي ما أن قرأها حتى كان الأستاذ يقول له برافو، وأحسنت ويمنحه العلامة الكاملة. أصدقاؤه في القاهرة من مشاهير الأدب والفن كانوا كثر ومنهم عبد الرحمن الأبنودي وأحمد نجم وصلاح جاهين وأمل دنقل والشيخ إمام وغيرهم ممن كان يزورهم ويزورونه ويكونون حضوراً عندما يدعو أبو آمنة أحد أصدقائه من المثقفين المهمين عندما يأتي إلى القاهرة، وأذكر أن صديقنا وزميلنا الصحفي والتلفزيوني والناقد الأدبي المعروف صديق محيسي كان قد سرد لنا واحدة من تلك الجلسات الفخمة التي تظهر الجانب العجيب من كرم أبو آمنة وكان مغنيها صالح الضي. ومن يلتقي صديقاً عليه أن يسأله عما صار في تلك الجلسة من مرح يندر حدوثه كان بطلاه أبو آمنة وصالح.
أبو آمنة سيرة من التمرد والغرابة معاً. ولد بهَيّا، ورعى الغنم بسهولها وكان جده حمد الأمين ترك، أحد زعماء قبيلة الهدندوة البجاوية أنصارياً. وفي إحدى زياراته إلى الخرطوم للمشاركة في مؤتمر لحزب الأمة حضر ومعه حفيده أبو آمنة حامد إلى الخرطوم حيث نزلا في ضيافة عبد الله بك خليل أمين عام حزب الأمة آنذاك ورئيس الوزراء السابق وفتها. ويقال إن جده طلب من عبد الله بك إبقاءه ولكن يقول أبو آمنة أنه هو الذي طلب من جده البقاء ليلتحق بمدرسة وادي سيدنا ثم مدرسة المؤتمر الثانوية، ومنها انتقل لكلية الشرطة بالخرطوم حيث تخرج ضابطًا برتبة ملازم.
ويحكى أنه لم يستمر كثيراً بالعمل كضابط حين تم فصله. كان يقص ويسرد بمتعة وسخرية من نفسه واقعة فصله من الشرطة. حكى أنه تم نقله لمدينة ود مدني وهناك قامت مظاهرات طلابية شارك فيها الطلاب والطالبات ولكنه لم يتصرف وفق متطلبات وظيفته وما يلزم القيام به الوضع الأمنى المطلوب كضابط شرطة بأن يمنعهم من التظاهر، بل شارك معهم وهو بالزي الرسمي.
بعدها عمل ملحقاً ثقافياً بسفارة السودان بالقاهرة، ومن ثم قرر أن يتحول لطالب جامعي يدرس الإعلام. كان ناصري الهوى والمحبة وأسمى ولده جمال عبد الناصر حسين، وكتب قصيدة لجمال عبد الناصر تغنى بها أمام عبد الناصر بالقصر الجمهوري إبان زيارة للسودان ببدايات مايو بتسهيلات قدمها وحسب ما حكى أصداقاؤه بمجلس قيادة الثورة للمقابلة وليس كما حكى البعض أن أبو آمنة نظمها بعد النكسة 1967. تغنى بالقصيدة عبد الكريم فيما بعد:.
قم صلاح الدين وأشهد بعثنا
في لقاء القائد المنتصر
شعبنا الأسمر من فرحته
والتقت نهضتنا بالعربِ
يوم صافحنا جمال العربي
أنت يا ناصر في أرضي هنا
لست بالضيف ولا المغترب
مرحباً بالقائدِ المنتصر
مرحباً بالثائر
أبو آمنة شخصية فكهة كما ذكرت . قال في أحد اللقاءات الصحفية التى أجراها معه وجدي الكردي بصحيفة حكايات قبل وفاته بسنوات قليلة:
- كنت راعيا لغنم الحلة في هيا.. والآن أرعى غنم إبليس في الخرطوم.
وقال:
- لا أصلح ضابطاً في الشرطة ولا قنصلاً إعلاميا ولا إنساناً يصلح للقرن الحادي والعشرين.
وسأله الصحفي: طيب جيت من هيا ليه؟
أجاب: جابتني شقاوتي.. لا قعدت مع الهدندوة بقيت سعيد.. لا لقيت سعية في الخرطوم.
سأله الصحفي: لماذا توقف آبو آمنة عن كتابة الشعر؟
أجاب: أكتب لي منو؟
فرد الصحفي: للجمال والوطن والمبادئ
فرد أبو آمنة:
- أنا لا أرى في الوجود شيئاً جميلاً غير المرتب والمصاريف،
- حتى دا ما لاقيهو عشان أكتب فيهو شعر.
له من العلاقات الاجتماعية ما له بذات القدر الذي لديه القدرة على التمرد عليها، خاصة إذا ما اقترب أحد أصدقائه من منصب حكومي مرموق أو كان واحداً من أهل السلطة. كان يفضل الجلوس معنا ونحن بعد في سن الشباب والفلس والتشرد من أن يلبي دعوة من مامون عوض أبوزيد، أو زين العابدين محمد أحمد عبد القادر اللذين يرسلان أحياناً في طلبه. يجلس متواضعاً ومحبًا لمجالسيه ولا يتقدمهم في الثرثرة أبداً. وكنا عادة ما نتقاطع أثناء جلساتنا بضيوف وغرباء يدخلون علينا وما إن يجلسون لبضع دقائق ويتعرفون على حقيقة الشخص الذي يجلس معنا حتى تكتسب ردود أفعالهم الخفة وتصدر منهم تصرفات مزعجة لا تليق بمكانتهم الاجتماعية الرفيعة أحياناً.
دخل علينا ذات ليلة وكنا جلوس بمنزلنا أحدهم وقد كان أكاديميًا مرموقاً. فما أن جلس وصار يتفرس في الحضور إذا به يرى أبو آمنة ويتعرف عليه فيأخذ كرسيه قريباً منه ويجاوره. وذلك سلوك يمقته أبو أمنة الذي لا يحب أن يتم تركيز الأضواء على شخصه فتفسد عليه سجيته. ما أن مر وقت قليل وكان الأكاديمي المزعج التصرفات يطلب من أبو آمنة أن يستمع إليه في بعض محاولاته الشعرية التي ربما غامر بقراءتها آنذاك. قرأ الرجل شعراً خالياً من الشعر، وقد تخللته بعض الألفاظ النابية أحياناً. لاحظنا جميعنا ضعف شعره ولاذ أبو آمنة بالصمت بينما ظل الأكاديمي ينتظر إطراءً منه. ويا للأسف فقد طارده المتشاعر الأكاديمي وألح عليه أيما إلحاح بأن يتعرف على رأيه. صمت أبو آمنة لفترة والرجل يصر عليه بأن يخبره، وعندما عدِم الحيلة أكثر في الصمت نظر إليه بعينيه الجريئتين وقال مخاطباً له بلسانه الألثغ المعروف:
- تعلف ( تعرف ) يا بلوف( يا بروف) أنا دائمًا عندي لاى (رأي) في الأكاديميين البيكتبوا شعل (شعر). ففهم الرجل (اللاى) وأخذ بعضه وغادر بأسرع ما توقعنا وقد علق بقايا توتر بالجلسة حتى نهايتها. في مرة أخرى شبيهة تعلق به في جلسة قادم ضخم الجثة والمؤخرة، وبعد أن قرأ ما أسماه شعراً صمت أيضاً أبو آمنة وطلب (فرحا) إضافياً ولكن ألح الرجل وهنا نظر له أبو آمنة معلقاً بكل شجاعة بأنه لا يحترم الشعراء من ذوي المؤخرات الضخمة.
قرأ لنا ذات يوم قصيدة قال إنها جديدة، وأذكر أن اسم القصيدة كان أمدرمان، وبها أحد الأبيات الذي يقول: البرتقال فيك بلتكان (برتكان). وعندما انتهى من قراءتها اقترح عليه صديقنا طارق ميرغني أن يغنيها محمد الامين لأنها برأي طارق تشبه أسلوب أبو الأمين، فجاء رد أبو أمنة مفاجئاً لطارق بأن قال له:
- أديها لمحمد الأمين عشان لمن يغنيها يقولوا كلمات الملحوم (المرحوم) أبو آمنة حامد؟. فيما بعد وعندما عاش معنا بسكننا ببنغازي محمد الأمين لشهور وشهور حكيت له الواقعة فرد محتجاً أن نص (رجع البلد) وعلى غير العادة لم يأخذ منه وقتاً في التلحين.
فيما بعد سمعنا القصيدة من حنجرة الفنان هاشم ميرغني.
مواقف كثيرة وقعت وكنا شهوداً عليها وبعضها يتعذر سرده. ولكني وجدت قبل أيام بالصدفة توثيقاً ممتعاً للصديق الدكتور كمال عبد المحمود أخ صديقنا الراحل محمد الحسن عبد المحمود. كمال وقد زامل أبو آمنة أيضاً بالقاهرة في مرحلة الدراسة الجامعية كانت وبينه وبين أبو آمنة مناكفات ومناقرات لا تنتهي حتى عندما عادا والتقيا بالخرطوم. حكى كمال:
(مره كنا متواجدين بمنزل الأخ إمام عبدو صغير بالشعبية بحري وقد طلب منه شقيقي محمد الحسن عبد المحمود أن يحضر له أي شريط تسجيل للفنان الجابري خرج أبو آمنة فجأة أتى إلينا بالفنان الجابري شخصياً بعد أقل من ساعة واحدة وأنا أحضرت مسجلاً جديداً قال لي أبو آمنة إنشاء الله مسجلك يكون تمام وهنا حكّ أبو آمنة رأسه وعندنا قلت له " شفت حكت راسك دي بتكون اتسجلت" هنا قال لي يا كلام عبد المحمود المفروض كنت أنا أدرس طب وأنت تدرس إعلام يا دكتور اتكلم سطر ونط سطر عشان نتابعك وانت أمك قبّال تولدك كانت متوحمة على الراديو ترانسيستر ولما نكون أنا وانت قاعدين في مكان واحد ما في طريقة إلا نتكلم ثنائي.
مرة كنا متواجدين بمنزله بحي الدناقلة وجاء أحد أبنائه وطلب منه بعض النقود وأذكر أن اسمه باسل ولديه مقدمة رأس كبيرة هنا قال له أبو آمنة (يا ولد أبعد مني، الولد ده عامل جبهتو زي الجبهة المعادية للاستعمار) وأضاف (الولد ده من شكلو ما حيكون عندو مستقبل ومصيرو يكون باك شمال بنادي التذكار (كان نادي التذكار في الدرجة الرابعة).
في واحد كسب تذكره طيران له ولأحد أبنائه في يا نصيب لألمانيا وكان الولد فيه شيءٌ من التخلف وبعد ذهابهم ورجوعهم للسودان قال أبو آمنة لهذا الرجل (انت لما ربنا رفع قدمك ووصّلك لحدي ألمانيا الولد ده جايبو راجع معاك ليه، ما كان أحسن ليك تبدلو بتلفزيون ملون.
) مرة بالقاهرة كنا ضاربين الفلس.. وكان لدى أبو آمنة سجائر مستوردة وأراد استبداله بسجائر محلي هنا قلت له أنا (يا أبو آمنة ما تكون زي الناس الذين يبيعون الدجاج والبيض واللبن عشان يشتروا ويكة وهذا السجائر لو سهّيت من السجارة .. دقيقة تلقاها انطفت براها) رد علي أبو آمنة كمان الواحد ما ممكن يكون لابس بدلة .. وكرفّته وتحت ما في بنطلون وقال لي هذه السجاير غير انو رخيص بيوفر ليك بكره حق الفطور والغدا والعشا يعني سجاير يقفل النفس). أما عن مواقفه مع صالح الضي فكانت لا تحصى ولا تعد حسب ما حكاه كمال الذي وصف صالح بأنه من أجود الذين يطهون الحلل. وقد اشتهر بكرم حاتمي حتى سماه أبو آمنة بحاتم الضى.
حكى كمال وهو نفسه شخصية فكهة للغاية: (نزل أبو آمنة مع الفنان صالح الضي بشقته بالقاهرة المهم دفع أبو آمنة كل المتأخرات من إيجار الشقة إلى التليفون ومرة قال (تعرف يا صالح انا اكتشفت انو كان أرخص لي أنزل في هيلتون القاهرة من القعاد معاك)، وأضاف (تلاتة أنفار في القاهرة بياكلوا لحمة 7 أيام فالأسبوع وهم السادات وسيد مرعي وصالح الضي. وبمناسبة صالح الضي فقد لقبه بحاتم الضي كناية ً لكرمه الفياض ورغم أن صوته كان يحاكي العندليب إلا أن طريقة طهيه للطعام كانت تتفوق على صوته المميز.
حينما كان مقيماً مع صالح للضي أتى إليهم رجلٌ ثريٌ يملك أموالاً طائلةً وكان كل همّ هذا الرجل وشغله الشاغل أن يصبح فناناً من خلال قصيدة يكتب كلماتها أبو آمنة حامد ويلحنها له الفنان صالح الضي حتى يستطيع أن يؤديها لإذاعة ركن السودان من القاهرة وكان هذا الرجل كلما زارهما جلب معه ما لذّ وطاب هنا قال لي أبو امنة (تعرف يا كمال الآن صالح الضي ليهو سنة كاملة وهو بلّحن في البيت الأول من القصيدة يعني لو لحن البيت التاني نكون نحن رجعنا لمصر عشان نعمل الدكتوراه).
ويكتب عنه الصحفي حيدر المكاشفي في ذات مقال: (قيل إنه اكتشف مرة أن أحد أبنائه يشجع المريخ، فناداه وأمسك بيده حتى باب المنزل الخارجي وفتح الباب، وقال لابنه (أمشي لي شاخور أنا ما بربي لي مريخابي)، ومن سخرياته اللاذعة كان أن سرت شائعة في أوائل عهد الإنقاذ بموت أبو آمنة، وبناء على هذه المعلومة المغلوطة كتب الأستاذ الصحافي المخضرم موسى يعقوب معزياً الشعب السوداني في فقد الشاعر الكبير في إحدى الصحف، ولكن عندما ذهب الناس للعزاء فوجئوا به حياً يرزق، فقال لهم أبو آمنة (الجبهجية ديل مش يكتلوني قبل يومي، ديل بالطريقة دي حيكتلوا الشعب السوداني كله)، ومن طرائفه على عهد حكومة مايو قيل إنه بعد أن استمع لخطاب كان يلقيه الرئيس نميري بعد زيارة له للشرق، قال فيه (لقد هبت الآلاف من جماهير شعبنا في مدينة هيا لاستقبالي)، فقال أبو آمنة معلقاً (رئيسنا دا كضاب جنس كضب.. هيا دي بلدي ما فيها غيري أنا وأبوي ومحولجي القطر... تلاتة أنفار بقو شعب يا كضاب)؟!.
ألا رحم الله أبو آمنة حامد، وصالح الضى، ومحمد الحسن عبد المحمود، وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته وحفظ ألله الدكتور كمال عبد المحمود، وموسى بيرق، ومنح الشفاء العاجل لطارق ميرغني..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
/////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.