من كتابه "حياة في السياسة والدبلوماسية" قبل أن ألج إلى استعراض ما جاء بالكتاب في جانب الدبلوماسية الرسالية، أعرض لما نقله الدكتور حسن عابدين عن وزير خارجية سابق حيث قال إن الدبلوماسيين ثلاثة فئات هي: Career Diplomats Non- career Diplomats Carour Diplomats دبلوماسيون محترفون دبلوماسيون غير محترفين يتم اختيارهم من أهل الكفاية العلمية والخبرة والحنكة السياسية دبلوماسيون كرور كرور هي كلمة عامية دارجة في السودان تعني الذي لا فائدة منه.ولعل كلمتنا العامية " هَتَشْ" ربما تكون قريبة من المعنى المراد... يعني دبلوماسيين هتش هذا الجزء من كتاب الدكتور حسن عابدين محمد عثمان، حسب ما أرى، يعتبر الجزء الأهم في الكتاب الذي يؤرخ لما أصاب دبلوماسيتنا من عوار عبر تاريخ الدبلوماسية السودانية، وهو مرآة تعكس صورة حقيقية لدرجة الانحدارالذي وصلت إليه الدبلوماسية السودانية. ولا اعتقد أن أي مؤرخ يريد أن يكتب بصدق عن مراحل الدبلوماسية السودانية يمكن أن يغفل عما سطره الدكتور في هذا الجزء من سيرة ومسار الدبلوماسية السودانية عبر تاريخها. والدكتور حسن أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم يعرف كيف يسرد الأحداث التاريخية وكيف يجعلها مشوقة للقارئ. أشار د. حسن إلى المؤتمر الدبلوماسي الذي عقد بالخرطوم 1995 ترأسه علي عثمان محمد طه وقد تحدث في المؤتمر الدكتور المكاشفي داعيا إلى التخلي عن الدبلوماسية الكلاسيكية التي هي دبلوماسية حفلات الكوكتيل والأخذ بالدبلوماسية الرسالية التي سارت على نهجها دولة المدينة في صدر الإسلام. وأشار المكاشفي كما يقول حسن عابدين إلى أن تشمل أوراق الاعتماد التي يقدمها سفراء السودان إلى الدول غير المسلمة دعوة رؤسائها إلى الإسلام. وأشار إلى أن يبدأ هذا الأمر السفير المرشح للولايات المتحدة بدعوة الرئيس كلنتون للإسلام. ويشير السفير حسن إلى أن الدبلوماسية الرسالية اختارت بعناية دبلوماسييها الرساليين من شباب الحركة الإسلامية سفراء وقناصل ووزراء مفوضين ومستشارين وسكرتيرين أوائل وثوانٍ وثوالث للقيام بهذه المهمة الرسالية. ولم يكن الدبلوماسي الرسالي في السفارة في رأي الدكتور حسن رقيبا خفيا على السفير غير الرسالي فحسب، بل هو عين الحزب الحاكم وقناة الاتصال مع الحركات الإسلامية في البلدان المبعوث إليها. ويقول حسن عابدين إن الدبلوماسية الرسالية استكملت بُعدها الدولي وهيكلها التنظيمي بتأسيس وقيام المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي على يد الأب الروحي للفكرة حسن الترابي 1991. وأصبح هذا المؤتمر الوعاء الجامع للتنظيمات والحركات الإسلامية في العالم. وكانت تلك التنظيمات وقادتها جلهم من المعارضين لحكومات بلادهم وتعيش في المنافي تحت غطاء اللجوء السياسي. وعندما عين حسن عابدين سفيرا لدى الجزائر، أوصاه الترابي خيرا بالحركة الإسلامية الجزائرية. ولما عرّف الدكتور حسن نفسه لعباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر على أنه سفير السودان للجزائر، وقد جمع بينهما المسجد مصادفة في صلاة العشاء، قال له عباسي مدني إن الترابي زكاه له وبشره به. ويزيدنا حسن عابدين جرعة من الإثارة الدرامية بطلها راشد الغنوشي زعيم الحركة الإسلامية التونسية الذي يعيش لاجئا في الجزائر. على غير موعد وبلا ترتيب مسبق، جاء الغنوشي إلى مقر السفارة السودانية بالجزائر يستفسر عن رسالة له قادمة من الخرطوم تصله عبر الحقيبة الدبلوماسية. يقول السفير الدكتور حسن إن الزيارة ربما تمت عبر الدبلوماسي الرسالي بترتيب خفي حسب تعبيره بعيدا عن سمع وبصر السفير. وهذا الأمر مخالف بالطبع للأعراف والتقاليد الدبلوماسية التي تربط السفير بمرؤوسيه. يقول الدكتور حسن إنه استمع إلى ثناء الغنوشي على السودان وثورة الإنقاذ وزعيمها وحادي ركبها حسن الترابي. اعتذر السفير حسن للغنوشي عن عدم وصول أي رسالة خاصة به للسفارة. زاره الغنوشي للمرة الثانية بعد أسبوع ليتسلم مظروفا مغلقا بإحكام آتياً من الخرطوم ومكتوبا عليه " لا يسلم لغيره ولا يفتح إلا بواسطته" . ولم يعلم السفير أنه الجواز السوداني إلا لاحقا يقول الدكتور حسن عابدين إنه غضب شديدا لأن الدبلوماسية الرسالية جعلت منه وهو السفير المؤتمن على أسرار الدولة والوطن كافة " حمارا يحمل أسفارا" حسب تعبيره. فكتب إلى وكيل وزارة الخارجية مستنكرا الحدث لكنه لم يتلق ردا من الوكيل حتى يومنا هذا... مسكين الوكيل هو نفسه ربما لم يعلم من الأمر شيئا. وجاءه السفير التونسيبالجزائر يستنكر منح الغنوشي جوازا سودانيا... أنكر السفير حسن عابدين علمه بالأمر.. كذب أبيض... مستذكرا واحدا من التعريفات للدبلوماسي والدبلوماسية كما يقول " أن تكذب من أجل بلادك". ولعله أيضا تذكر ذلك التعريف الذي يقول: Diplomacy is to say the nastiest thing in the nicest way لأن من المؤكد أن يكون سعادة السفير قد نقل إنكاره بمعرفته بأمر جواز الغنوشي بصورة " دبلوماسية" رقيقة. السفير التونسي فاجأ سعادة السفير حسن بأن الجزائريين ذكروا له بأنهم منحوا الغنوشي إذن الإقامة والتأشيرة على جوازه الدبلوماسي السوداني حتى انتهاء صلاحية الجواز في 23 سبتمبر 1991. ويقول حسن عابدين " إلا أن حداة ورسل الدبلوماسية الرسالية أمروا بتجديد الجواز وباسم مستعار". وقاد هذا الأمر إلى القطيعة بين تونس والسودان فاستدعت تونس سفيرها من الخرطوم الأمر الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البلدين منذ استقلالهما عن المستعمر. الدبلوماسية الرسالية واستقالة سكرتيرة السفير: وهذه قصة أخرى من سطوة الرساليين بالسفارة والسفير آخر من يعلم يقول السفير حسن عابدين جاءته سكرتيرته الجزائرية ذات صباح لتنقل له رغبتها " مرغمة" في الاستقالة... وأنا لا أجد تناقضا في تعبيري عن هذه الحالة بعبارتيْ " رغبتها مرغمة". فقد أصدر المستشار الرسالي بالسفارة أمره إليها بارتداء الزي الإسلامي أثناء ساعات العمل التزاما بما صدر للعاملات في دواوين الدولة بالسودان في سياق سياسة الأسلمة والتأصيل . كل هذا والسفير لا علم له...... استدعى السفير المستشار الرسالي وأبلغه بأن يُلغيَ قراره الخاص بالزي الإسلامي ويبلغ العاملات الجزائريات بذلك شفاهة. وعادت السكرتيرة إلى عملها. محجوب حاج نور وأحمد علي الإمام وما زلنا في محن الدبلوماسية الرسالية كيف تدهورت العلاقات وفسدت مع الجزائر؟ في الجزائر بدأت الجبهة الإسلامية للإنقاذ منذ تأسيسها وتسجيلها السيرَ في اتجاه إسقاط الحكومة في الجزائر. يلاحظ معي القارئ الاسم" الجبهة الإسلامية للإنقاذ" ويربط بين ذلك والجبهة الإسلامية القومية في السودان ثم اسم ثورة الإنقاذ. الأمر لا يحتاج إلى حصافة أو عصف ذهن للربط بين هذا وذاك و حلم التمدد الإسلاموي في المنطقة العربية والإسلامية. تأسست تلك الجبهة في الجزائر وتم تسجيلها عام 1989 . ولعل التاريخ نفسه ِلم يأتِ مصادفة حين توافق مع قيام إنقلاب الجبهة الإسلامية القومية في السودان واستيلائها على السلطة؟ اشتدت المواجهة بين الحكومة في الجزائر والجبهة الإسلامية للإنقاذ هناك. يقول د. حسن عابدين إن الدبلوماسية الرسالية في الخرطوم نشطت في تغذية وتأجيج هذا الصراع نهارا جهارا. وبدأت المراسلات بل حتى رسل الدبلوماسية الرسالية تفد إلى الجزائر وتتدخل في تأجيج الصراع . يقول السفير حسن أخطره المستشار بالسفارة الخضر هارون بوصول السيدين أحمد علي الإمام ومحجوب حاج نورمساء 29 مايو 1991 إلى الجزائر قادمين من طرابلس بليبيا. والغريب أن المستشار الخضر قد تلقى الخبر من السكرتير الأول بالسفارة عبر الهاتف. والغريب أيضا في الأمر أن المستشار لم يبلغ السفير في الحين. اتصل السفير بحاج نور هاتفيا فأخطره حاج نور أنه وصاحبه د. أحمد علي الإمام قاما بزيارة الشيخ عباسي مدني وعلي بلحاج وأنهما قد وجها لهما، أي للضيفين السودانيين، الدعوة لحضور اللقاء السياسي الجماهيري عصر نفس اليوم. وقد تم تقديمهما بوصفهما وفدا يمثل السودان... هذا كله قد تم وسعادة السفير في "غيبوبة دبلوماسية" قسرية. وذكر حاج نور لسعادة السفير أنه تحدث في اللقاء الجماهيري الحاشد داعيا الجزائريين لمؤازرة الجبهة الإسلامية في الجزائر ضد أعدائها " الرئيس والحزب الحاكم والجيش". يقول حسن عابدين: قلت لحاج نور أقلت كل هذا؟ إذن سوف تستدعيني الخارجية الجزائرية غدا ليستجوبوني عن زيارتكم هذه وما قلته باسم السودان. المضحك المبكي هو رد حاج نور لسعادة السفير : " ياأخي قول ليهم دا زول درويش ساكت" وللقارئ الكريم أن يتخيل نفسه سفيرا وهو في هذا الموقف الذي لا يحسد عليه، خاصة والوضع السياسي في الجزائر كان ملتهبا جدا قابلا للانفجار العنيف. ويقول السفير بالحرف إن هذا الوفد الرسالي جاء إلى الجزائر خلسة من وراء ظهر السفير وهو خروج على تقليد راسخ من تقاليد الدبلوماسية " الذكية" والكلاسيكية حسب تعبيره. ولما سأل السفير الضيفين الكريمين عن الغطاء الرسمي لزيارتهما تلك ومهمتهما السرية الذي حصلا بموجبه على التأشيرة من سفارة الجزائربالخرطوم، كانت إجابتهما أنهما جاءا تلبية لدعوة من الجامعة الإسلامية بقسطنطينة لإلقاء محاضرات على طلابها. وفي ذلك الجو السياسي الملتهب كان مجرد وجود هذين الرجلين ومخاطبتهما الحشود وتأليب الناس ضد الجيش والحكومة والحزب الحاكم أمرا كافيا لهدم العلاقة بين البلدين. ما لم يتوقعه السفير والذي حدث هو اعتقال الشيخين أحمد علي الإمام وحاج نور من قبل الأمن الجزائري وإبعادهما إلى ليبيا حيث كان طريق مدخلهما إلى الجزائر. لم تسمح السلطات للسفير بمقابلتهما إلا في المطار وهما مخفوران بحراسة أمنية مشددة برئاسة ضابط وثلاثة جنود مدججين بالسلاح. نقفز إلى نتائج تآخي الحزب الحاكم في السودان والجبهة الإسلامية الجزائرية ذوَيْ التوجّه " الإسلامي"، النتائج على المستوى غير الرسمي، ولعل أقلها ما كتبه الحزب الشيوعي الجزائري على الجدران: " لا خرطوم لا طهران... الجزائر ليست إيران". وقد شكا عبد الله جاب الله زعيم ورئيس حزب النهضة الإسلامي بالجزائر للدكتور السفير حسن عابدين قائلا إن صحيفة Le Matin الناطقة بالفرنسية وصفته " بالسوداني الأبيض" فقال له الدكتور السفير " اطمئن هذه عنصرية ضد السودان لا تؤذيك في شيء". وتتواصل نتائج سياسات الدبلوماسية الرسالية و تلقي تلك السياسات بظلالها على علاقات السودان الخارجية. ولما اغتيل الرئيس الجزائري بوضياف، توقع السفير حسن عابدين أن يبعث الرئيس البشير أحد نائبيه على أقل تقدير للعزاء، لكن للأسف لم يرسل السودان غير برقية عزاء. والطريقة التي يسرد بها سعادة السفير حسن مسار الأحداث طريقة سردية جميلة وكأن القارئ للكتاب إنما يقرأ قصة أو رواية من قصص الخيال العلمي. د. مصطفى محمد علي عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.