الآن ، لا شك في أن السودان بتجريته ذات الثلاثة عقود يمثل النموذج الأقرب لما يمكن أن يقود إليه ما يُسمى بالدولة الدينية ، وحسناً فعلت الحركة الإسلامية السودانية بإستيلائها على السلطة ، وحسناً فعلت بإستمرارها هذه المدة الطويلة ، فرغم نتيجتها المأساوية بالنسبة للسودان ، اثبتت هذه التجربة كارثية الدعوة إلي دولة دينية ، وكانت التجربة ، التي تحمّل السودان نتيجتها المزرية ، نموذجاً ودرساً ، للسودانيين أولاً ، وللعالم الإسلامي كله ، أن الدين ، أي دين ، لا يُحكم به الدول ، وإذا قامت سلطة ما بإسم الدين ، فأعلم جيداً أن الدين شعار فارغ فقط ، إذ سرعان ما يتبيّن (شعارية) الدين من خلال الممارسة الفعلية للسلطة ، وسرعان ما يتبيّن أن القائمين على هذه السلطة ليسوا إلاّ مثلهم ومثل أهل أي سلطة ، هي للدنيا لا للدين ، والدين بطبيعته أيضاً لا يُحكم به دول ذات قوميات وأعراق وعقائد وثقافات متعددة ، ولا توجد دولة ليست بهذا التكوين والتنوع ، ولذلك ، فليست هناك دولة دينية واحدة ناجحة في التاريخ. لا إسلامية ولا غير إسلامية. وفي التاريخ الإسلامي ، إذا إستثنينا عهد الرسول ، وهو عهد إستثنائي لوجود الرسول بنفسه بين ظهراني المسلمين ، ولوجود الدولة في ظرف مكاني صغير ، وفي ظرف زماني قصير ، وبعدد سكانى بسيط ، ولقلة ، أو قل إنعدام ، إتصال هذه الدولة بدول خارجية ، ولعدم تداخل المصالح الدولية في بعضها البعض ، فليس هناك نموذج واحد يمكن الإستشهاد به. يستشهد البعض بعهدي العُمرين ، ابن الخطّاب وابن عبدالعزيز ، ولكننا نعلم أن العمرين رغم العدالة التي حكما بها قُتلا في صراعات سياسية ، وفي محاولة غير موضوعية ولا داعي لها ،فقد أُلحق بالدولتين حكايات خيالية ، كالقول بأن أموال الزكاة خرجت من بغداد في عصر عمر بن عبدالعزيز ، وطافت العالم الإسلامي بأكمله في ذلك الوقت ، ثم عادت إلي بغداد لأنهم لم يجدوا ، في العالم الإسلامي كله ، في آسيا وأفريقيا ، من يستحق الزكاة. ومن بعد مقتل عمر بن الخطاب قُتل عشرات ممن تولوا أمر المسلمين بيد المسلمين ، ولم يكن ذلك لخلافات دينية ، لم يكن للدين أي دخل في تلك الصراعات ، وإنما لخلافات سياسية ، وأطماع سلطوية ، وأغراض دنيوية ، فالحكم دائماً وأبداً سياسة دنيوية ، لا مكان فيه للدين ، لأن السلطة لا ضمير لها لتكون مؤمنة أو كافرة ، فالسلطة سلطة ، وهي سياسة ، الدين أخلاق ، والسياسة مصالح ، الدين زهد ، والسياسة طمع ، الدين نقي ، والسياسة قذرة ، الدين توابت قيمية ، والسياسة لا مكان فيها لثوابت ، الدين رحمة، والسياسة زحمة لا رحمة فيها ، الدين تصفية نفوس ، السياسة تصفية حسابات ، في الدين (حب لأخيك ما تحب لنفسك) ، في السياسة (أين مصلحتي؟) ولذلك ، فبمجرد إدخال الدين في السياسة يفقد الدين قيمه ويتحول إلي شعارات فارغة ، إلي يافطة سياسية لإستغلال البسطاء وحشد الجماهير وتحريك العواطف ، إلي غلاف جذاب لصندوق السياسة المحتوي على (كيكة السلطة) ، تلك الكيكة (المختبئة) هي ما يتقاتل الناس عليها عبر التاريخ ، في كل الأمم ، والأمة الإسلامية ليست بدعاً عن الأمم ، والتاريخ الإسلامي ليس بدعاً عن تواريخ الأمم ، فالصراع سياسي ، ويعلم الجميع كيف أن الصراع السياسي الإسلامي على الحكم بدأ في نفس يوم وفاة الرسول ، وقبل أن يوارى جثمانه ، وكان إجتماع سقيفة بني ساعدة هو الإجتماع الأول الذي دُشن فيه الصراع السياسي في الإسلام والذي ما زال مستمراً حتى اليوم. كان النموذج السوداني صارخاً في قُبحه ، دميماً في منظره ومخبره ، سيئاً في نتيجته ، وكان التناقض بين الشعارات والأفعال لا مثيل له في التاريخ ، ولا أجدني مضطراً إلي ضرب أمثلة أو ذكر تفاصيل ، إذ يعلم الداني والقاصي من السودانيين وغيرهم تباين الفعل مع القول ، وتناقض الشعارات مع الممارسات ، ولكن ، ما يدعو إلي العجب ، أنهم ، بعد الثورة عليهم وإزاحتهم من السلطة ، يريدون العودة بنفس الشعارات ، فهم ، غير قادرين على النوم الهنئ الذي نعموا به أيام السطو والنهب والسرقة وتعذيب البشر ، إذ كانوا يخلدون إلي فرشهم الوثيرة بعد الإطمئنان من أنهم أدوا (فرائض) و(سُنن) و(نوافل) الكوزنة البغيضة ، وما زالوا يملؤون الشوارع والأسافير بصراخ هستيري سببه (جرثومة) الإجرام الكيزاني المزمن الذي يسيطر على أخلاقهم الدنيئة وصفاتهم الرزيلة ، ولكننا نعذرهم ، فهذا رد فعل لمن فقد (هملة) واردات الدولة و(بيت مالها) السائب ، الذي أكلوا منه سحتاً ، ونهيوا منه حراماً ، دون أن يرمش لهم جفن ، ودون أي إحساس أو وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني ، المال الذي سال له لعابهم المُقرف وما زال ، لم يخطر ببالهم أنهم إنما كانوا يأكلون أموال اليتامى والأرامل والرُضع والمرضى والفقراء والمساكين ، وكل هؤلاء فئات لا يضيع الله حقوقهم ، إذ ينتقم لهم في الدنيا والآخرة ، ولكن الإسلاميين في سكرتهم ، تناسوا أن حرمة المال العام من أمهات الكبائر ، ومن الصفاقة أن يلبس أحدهم أغلى الملابس ، ويتعطر بأغلى العطور ، ويمطي الفارهة من السيارات ، ويشيد أفخر القصور ، ويثني ويثلث ويربّع الزوجات ، ويبعث زوجاته وأبنائه إلي (دول الكفر) للتعليم والعلاج على حساب الدولة ، كلها من المال العام ، ثم يخرج مكبراً مهللاً ، ويصم آذان الناس بصياح الله أكبر ، ولا إله إلاّ الله ، وهي لله ، وما لدنيا قد عملنا ، مُدعماً كل ذلك النفاق بإعفاء اللحية ،ورفع أصبع السبابة ، يخرج ليتحدث عن حرمة الزنا ، أو حرمة الشروع في الزنا ، أو حرمة شرب الخمر أو يقيم الدنيا ولا يقعدها لأن إحداهن خرجت بملابس يعتبرها هو غير محتشمة ، أو يتحدث عن القلوب الطاهرة ، والايادي المتوضئة ، ويدخل في هستيرية الله أكبر ولا إله إلاّ الله ، ويتحدث عن إسلامية مشروعه وحركته التي ينتمي إليها ، وهو نفسه ، هذا المنافق ، يشارك ويخطط وينفذ ما يفوق خطط الشيطان في الفساد ، من تعدي حتى على أموال الحج والعُمرة والأوقاف ، دعك من التعدي على خزينة الدولة وأموال البنك المركزي والشركات والمؤسسات العامة ، وما وصلوه من تدني أخلاقي وعدم عفة يد ولسان تنوء عنه الجبال ، كل هذا الإجرام يختبئ تحت شعار الله أكبر وهي لله ، كل هذا الفساد تمكنوا منه بإسم الدين ، تناقض صارخ وعجيب. ومهما كان ، ومهما ظن الناس ، إذا لم يُبعد الدين عن السياسة ، فالدين هو الخاسر. نواصل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.