حتى كتابة هذه السطور فشل فرقاء السودان الشمالي في التوافق على إطار دستوري يمهد لدولة الحرية والمواطنة والمساواة. المؤسف أن هذه هي نقطة الخلاف الجوهرية التي أقعدت بنهوض دولة ما بعد الإستقلال وجعلت منها دولة فاشلة إنشطرت إلى سودانيين وأبقت على شعوبها في دائرة الولاء والتناحر الديني والقبلي وعقل نُخبها الجمعي أسيراً لثقافة اختزال الشعور الوطني ومشروعه الطموح في مُحاصصات وترضيات قسمة الثروة والسلطة. بهذا وددنا أن ننفذ إلى الجدل المزمن الدائر حول ضرورة التقرير في الدستور، أو عدمه، على علمانية الدولة الذي يراها البعض كمضاد نقيض أو تحدي مستفز لكل ما هو مقدس وديني والبعض الأخر مصطلحاً مثيراً لجدلٍ من غير ذي طائل. إذا أخذنا هذين الرأيين على عواهنهما، فلكل منهما مُسوَّغ منطقي وتبرير عملي - معاش. دولة الهند الناهضة والتي على الرغم من إنفصال المسلمين فيها في دولتي باكستان وبنجلاديش لم يتطرق دستورها لمصطلح العلمانية من قريب أو بعيد. في المقابل، هناك دول عديدة، تُحسب في مصاف الدول المتقدمة تَنصُّ دساتيرها صراحة على علمانية الدولة. على سبيل المثال، الدولة الفرنسية التي قامت في أعقاب الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام تحالف الإقطاع والكنسية، نص دستورها على علمانية الدولة التي تقف على مسافة واحدة من معتقدات وثقافة وأعراق مواطنيها. بغض النظر عن كون دساتير هذه الدول الناهضة والمتقدمة تنص على علمانية الدولة أو عدمها، ففي واقع الحال طبقت نظام حكم يفصل بوضوح بين المعتقدات الدينية ومؤسسات الدولة المدنية وتصبح مثالا يحتذى به في إختيار نظام الدولة السياسي والاجتماعي الناجح والمستقر. كذلك، إذا قضينا النظر عن حالة الدولة البريطانية التي لم تحتاج أصلا لدستور ينص على علمانيتها أو فصل الدين فيها عن الدولة، فإن دولة الهند، التي هي أقرب لحال دولة السودان في تنوع ثقافاتها ودياناتها وأعراق شعوبها، نجحت النخب فيها في النفاذ مباشرة لمغزى فصل الدين عن الدولة من غير الإشارة في دستورها لمصطلح العلمانية وتتفادى بذلك الجدل العقيم حول الفارق بين الدولة الدينية والمدنية أو العلمانية وتمهد لصياغة مشروع وطني نهض ببلادهم لمصاف الدول الناجحة والناهضة. هذا من جانب، أما إذا اعتبرنا تشابه الظروف والملابسات السياسية والاجتماعية التي سبقت قيام الثورة الفرنسية وثورة ديسمبر السودانية، وذلك من منظور هيمنة وتمكن الدولة الدينية المستبدة ونظام اقتصادها الطفيلي الفاسد، تكون الحُجَّة التي تنادي بضرورة النص صراحة على علمانية الدولة السودانية تستند على سابقة تاريخية رائدة تَستَوجب الأخذ في اعتبار التفكير والتدبير. أي أنه إذا كان لابد من الدستور العلماني لترسيخ عملية التغيير والتجديد بعيد نجاح الثورات التي تقوم ضد الدولة الدينية التي تتدثر بلباس مشاعر الورع الديني الزائف، فهو بذلك يكون أكثر إلحاحا وضرورة لدولة السودان بعد زوال نظام ديني تمكن بجبروته وقسوته من أرضه وأهله لمدة جيل كامل من الزمان. بيد أنه من صميم واجبات النخب المستنير هو معرفة إستحالة الوصول لدولة النظام الديمقراطي والحكم الرشيد بمعزل عن التغيير الذي يعيد تشكيل الهوية السودانية بعيداً عن ثقافة التعصب للجهة أو العرق أو الدين. فالمشكلة إذا تكمن في فهم ووعي النخب بالشروط الضرورية لصياغة المشروع الوطني الخلاق الذي سوف ينهض بدولة السودان الكسيحة من غير التعويل على قدسية المصطلحات والمعاني أو الوقوع في دائرة الترف السجالي العقيم الذي لا يفضي إلى شيء. أما الوعي الذي نقصده هنا هو تلك المعرفة المكتسبة التي تخلق واقع ثقافي يعلي قيم الأمانة والاستقامة في العمل العام ويرسخ سلوك ومعرفة حدود ونواقص الذات وتقبل الأخر المختلف، كما هو، والتعايش معه في تناغم وسلام. بهذا نكون قد تطرقنا كارهين لمعضلة المعرفة عند النخب وفشلها المقيم في الاتفاق على عموميات دستور للوطن والمواطنة. لكن، طالما أن هناك تجارب إنسانية يمكن وصفها بالتوفيق والسداد، يجب علينا الثقة كسودانيين في مقدرة عقلنا الجمعي في أن يصل، في نهاية المطاف، إلى ما يَعينه في التوفيق بين نوازع يقين روحه القلقة وتساؤلات عقله الواعي. فكلنا يعرف، والكثير منا في الشتات يعيش فعلا، رفاهية الحياة التي توفرها الدولة التي تقوم على قراءة الواقع الموضوعي بمقاييس تمكن من فهمها والاستفادة من إيجابياتُها وإيجاد الحلول المناسبة لسلبياتها. فما من دولة ناجحة، بمقاييس هذا العصر تحيد عن معرفة العلم لتمكين وتمتين عقدها السياسي والإجتماعي. لذلك، في ظل هذا الفضاء المعرفي والثقافي الذي يعلوه غبار الإبهام والتغبيش والمجتمع الذي ما زال تحت رحمة قيم ومفاهيم الجهة والقبيلة وجانحة العقيدة، نرى أهمية النص الصريح في الدستور على فصل سلطة الدين من الدولة حتى نحرر عقل النخب من أسر قيد الذات والقطيع ونُمَكنُها من صياغة مشروع وطني خلاق، متفق عليه، ينهض بدولة السودان إلى مصاف الدول الناجحة والناهضة. في الختام يمكننا أن نتفاءل ونقول إنه إذا تمكنت صفوة النخب من الوصول إلى ذلك الوعي المتجرد الذي يربط نقاط الفهم المشترك ويتجاوز كل ما هو ذاتي وأناني، نكون أعطينا الدين حقه في الكرامة والقدسية التي يستحقها والدولة مكانتها وهيبتها بين دول العالم الحر ووثقنا، كمواطنين متساويين، من بداية خطانا في الطريق نحو دولة الحرية والسلام والعدالة التي تغنى بها ثوار وشهداء ثورة ديسمبر، الأبرار- الميامين. د. عثمان عابدين عثمان في 17/08/2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. https://www.facebook.com/oosman51/