(من أرشيف الذكرى المئوية لمعركة كرري في 1998) لم يتسن بعد لفكرنا التاريخي والثقافي أن يتأمل بتجرد وتأهيل دولة الاستعمار كمحض شوكة ارتدفت فظاظة الموالاة والتباعة إلى عتو الفتح والفتك. وقد انصرفنا عن هذا الشغل بأمرين. بتهافت الفئة الحاكمة فينا منذ الاستقلال تحتل بلا حرج مقاعد هذه الدولة التي تقوم على مبدأ أن الحاكم أجنبي عن المحكومين، وأنه رسول الحضارة، وأن الاهالي، الرعية، موضوع في مختبر الرقي والتمدين. أما صفوتنا الثقافية فقد تراوحت بين التقليل من شوكة الاستعمار سكرى بالشعار الوطني وانجاز الاستقلال، وبين تدوين المأثرة الوطنية العظمى في استعادة السيادة من براثن الاستعمار. وفات عليها أن تعلم عن الاستعمار حق علمه. إننا لنجني ثماراً مريرة حقاً لأننا فرطنا في درس شوكة الاستعمار. فحيال تردي الدولة/ الأمة السودانية، وجدنا أن جماعات من الصفوة قد تنصلت عن الوطنية وهرولت إلى التغني بمأثرة أو أخرى مزعومة للاستعمار، تبكي ضياعها، وتندب حظنا العاثر على تسربها من بين أيدينا. وانتهي هذا النفر الى ما جعل الدولة الاستعمارية قريبة من العصر الذهبي الذي تشد الرحال الذهنية المرهقة إلى رحابه الوارفة. خرجت علينا الصفوة المدينية بتجديد ذكرى "زفة" مفتش المركز الإنجليزي الأسبوعية خلال طوفان 1988م الذي كشف عوار السلطات المحلية. فقد تذكر هذا النفر أياماً للسلف الإنجليزي يضبط الإدارة ضبطاً في زفة الاسبوع. وقد جادلت أستاذاً شهماً ذا يقظة ونبل تجاه متاعب إقليمه. وهو دارفور تأذي من انفراط حبل الأمن في وطنه الصغير الذي كان الانجليز، في قوله، يضربون به المثل في استتباب الأمن. وأزعجني قول نفر من الأكاديميين الجنوبيين أن "سياسة المناطق المقفولة"، التي دبرها الانجليز لإنشاء سد ثقافي وبشري ومكاني بين الجنوب والشمال، هي من آيات بِرِ الانجليزي بالجنوب، وتطوعهم بالشفقة عليه حماية له من غائلات الشمال العربي المسلم الكواسر. وهذه خاطرات منبئة عن تخلف الثقافة السودانية، الراتعة في هامشيتها الاثيرة وداحس خصوماتها، عن الانشغال بالمعاني المتجددة في نظرية الاستعمار وشوكته التي تخصب ساحة الفكر الأكاديمي وحقل الثقافة العامة لعقدين من الزمان وأكثر. فلم تكن "زفة المفتش" ضرباً محايداً من الإدارة. وليقرأ القارئ ما كتبه المرحوم بابكر بدري (وهو مُصَانع للانجليز لا مقاوم) عن الصلف الذي انطوت عليه الزفة من مثل شرط أن يقف المواطن من الاهالي بالغاً ما بلغ من العمر احتراماً للمفتش متى مرت به الزفة. وقد كتب المرحوم حسن نجيلة في الجزء الثاني من كتابه العجيب، "ملامح من المجتمع السوداني" فصلاً عن ثورة جزيرة توتي على مستر ربن، مفتش بحري والضواحي، لإهانته السمجة لرجل من الجزيرة. ومن الجهة الاخرى لم يكن استواء عقد الأمن في دارفور ذا أصل في «عدلت فنمت» بل في فانطازيا الحكم والقوة لرجال أوابد مثل مفتش كتم، المستر مور، الذي أهان الرجال حتى سماه حسن نجيلة "طاغية كتم" ونازله المرحوم أحمد يوسف هاشم في الصحف. واخيراً فإن «بِر» الانجليزي بالجنوب وجبال النوبة والأنقسنا، المناطق المقفولة، هو محض غطرسة أعقبت ميسم العنف البشع الذي نقشوه على جسد وعقل أهل تلك المناطق. فقد أخضع الانجليز شعب النوير المقاومين بالطائرات المغيرة المحرقة ثم بالدراسات الأنثروبولوجية الذكية مثل كتب إيفانز بربتشارد التي لم تبل جدتها بعد في مدرجات علم الاجتماع. وهي نفس الغطرسة التي أنزلت النوبة قهراً إلى السفوح من مسارح تاريخهم وأمنهم في التلال. واستعان الانجليز لذلك بدكتور نادل، الأنثروبولوجي، ليعينهم على إدارة النوبة. لبِر الانجليز المزعوم هذا مصطلح سلبي للغاية في الدراسات الثقافية المعاصرة. فالدارسون يصفون إجراءات الاستعمار لصون ثقافة المستعمرين مثلنا ب"النوستالجيا (أو الحنين) الاستعماري" نظراً إلى المفارقة المبكية في مثل هذا الاجراء: وهي أن الاستعمار يُغير بالفعل ما يزعم قولاً إنه حفيظ عليه، وحريص على استدامته. وقد شرح الدكتور ريناتو روسالدو، استاذ علم الأنثروبولوجيا بجامعة ستانفورد، هذا المفهوم (Colonial Nostalgia) في كتابه القيم "الثقافة والحقيقة" الصادر في 1989م. إن أكثر سوء ظننا الدامي ببعضنا البعض، الذي تسيل له الدماء وتزهق به الأرواح، وتُحشد له القرابين البشرية بفرح ممض، راجع إلى أن صفوتنا الثقافية تأخذ أمانتها باستهانة مؤسسية، فلا منابر لها للخلوة، والتأمل، والنقاش، وإذاعة الجديد من النظرات، وإطراح البالي الاخرق. وكلما أنبت الزمان منبراً هُرعت إليه بلغوها السياسي الرديد وعصبياتها قبل التاريخية. فقد انزعجت مراراً مثلاً لكيف تحمل هذه الصفوة تُرهاتها المرموقة الى أروقة جمعية الدراسات السودانية الامريكية التي لا يتشرف أكثرهم بعضويتها. وهذا فعل في درك سحيق من الأمية. لعلنا نجعل مرور مئوية كرري قنطرة الى تجديد عروق ثقافتنا من كلوسترول الكسل، والتنطع، والانقطاع عن القراءة، والتفرغ لغيرها من اللهو السخيف. وأنا متفائل. فتحت الرغام وميض للثقافة الحرية. ولهذا الوميض دفء ولفح. ألم يقل المهدي عليه السلام: إنني أوقدت ناراً وأريد أن أتدفأ بها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.