* في كل خريف نُبتلَى بسيل عرمرم.. لكن خريف عام 1988 كان خريفاً ابتليت به القرية الوادعة بغرب أم درمان بموت أحد رجالاتها.. و هو ينقذ المنكوبين في ليلة ليلاء قاسية العناصر الطبيعية: مطر ينهمر.. و سيل جارف.. و حشرات تقرص.. و ثعابين تلدغ.. * تلك ليلة لا تُنسى.. وتعود إلى الذاكرة مع مجيئ شهر أغسطس من كل عام! * وجاء خريف هذا العام- 2020- ليقول لنا: هاؤمُ خذوا الضراوة الأشد من ما أتتكم بها ضراوة عام 1988.. * لم يكن الخريف قاسياً على الأحياء من البشر.. بل قاسياً على الموتى كذلك، حيث عبث بمقابر (الرميلة) الآثار الشامخة في منطقة البجراوية وفي مناطق أخرى في أرض الحضارات.. * ولما اجتاحني الحزن بعمق وأنا أشاهد المأساة وأسمع عن مآسٍ تحدث جراء خروج النيل عن السيطرة، كما اعترفت سلطة الدفاع المدني، إندفعتُ إلى قصيدةٍ كتبتها عن سيول وفيضانات عام 1988 وموت الرجل الهميم حاج أحمد تحت الأنقاض بعنوان: (حاج أحمد مات!) برقٌ.. رعدٌ مطرٌ.. مطرٌ.. مطرٌ.. ماءٌ.. ماءٌ.. .. ماءٌ.. ماءٌ..! والناس تحاول سدَّ شقوقٍ يتسربُ منها الماءُإلى الأكواخِ الطينْ.. ضوضاءٌ.. ضوضاءٌ.. ضوضاءٌ و امرأةُ تجري من جهةِ التلْ:- " السيلُ! السيلُ! السيلْ!" كلُّ القريِة تخرجُ عزّ الليلْ.. عويلُ نساءٍ.. وعويلْ.. و الماءُ يثورُ.. يمورُ.. يغورُ.. يفورُ.. يدورُ.. يظل يدورْ.. كالباحثِ عن كنزٍ تحت الأرضْ.. يتفجرُّ فوق الأرضِ العطشى البورْ يلتفُّ حول بيوتِ الطينْ و يجرفُ كلَّ بيوتِ الطينْ.. أوانٍ تطفحُ و أباريقْ.. نملٌ يقرصُ.. و عقاربُ تلسعُ.. و ثعابين.. السيلُ! السيلُ! السيلْ! تَعَدَّي الغولُِ على الأحلامِ العرجاءْ.. تتقافز كلُّ خِشَاشِ الأرضْ.. وُجهتها دَّبةَ شيخْ أحمدْ.. القنفذُ يخرجُ من تحتِ الأرضْ و الضبُّ يدُّب.. يدُّب.. يدُّبْ.. و البومُ يهِّبْ.. يستسلمُ للبومِ الضبْ.. للبومِ حضورٌ طاغٍ في ليلتِنا الليلاء.. موجاتٌ.. موجاتٌ.. موجاتٌ.. موجاتْ..! تجتاحُ المدرسةَ و المسجدَ و الدكانْ.. إختلط الزيتُ بالأوراقِ و بالأورادِ و ( كرسي الجانْ).. إرحمنا يا هذا السيلْ.. أكتافُ القريةِ ما عادت تتحملُ هذا ( الشيلْ).. و بعد أذانِ الفجرْ,, لبست شمسُ القريةِ ثوبَ حدادْ ركاماً.. زبداً.. و غثاءاً و غثاءْ.. و اختنقَ صوتُ حمارِ الشيخْ.. و الديكُ الأخرقُ لم يظهر.. و الحوشُ انفتحَ على الجيرانْ- كلِّ الأركانْ و رفاتُ بيوتٍ فوق رفاتْ و حمارُ الشيخْ تحت الأنقاضْ.. وسؤالٌ فزِعُ:- " مات؟!!" "لا.. لا.. ما مات..!" ثم صراخُ رجالٍ وعويلٌ نساءٍ.. و عويلٌ.. وعويلٌ.. وعويل.. " شيخْ أحمد مات!.. شيخْ أحمد مات! شيخ أحمد ماااات!!" عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.