عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    الخطوة التالية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضبابية المفاهيم حول قضايا اقتصادية حيوية (2): العنصر البشري أم الموارد الطبيعية: وضع العربة أمام الحصان .. بقلم: محمد الحاج/كندا
نشر في سودانيل يوم 27 - 09 - 2020

أوردت إحدى الصحف اليومية في نسختها الإلكترونية ليوم الثلاثاء 22 سبتمبر2020، تصريحاً من وزارة المالية مفاده أن أحد الصناديق العربية سيتولى تأسيس نافذة موحدة للاستثمار في السودان. ولم يتضمن الخبر أي تفاصيل عن طبيعة الاتفاق مع الصندوق المذكور وحدود دوره في هذا الأمر، الذي يفترض أن يكون دور الجهات الأجنبية فيه مقتصراً على تقديم المعونة الفنية وما يشابهها من أشكال الدعم والمساعدة الاخرى. وفي الحقيقة، لا أدري إن كان هذا الخبر المنسوب لوزارة المالية في الأصل صحيحاً، إذ لم يصادفني في موقع آخر. على كل حال، وبالنظر إلى أن الاستثمار الأجنبي يُروِج له البعض منذ زمن طويل بحسبانه العصا السحرية التي ستُخرِج بلادنا من أزماتها المتلاحقة، فقد أصبح من الضروري في نظري، ونحن في هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا، دراسة هذا الأمر بتمعن بهدف الوصول إلى امتلاك رؤية واضحة تقود إلى تطبيق سياسات صائبة تضع مصلحة السودان فوق كل اعتبار آخر. وفي اعتقادي، أن من بين أهم مظاهر عدم وضوح الرؤيا في تناول الشؤون الاقتصادية في بلادنا التي أضرت بنا كثيراً، أنه لم يتم فيما مضى التمييز بدقة بين الاستثمار الأجنبي في قطاع الزراعة والاستثمارات الأجنبية في القطاعات الأخرى، بل اُعتُبِر كل استثمار أجنبي أياً كانت صفته بمثابة إضافة قيمة للنشاط الاقتصادي عندنا تستوجب الإشادة والاحتفاء بها. ولهذا الطرح مخاطر جمّة نظراً للطبيعة المختلفة للقطاع الزراعي (وبدرجة أقل لقطاعات الموارد الطبيعية الأخرى) عن القطاعات الصناعية والخدمية. ويكتسي هذا الأمر أهمية خاصة، لأن القطاع الزراعي هو في الوقت الحاضر ما يجذب جُلّ اهتمام الراغبين في الاستثمار في بلادنا من الأجانب.
لا يصعُب على المتابع للشؤون السودانية أن يلاحظ أنه يندر أن تأتي سيرة السودان الاقتصادية دون أن يسبِقها التنويه إلى ثرواته الطبيعية الضخمة، متلواً بالحسرة على عدم استغلالها، والمطالبة المُلِحة بفتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي لاستغلالها. ويفترض هذا الطرح أن الاستثمار الأجنبي في حد ذاته سيضمن، وكحقيقة مسلم بها، خروج البلاد من أزماتها، ورفع مستويات المعيشة لجموع الشعب السوداني. مما لا شك فيه بالطبع، أن السودان يملك حجماً مُقدّراً من الأراضي الصالحة للزراعة. كما يحظى بوفرة نسبية في المياه، من الأمطار الموسمية ومن المخزون الجوفي، وبدرجة ربما أقل من مياه النيل (التي له فيها الحصة الأصغر من الناحية المُطلقة، ومن حيث المقارنة مع حجم الأراضي الصالحة للزراعة لديه.) كذلك يزخر السودان بالمعادن التي تم استخراج بعضها، وتلك التي تشير الشواهد إلى توفرها وهي بعدُ مطمورة في أراضيه الواسعة.
ولكن جمهورية الكونغو غير البعيدة عنا، تملك أيضاً القدر الوفير من الموارد الطبيعية، والتي ساقت المُستغلين الأجانب إليها، لتجعل من تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، قصة شبيهة في بؤسها بمُسلسلات الرعب، من شدة هولها على مواطني الكونغو العاديين. وبعيداً عنا وعن الكونغو أيضاً، هناك البرازيل، والتي سبق للجنرال ورئيس الجمهورية الفرنسي السابق ديغول وصفها بالعبارة الشهيرة: "البرازيل كانت لديها دائماً الإمكانات، وستظل كذلك". وهو قولٌ لاذعٌ يزعم بأن البرازيل لن تُحقق أبداً المستوى الاقتصادي الذي بوسعها بلوغه من حيث الثروات الطبيعية التي تنعم بها. وعلى الرغم من أن البرازيل قد حققت في الواقع نجاحات لا بأس بها في المجال الاقتصادي في السنوات الأخيرة، إلا أن أعداداً ضخمة من البرازيليين ما زالت قابعة في وهاد الفقر والتهميش، مع وجود فوارق مهولة في الدخول ومستويات المعيشة بين البرازيليين، واتسام الحياة السياسية فيها خلال معظم الفترات الماضية بممارسات فساد واسعة الانتشار.
في المقابل، هناك نموذج اليابان وكوريا، إلى جانب عدد آخر من الدول فقيرة الموارد الطبيعية. ولكن، وللمفارقة، فإن هذه الدول هي بالتحديد تلك التي تمكنت من تحقيق مُعدلات مُذهِلة من النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة لشعوبها. وكان سلاحها الأساسي في ذلك هو العنصر البشري لديها، الذي أحسنت الاستثمار في توفير التعليم الحديث له وتأهيله وتدريبه، وغرس قِيم الإيمان والاعتزاز بالوطن في وجدانه. وهناك، قبل هذه الدول، نموذج الدول الأوروبية الاستعماريّة، وهي أيضاً دول قليلة الموارد تمكنت هي الأخرى وقبل وقت طويل من تطوير قُدرات العنصر البشري لديها. ولكن تحليل نجاحات هذه الدول لا يمكن أن يتم بالطبع، بمعزل عن أسلوب الغزو والسلب الذي انتهجته في بناء ثرواتها، مما قد "يُغبش" صورة تقييم دور العنصر البشري في نهضتها.
بالعودة للسودان، نلاحظ أن نسبة الأمية فيه ما تزال تزيد عن الأربعين في المائة، وأن معظم من تلقى تعليماً من المواطنين والمواطنات لم يتعد تعليمه المراحل الأولية، وأنه لا وجود يُذكر تقريباً لخدمات التأهيل والتدريب خاصة للكوادر العاملة في القطاعات الزراعية والريفية. وبمعنى آخر، فإن معظم العاملين في هذه القطاعات، وهم أغلبية السكان، يمارسون نشاطهم بنفس الطريقة التقليدية المتوارثة عن الجدود، مع استخدام محدود لبعض الآليات الحديثة. وحتى بالنسبة للذين تهيأت لهم الظروف للحصول على تعليم جامعي أو فوق المرحلة الثانوية العليا في السودان، فقد عانوا الأمرّين، خاصة في السنوات الأخيرة، من ضعف نوعية هذا التعليم، نتيجة للقصور الشديد في الموارد التي خُصِصت له. وبينما لا يُخالجني شك، بحكم المعاشرة والتجارب، وبحكم السن أيضاً، في المستوى المرتفع لمعدل الذكاء والاستعداد الفطري لدى الفرد السوداني، المُتعلِم والذي حرمته الظروف من التعليم، إلا أن ذلك في حد ذاته ليس كافياً.
لا بديل في هذا المجال، إنا كنا جادين حقاً في السعي للحاق بركب الأمم التي تقدمتنا، عن تركيز جهودنا التنموية، أولاً وقبل كل شيء آخر، على تجويد تعليم أبناء وبنات هذا البلد، وتدريبهم وتأهيلهم بشكل مستمر لضمان إتقانهم للمعارف العصرية. وأبناء وبنات هذا البلد تعني جَمْعهم كلهم، وفي أي بقعة منه يعيشون، في الأطراف البعيدة أو في أحزمة الفقر المحيطة بالمدن. والدافع لذلك ليس فقط أن التعليم حق إنساني مشروع، ولكن لأنه أيضاً وبدون إعطاء فرص متساوية في التعليم للجميع لن يتسنى لنا أبداً التأكد من أن بعض أفضل العقول لدى صغارنا لم تضع هدراً، فاحتمال ميلاد شخص متوقد الذكاء لأبوين مُعْدمين يعيشان في أكواخ المهمشين لا يقل عن احتمال ميلاده لأبوين من المُوسِرين. هذا هو السبيل الوحيد المضمون لتحقيق نهضة حقيقية ومستدامة في السودان، فالحديث المُكرر عن مواردنا الطبيعية التي يندر أن يوجد لها مثيل في بلد آخر، كما لا نتعب نحن وقادتنا من الترديد، هو من قبيل وضع العربة أمام الحصان.
وليست تلك هي المشكلة فحسب، فهناك جانب بالغ الخطورة لم يتم تناوله كما يجب وكما يستحق. فعندما يوجد بلد زاخر بالموارد الطبيعية، ولكنه يعاني في نفس الوقت من جوانب عُدة من القصور في العنصر البشري لديه، فإن هذا البلد مُعرض على الدوام لتكالب الطامعين والمغامرين الأجانب على موارده، خاصة عندما لا يوجد شاغل لدى القائمين على أمره، بسب إخفاقِهم البيّن في النهوض به، سوى إطلاق النداءات المستمرة للخارج وتكثيف الدعاية حول موارده الطبيعية غير المُستغلَّة- مما قد يدخل في باب تنبيه الغافلين-.
وقد قدمت سلطة الإنقاذ عبر سنوات حكمها الثلاثين الدليل لمن يحتاج إلى دليل على خطورة الاستثمار الأجنبي غير المدروس. فقد فتحت هذه السلطة الأبواب للدول الطامعة في موارد السودان، وللمغامرين الأفراد، للاستثمار في ثروات السودان الطبيعية، ووفرت لهم من الإعفاءات الضريبية والامتيازات السعرية وغيرها من الامتيازات، ما لا يكاد يُصدق عندما تسمع به. وكانت محصلة كل ذلك صفراً كبيراً لجموع الشعب. فلم تُحدِث هذه الاستثمارات أثراً يُذكر في توظيف أبناء الشعب السوداني وتقليل البطالة وسطهم، أو في تحسين معيشته، بل ازدادت في الواقع معاناة الناس الذين اُضطروا لقضاء جُل يومهم وهم يتنقلون بين صفوف الخبز وصفوف الوقود وأنابيب الغاز، ليعودوا في نهاية اليوم إلى بيوتهم، وهم وجِلون من احتمالات انقطاع التيار الكهربائي وعدم توفر المياه. وليس هذا بالأمر العجب، فالعقل والمنطق يُبينان أن الاستثمار لا ينبغي أبداً أن يُنظر إليه بحسبانه هدفاً مطلوباً في حد ذاته. فقيمة الاستثمار يجب أن تتحدد فقط بمقدار الفائدة الصافية التي تترتب عليه وتُجنى منه.
أشد أنواع الاستثمار الأجنبي ضرراً، في اعتقادي، والتي شهدناها خلال فترة الإنقاذ، هو الاستثمار الزراعي. فبعكس الاستثمارات في قطاعات الصناعة والسياحة مثلاً، التي لا تُكلف الدولة المُستقبِلة لها شيئاً ثميناً تقدمه في المقابل سوى قطعة الأرض، محدودة المساحة والقيمة، اللازمة لإقامة المنشأة الصناعية أو السياحية، والخدمات ذات الصلة بها، فإن الدولة التي تفتح أبوابها للاستثمار الزراعي الأجنبي، عليها بالضرورة توفير الأراضي الصالحة للزراعة، وما هو أهم من ذلك ربما، المياه التي تُروى بها هذه الأراضي. وبحسب بعض التقديرات، فإن القيمة السوقية الحقيقية للأراضي الزراعية ومياه الري قد تصل إلى ثُلثي القيمة الحقيقية للمشروع الزراعي المُزمع إقامته.
ولهذا السبب بالتحديد، أي للقيمة العالية لهذين العنصرين، فإن معظم دول العالم لا تسمح فيما يبدو بالاستثمار الأجنبي في الزراعة، أو هي تضع عليه قيوداً كبيرة، وذلك بالإضافة إلى مراعاتها، عندما تسمح به، للاعتبارات التي تضمن حماية الأمن الوطني وتفادي الوقوع في فخ استحواذ الأجانب على الأراضي الزراعية ومياه الري. وتقوم بعض الدول، بدلاً عن السماح بالاستثمار الزراعي الأجنبي فيها، بالاقتراض لتمويل استثماراتها الزراعية إن لم تتوفر لديها الموارد محلياً.
ففي تقرير أعده " المعهد العقاري لبريتش كولومبيا (كندا) " * حول السياسات والأساليب المُتبعة في عدد من الدول تجاه ملكية الأجانب للأراضي الزراعية، ذُكِر أن مجموعة من الدول، من بينها روسيا وأستراليا والصين وأوكرانيا وإسرائيل والأرجنتين والولايات المتحدة ونيوزيلندا وفرنسا، تُطبِق بشكل من الأشكال حظراً على تملك الأجانب للأراضي الزراعية، أو هي تفرض قيوداً للحدِ من ملكية الأجانب (أو غير المقيمين في البلد) للأراضي الزراعية. والمعروف أن روسيا، هي أكبر دول العالم مساحة وأكبرها حجماً من حيث توفر الأراضي الزراعية، ومع ذلك لا تسمح روسيا بملكية الأجانب للأراضي في المناطق الحدودية والحيوية، كما أن الأجانب لا يحق لهم في غير هذه المناطق تملك ما يزيد عن 50 في المائة من مساحة قطعة الأرض الزراعية المعنيّة. أما أستراليا، وهي أكبر البُلدان المشمولة في التقرير، من حيث حجم الأراضي الزراعية نسبة لعدد السكان، فقد أظهرت بياناتها المتاحة حتى عام 2017 أن 88 في المائة من الأراضي الزراعية فيها مملوكة بالكامل للأُستراليين. ومع ذلك، وللحدِ من زيادة نسبة تملك الأجانب للأراضي الزراعية، أعلنت أُستراليا في عام 2018 خطة لتحجيم الملكية الأجنبية لهذه الأراضي بشكل أكبر حماية للأمن القومي. ولم يكُن خافياً أن الدافع لذلك راجعٌ إلى تخوف السلطات الأسترالية من الاستثمارات الصينية الكبيرة في هذا المجال الحيوي. كذلك لا تُخفى على أحد إمكانات القطاع الزراعي الكبيرة في كل من الولايات المتحدة وأوكرانيا والأرجنتين وفرنسا، والتي تقوم بصورة من الصور بتطبيق سياسات تعمل على حظر ملكية الأجانب للأراضي الزراعية فيها كما جاء في التقرير.
وتنبغي الإشارة، إلى أن كل الدول تقريباً الواردة في التقرير تتمتع بنظم حُكم راسخة وبمؤسسات قوية، كما أن القطاع الزراعي في مُعظمها لا يُشكل في الواقع أهم مُرتكزات النشاط الاقتصادي، فهي دول تستند بالدرجة الأولى على قطاعات صناعية وخدمية متطورة. ورغم ذلك، وكما أوضح التقرير، فإن القطاع الزراعي في أغلب هذه الدول يُحظى بمُعاملة خاصة تستهدف منع وقوع الأراضي الزراعية ومياه الري في قبضة الأجانب.
وإذا ما كانت هذه الدول المُتقدمة الخالية من النزاعات الخطيرة، تُبدي تخوفاً من عمليات استحواذ الأجانب على أراضيها الزراعية من منظور مصالحها الحيوية وأمنها القومي، فمن باب أولى أن تقوم دولة كالسودان، أنهكتها سنوات النزاع والاقتتال الطويلة والإدارة السيئة، بإيلاء أولوية قصوى، بعد ثورتها المجيدة، للسياسات الواجبة الإتباع حيال القطاع الزراعي، الذي يُساهم بالنصيب الأكبر في النشاط الاقتصادي ويعمل به أغلب السكان.
وفي هذا الخصوص، يجب أن يكون من المُفترض ومما لا يحتاج إلى كبير بُرهان، عند بحث هذا النوع من الاستثمار في حالة قبول مبدأ الانخراط فيه مع أطراف أجنبية، دخول الدولة المُستقبِلة للاستثمار شريكةً مع الجهة الخارجية المُستثمِرة، بحجم القيمة السوقية لهذين العنصرين (الأراضي الصالحة للزراعة والمياه) التي يتم التوافق عليها بطريقة مُنصِفة وشفافة. كما يجب بالإضافة إلى ذلك، أن يكون نوع المشروع المقام نفسه ومنتجاته، مما يتلاءم وأهداف خطة التنمية في البلاد، وضرورات المحافظة على استدامة صلاحية الأراضي للزراعة وعدم استنزاف المياه بصورة غير قابلة للاستدامة، إضافة إلى مراعاة الاعتبارات المتعلقة بحماية الأمن الوطني.
ويلاحظ في هذا الصدد، أنه لا توجد للأسف معلومات حكومية يمكن الركون إليها، حول طبيعة الاتفاقات التي تمت في عهد سلطة الإنقاذ، وشروطها إن كانت هناك حقاً ثمة شروط لها. كل ما رشح من معلومات هو أن حكومة الإنقاذ منحت حكومات عربية ومُستثمرين عرب، ودولاً وأفراداً من الأجانب الآخرين، مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية بعقود إيجار طويلة الأجل بشكل مذهل، ربما ناهزت المائة من الأعوام في بعض الحالات، وهو ما لا يختلف كثيراً من الناحية العملية عن تمليكها لهم بشكل صريح ومُباشر. كما أشارت المعلومات سابقة الذكر، إلى أن تلك المساحات الشاسعة قد تم منحها بمبالغ إيجار ضئيلة لا تكاد تُغطي في بعض الحالات تكلفة توصيل خدمات الكهرباء، كما اشتكى أحد المسؤولين الحكوميين أنفسهم ذات مرّة. ودفع ذلك العديد من الناس، في غياب المعلومات الحكومية الموثوق بها، لاعتبار المسألة شكلاً جديداً، في الواقع، من أشكال السطو على الأراضي التي عرفتها بعض دول العالم الثالث في الفترات المُظلِمة من تاريخها.
لكل ذلك، أرى من الواجب علينا أن نتريث قليلاً، ونأخذ نفساً طويلاً كما يُقال، قبل أن يستبد بنا الحماس ونشرع في التحدث عن مواردنا الطبيعية الهائلة نادرة المثال، التي ستحيل بلادنا إلى جنة من جنان الدنيا. لا أقصد من ذلك، وبكل تأكيد بث أي قدر من الإحباط في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا، فكل ما أرمي إليه وأتمناه هو أن نتعامل بعقلانية وحكمة مع قضية الموارد الهائلة هذه. وأن نضع نصب أعيننا على الدوام الحقيقة البسيطة التالية، وهي أن كل موارد الدنيا لن تحدث أي نهضة مستدامة على المدى الطويل عندنا، إن لم نُعِد ترتيب أولوياتنا وخططنا، بتركيز جهودنا في البداية، وقبل كل شيء، على تنمية وتطوير العنصر البشري في بلادنا. ومن الخير لنا ولأجيالنا القادمة في اعتقادي، أن تبقى الموارد محفوظة في باطن أرض بلادنا الطيبة، بدلاً عن التفريط بها وإتاحتها للطامعين فيها من الجهات الأجنبية بهذه الطريقة غير الراشدة.
*Non-resident Ownership of Agricultural Property: A review of policies from around the world January 2019
https://www.reibc.org/_Library/Research/Policies_Non-resident_Agricultural_Property_v4_final.pdf
محمد الحاج-كندا
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.