أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تكا شاك.. تكا شاك.. تكا شاك.. تكا شاك: ملاحقة الصوت اللامتناهي في المسارات اللانهائية لأصداء "الكمبلا" .. بقلم: أحمد حسب الله الحاج
نشر في سودانيل يوم 10 - 10 - 2020


ها يوم الجمعة بالغبطة – أشرق
صخبٌ وشرابٌ من بغو
وكنجي مورو... وعرق
وثغاءُ قرابين دمها يُهرق
وأناسٌ تعبقُ بالأفراح
وتسعى في طربٍ - مثلك
تكا شك تكا شك
تكا شك تكا شك
إيقاع الكمبلا محتدمٌ لا شك
اليوم جمعة، ويناديك الضجيج فتتقدم نحوه، ثم يصلك الإيقاع المحتدم للكمبلا:"تكا شاك .. تكا شاك"، وقبل أن تصل إلى مكان انطلاقه يأخذ جسدك في التأرجح كأنه يتصرف من تلقاء ذاته. ويتأرجح وتتقدم ثم تتوقف لتعود بعدها لتتقدم مُختالاً. وقد يلحق بك وقار مجروح الشهادة يُزين لك الرزانة والرصانة، ويعظك أن لا تقترب من فوح روائح البغو والكنجي مورو والعرق، ويشير عليك بأن تُمسِك عن التأرجح لتكتفي فقط بالنظر والسمع. ولكن هنالك نزغ داخلي ينبض، ونزق باطني يرفض يجرانك إلى قلب الساحة. فالأجساد هنا ترقص، والأشجار هنا ترقص، والكلمات هنا ترقص، والألوان هنا ترقص، والرقص هنا يُعدي، والشعر يُغريك بأن تُهذي وبأن تطلق لنفسك العنان، وبأن تقبل، وأن تُذعِن، وأن ترضخ، وأن ترفض. وبعيداًعن ذلك الصخب، وأنت تقرأ عنه في "كمبلا.. كمبلا" يحق لك أن تسأل ما هو الشعر؟ هل من الممكن أن يكون شيئاً آخر غير الذي حدثوك عن أنه الكلام الموزون المقفى؟ ولن تحتاج لطويل وقت قبل أن تدرك أنه شيئ غير ذلك تماماً. أما أنا فأظن أنه أشياء أخرى عديدة تختلف باختلاف من يتناوله نظماً أو قراءة. ولكن التعريفات التي تغريني وتغويني وتجعلني أعود لأستنجد بها من حين لآخر فهي تلك التي فاضت بها قرائح الشعراء الذين استخلصوها من رحيق قصائدهم، أو حصلوا عليها من ثرِي تجاربهم، أو جادت بها رقيق وجامح مخيلاتهم. ولذا فقد يكون الشعر عند بعضهم قنديل أخضر (نزار قباني) أو خيالات سكرى (محمد سعد دياب)، أو "دفقة من الفرح والألم والعجب، مع اندفاعة من القاموس." (جبران خليل جبران)، أو اقتباسات من نفس الرحمن (عباس العقاد)، أو رسم بالكلمات (نزار مرة أخرى)، أو "مرآة تعيد الرونق لما تم تشويهه" (شيللي)، أو "تأليه الواقع" (إديث استويل)، أو "العواطف التي وجدت أفكارها، والأفكار التي وجدت كلماتها" (روبرت فروست). ونحن نقرأ "كمبلا.. كمبلا" نشعر أن الشعر هو كل ذلك وغيره، وغيره كثير.
وأنت تستعيد أي مقطع من مقاطع "كمبلا.. كمبلا" لن تفوتك ملاحظة أن عبد الله محمد يجيد الوصف والتصوير. فهو يرسم بكلماته لوحة تراها بعين الخيال مثلما تراها بعين الحقيقة وهو يصف لك رقصة أسطورية تدق على أبواب الخلود. يفعل ذلك وهو يأخذك في مسيرة راقصة يتقدمها رجل فذ يتبعه بشر مذهلون. ويحدثك عنه وعنهم ويفتح لك باباً عريضاً على مصراعيه لتشاهد تجليات حاضر ومستقبل ومشاغل ومشاعر وقضية وهوية. ومع تدفق الغنائية علناً، فإن "كمبلا.. كمبلا" تضم بين سطورها خطاباً مكثفاً يُفصح عن مكنوناته من خلال سردية مدهشة "لمشهد أسطوري"، وفقاً لتعبير بروفيسور دنكان بيل في تأطيره لمفهوم Mythscape (المشهد الأسطوري). ويحاول دنكان بيل من خلال هذا المفهوم البحث عن مداخل لفك طلاسم التعقيدات الناتجة عن التراكم المُضلِل وغير المحسوم لقضايا التاريخ (المزور)، وتداعيات الذاكرة (الانتقائية)، وتجليات الهوية (المراوغة). والمشهد الأسطوري عند دنكان بيل مجال خطابي يمتد زمانياً كما يتبدى مكانياً. ويدرك بروفيسور بيل، كما يدرك الكثيرون منا، أننا قد تجرعنا حتى الثمالة، وتعاطينا حتى الإدمان، خليط تزوير أساطير الأمة (السودانية هنا) ونقلها والتفاوض بشأنها، ليس بنية توظيفها ايجابيا، وإنما بقصد ترميم بنائها وإعادة سردها باستمرار بغرض التعمية والتمويه. ولكن عبد الله محمد يفعل هنا، من خلال قصيدة تبدو بريئة للغاية، شيئاً مغايراً تماماً، إذ أنه من خلال التعبير الشعري عن مكونات المشهد الأسطوري ينجح في خلق علاقة ديناميكية بين الذاكرة القديمة والمتجددة، وكذلك تعزيز قدرة الأسطورة المتجذرة في وجدان الأفراد والجماعات لكي تعيد إنتاج نفسها في حيوية تُعاند القهر والقمع والعسف.
ومثلها في ذلك مثل معظم ابداعات الفن العظيم، فإن "كمبلا.. كمبلا" عبد الله محمد تستدعي، وتحتفي وتحاور بعض إبداعات الشعراء الكبار، ومن بين ما تستدعيه "الهونكي تونك في كليفلاند، أوهايو" لكارل ساندبيرغ. ومن بين أشيائهما المشتركة onomatopoeia أي المحاكاة الصوتية. كما أن الإثنتين تعبران وتعربان أيضاً عن احتفائهما بتقليد موسيقي راسخ ومتميز.
It's a jazz affair, drum crashes and cornet razzes.
The trombone pony neighs and the tuba jackass snorts.
The banjo tickles and titters too awful.
هذا أمر يتعلق بموسيقى الجاز،
الطبل تحطم والكورنيت يسخر منه.
لمهر الترومبون صهيل ولجحش التوبا شخير.
وللبانجو دغدغة وثرثرة وعويل.
وقد أغراني الحديث عن الجاز بالحديث عن "البلوز"، وكدت للحظة أن استسلم لذلك الإغراء لأتوقف قليلاً عند لانجستون هيوز في قصائده عن هارلم وبخاصة "البلوز المُرهَق"، ولكن لتفادي إغراق "كمبلا.. كمبلا" في فيض الأشعار الإنجليزية قررت أن لا أفعل. وأعود لأقول في محاكاة لاستهلال ساندبيرغ، إن الأمر هنا يتعلق بالكمبلا، رقصاً وإيقاعاً وتعبيراً عن وجدان:
إيقاع الكمبلا محتدمٌ لا شك..
جمعٌ يتمايل..
أقدامٌ تسعى مرحاً وجلاجلها صخباً تحتك..
أعلامٌ وسياطٌ تعلو..
وأهازيج
وقرونٌ في الهامات
وأقنعةٌ
وعصٍ تصطك..
ولا أظنني بحاجة إلى تحديد جميع ألفاظ المحاكاة الصوتية onomatopoeia، ولكن لا بأس من الوقوف عند "محتدمٌ لا شك" و"جلاجلها صخباً تحتك" و"عصٍ تصطك". كما أني لا أريد ألتوقف لبحث من أين أتت المحاكاة الصوتية في القصيدة: هل نتجت قصداً من براعة النظم أم جاءت انعكاساً تلقائياً للمعايشة اللصيقة لرقصة الكمبلا، فمن الواضح أن العاملين قد تضافرا لينتجا هذه المحاكاة الصوتية التي تأسر الأذن، وتعتقل السمع، وتساعد العين على أن ترى بشكل أفضل. كما يمكن القول إن شاعرية عبد الله محمد الفياضة قد تماهت تماماً مع ايقاع الكمبلا لتجعل من تلك المحاكاة الصوتية ليس فقط أمراً ممكناً ومستحسناً، وإنما أيضاً تدافعاً مزمجراً من حروف الصاد والحاء والكاف تلتحم وتنفك كفحيح المزامير المتقطعة والمتلاحقة، وتعلو وتهبط كضربات الأقدام المتسارعة التي تتفاعل مع النداءات الصريحة لدعاوى الفتوة والفحولة. وتأخذ المحاكاة وتضيف إلى زخم الأيقاع المهيمن المتقطع والمتدفق في ذات الوقت، وهو إيقاع الكمبلا الذي تتضافر لتصنعه المزامير والجلاجل والكشاكيش واصطكاك العصي وضربات الأقدام وهزيم أصوات الرجال، وحتى حفيف فروع النيم.
والمحاكاة الصوتية إذا توخاها المرء، فسيجدها في انتظاره في الكثير من تعبيرات الشعر العالمي. ولكني أحصر نفسي هنا، قسراً لا اختياراً، على بعض نماذج الشعر الإنجليزي مثل ترتيلة فيكتوريا ريوم "قصيدة رقصة المطر"، والكثير من قصائد الفريد لورد تنيسون، وإدغار ألان بو، وروبرت براونينق مثل "عازف المزمار من هاملين" التي أقتطف منها:
There was a rustling that seemed like a bustling
Of merry crowds jostling at pitching and hustling,
Small feet were pattering, wooden shoes clattering,
Little hands clapping and little tongues chattering,
And, like fowls in a farm-yard when barley is scattering.
كان هناك حفيف بدا وكأنه اصطفاق
من حشود مرحة تتأرجح بين نصب واصطخاب،
أقدام صغيرة تثرثر، وأحذية خشبية تتناثر،
أياد صغيرة تصفق وألسنة صغيرة تثرثر،
مثل طيور حول شعير تشتت ساحة حقل تتحلق.
وكما أسلفت فإن إبداعات المحاكاة الصوتية الشعرية ليست قاصرة على الشعر الإنجليزي. ولا بد من التنويه هنا إلى المساهمات اللغوية النظرية الرائعة للغويين العرب القدامي الذين كتبوا بعمق واستفاضة في علم الصوتيات، مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي في "العين"، وأبو الفتح عثمان بن جني في "الخصائص" وغيرهما. وعلى سبيل المثال أسوق هنا بعضاً من اللمحات البارعة لابن جني يتناول فيها تبادلية العلاقات بين الأصوات والمعاني عندما يقول:"فإن كثيراً من هذه اللغة وجدته مضاهيا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا: قضم في اليابس، وخضم في الرطب. وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف". وكذلك قالوا "صرَ الجندب فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا "صرصر البازي" لما هناك من تقطيع صوته."
لقد رصد اللغويون العرب، وهم يدللون على حميمية العلاقة بين الأصوات والمعاني، كثيراً من الألفاظ التي تدلل على ذلك مثلما نجد في حفيف الشجر، وفحيح الحية، وحنين الناقة، وخرير المياه، ودَويّ النحل، ورنين القوس، وزئيرالأسد، وصَئِيّ الفأر، وصرير الباب، وصفير النسر، وصليل السيف والنصل، وضغيب الأرنب، وطنين الذباب، وعويل الباكي، وغطيط النائم، ونعيب الغراب، ونقيق الضَّفْدَع، ونهيق الحمار، وهدير الجمل، وهديل الحمامة، وهرير القط،، وهزيم الرعد.
وفي هذا السياق كنت قد ترددت قليلاً قبل أن استقر على استخدام لفظة "شخير" مفضلاً إياها على "شحيج" في ترجمتي لبعض أبيات قصيدة ساندبيرغ "الهونكي تونك في كليفلاند، أوهايو". وذلك لأنه على الرغم من أن الأولى هي الأقرب في الترجمة إلى كلمة snort التي يستخدمها ساندبيرغ فإن في شحيج غرابة تقربها من لغة الشعر. وفي الاثنتين محاكاة صوتية مثل تلك التي نجد في الكثير من الأصوات التي تصدر عن الحيوان، وأيضاً عن الجماد في بأقدار متفاوتة في جميع اللغات، وهنالك وجود خاص لها في شعر الهايكو الياباتي.
وعودة إلى الديار، وإلى الشعر السوداني المعاصر، فإن الحديث عن المحاكاة الصوتية في النصوص الشعرية لن يكتمل ما لم نقف عند رائعة محمد المهدي المجذوب "ليلة المولد":
وهُنَا حَلْقةُ شَيْخٍ يَرْجحِنُّ
يَضْرِبُ النَّوبة ضَرباً فَتَئنُّ
وتُرِنُّ
ثُمَّ تَرْفَضُّ هديراً أو تُجنُّ
وحَوَاليْهَا طُبُولٌ صَارِخاتٌ في الغُبارِ
حَوْلَهَا الحَلْقَةُ ماجَتْ في مَدارِ
نَقَزتْ مِلءَ الليَّالي
تَحْتَ راياتٍ طِوالِ
كَسَفينٍ ذي سُوَارِ
في عُبابٍ كالْجِبَالِ
و"كمبلا.. كمبلا" تشارك "ليلة المولد" بعض المحاور التي تدور حولها، وتلك هي محاور المحاكاة الصوتية، والموسيقى التي تتبدى ليس فقط كوزن وقافية وروي، وإنما أيضاً كشاغل، ومثلها الرقص. و"كمبلا.. كمبلا" بحكم اسمها وموضوعها وبراعة صياغتها تتقدم مختالة ومتوثبة في آن واحد لتأخذ طريقها إلى قلب حلبة ملؤها الضجيج والصخب. وهي إذ تفعل ذلك تقف كتفاً لكتف إلى جانب أخريات رائعات مثل "إيموجين" للسير هنري نيوبولت، و"لا أستطيع الرقص على أصابع قدمي" لإميلي ديكنسون، و"دانسي روس" لويليام كارلوس ويليامز، و"كارمن دي بوهيم" لهارت كرين، و"تارانتيلا" لهيلير بيلوك، و"رقص الأطفال" للورنس بينيون، و"راقصات جاوا" لآرثر سيمونز. وجميعها قصائد تتقمصها روح الرقص التي تجعل حروفها تتمايل، وكلماته تتثنى، وعباراتها تتأرجح وتلتف وتدور على رجع الإيقاع.
وأضيف إلى تلك الروائع قصيدة "توازن" التي اقتطع منها:
خرج الوقت
دخلت الراقصة
وقفت تجرِّب أعضاء جسدها
كما يجرِّب المو سيقي أوتار آلته
وحين إطمأنت له
تركت قدمَها اليمنى للعالم الواقعي
وصَبَتْ شِقّها الأيسر كالقوس
ألقت بِحَمْلِها ومضت تَطْبَع إيقاعها في الهواء..
ويتملكني إحساس بأني لو قلت إن "توازن" هي لويليام كارلوس ويليامز لما أحتج عليَ أحد. ولكن نظراً لأن المعالجة الثانية التي سأوردها لذات الشاعر كفيلة بأن تكشفني وتعريني رأيت أن لا أركب ذلك المركب الوعر. وهذه الثانية تحمل اسم "بُلو بُلو" الموغل في سودانيته. ويقول فيها صاحبها سيد أحمد بلال "للرقص آونة تمر كأنها قُبل يوجِّهها حبيب راحل، لكنني أراها، أيضاً "جُوّه الاهتزاز.. تبقى طبيعة ثانية." واسم "بُلو بُلو"، كما نوهت، يتسربل من قمة رأسه إلى أخمص قدميه بأثواب المحلية مهيضة الجناح في عالم العولمة شديد الشراسة والتبجح والافتراء. وأجدها سخرية صغيرة من سخريات القدر أنه عندما كنت أعمل مع المخرج الوثائقي العالمي نيد جونسون في فيلمه عن درب الأربعين والذي يحمل اسم "صوت السوط"، سألته: "نيد.. ما الشيئ الذي أثار إعجابك أكثر من غيره في السودان؟" ولم يضع نيد لحظة قبل أن يقول ووجهه يتهلل بشراً: "حنان بُلو بُلو." وكان نيد على يقين من أنها، حنان بُلو بُلو، ما كانت لتكون أقل صيتاً وذيوعاً من مادونا أو شاكيرا، ذلك لو أنها كانت في مكان آخر غير السودان الذي رزح ردحاً من الزمن، ولا يزال، تحت وطأة سياط الوعاظ المأفونين. ومن جهة أخرى، وحتى لا يتهم أحدهم سيد أحمد بلال بالانتحال، أسارع بتوضيح أنه يُقِر بتوظيفه الكامل لبيت المتنبي: "للهو آونة تمر كأنها قُبل يوجِّهها حبيب راحل".
ومع الاحتفاء بالوشيجة السودانية فإني لا أريد هنا مقابلة - معارضة "كمبلا.. كمبلا" بقصيدة "توازن"، وإنما أريد وضعها إزاء قصيدة "راقصات جاوا" لآرثر سيمونز، ليس لأن زامر الحي، الذي هو هنا سيد أحمد بلال، لا يطرب، وإنما لأن رائعة سيمونز تتيح الفرصة للنظر إلى الرقص من منظوري ثقافتين مختلفتين، بل ومتباينتين. ففي "راقصات جاوا" تعمل القصيدة على الإيقاع بالمستمع في حبائلها، مثلما تسعى الراقصة لإخضاع الناظر لسحر غوايتها، بالإيحاء والهمس والصمت واللفتة والإيماء والإصغاء:
Twitched strings, the clang of metal, beaten drums,
Dull, shrill, continuous, disquieting:
And now the stealthy dancer comes
Undulantly with cat-like steps that cling;
خيوط ملتوية، معدن يقرع، طبل يطرق،
باهتة، صارخة، مستمرة، مقلقة:
والآن خلسة تأتي الراقصة
في خطو يحاكي القطة المتربصة
Smiling between her painted lids a smile,
Motionless, unintelligible, she twines
Her fingers into mazy lines,
The scarves across her fingers twine the while.
تطل ابتسامة بين جفونها المطلية،
بلا حراك، غير مفهومة، تلوي
أصابعها في خطوط دائرية،
الأوشحة عبر أصابعها تلف الراهن.
One, two, three, four glide forth, and, to and fro,
Delicately and imperceptibly,
Now swaying gently in a row,
Now interthreading slow and rhythmically,
واحدة، وثانية، وثالثة، ورابعة، وينزلقن جيئة وذهابا،
في رقة وبلا عناء،
يتمايلن بلطف على التوالي،
كتداخل الخيوط بطأ وإيقاعية،
وأنا على يقين من أنه قد ضاع في ترجمتي الكثير من شفافية وعذوبه "راقصات جاوا"، وأيضاً كل ما يصحب ذلك من أريج الطلاوة وعبير الغواية الذي تستنشقه وأنت تقرأ القصيدة في لغتها الأولى. ولكن لو كان "الشعر" قد ضاع في الترجمة، كما يقول روبرت فروست، فهو حاضر في باذخ رونقه وكامل هيبته في "كمبلا..كمبلا"، التي ينادي فيها كل شيئ بأعلى صوته: الأبواق والمزامير والزغاريد وهتافات الصحاب:
وراءك أجسادٌ نضحت
عرقاً يتلألا تحت الشمس
أبواقٌ تزأر في حزم
ومزاميرٌ طاقية الجرس
ونساءٌ شلن فروع النيم
علت منهن زغاريد..
وهتافٌ من أصحاب لك..
قد لا يكون عبد الله محمد في قامة إميلي ديكنسون أو ويليام كارلوس ويليامز - ليس بعد على الأقل - ولكن "كمبلا كمبلا" تضاهي قصائدهم وتنازعها قصب السبق. وتقول لك أن أجمل الشعر ليس أكذبه، وإنما أصدقه، وبخاصة ذلك الشعر الذي يرواد الموسيقى عن نفسها، ويمتطي صهوة الرقص حيناً، وينيخ للرقص قلوصه أحياناً أخرى. وفي الحالين يؤكد ما يقوله بول فاليري عن أن "الشعر بالنسبة للنثر مثل الرقص بالنسبة للمشي."
و"كمبلا.. كمبلا" هي أيضاً مرثية على النسق السوداني، "مناحة" يختلط فيها المدح بالنواح في احتفالية باكية بالحياة، تُذكرنا بأننا لا نرفض الموت، وإن كنا لا نصبر عليه. وفي هذا المنحنى أخذتني "كمبلا.. كمبلا" لتضعني قُبالة مرثية دبليو إتش أودن Stop All the Clocks والتي تعتبر بحق واحدة من أجمل المراثي في اللغة الإنجليزية:
اوقفوا جميع الساعات، اقطعوا كل الهواتف
امنعوا الكلب من النباح بعظم طري،
اسكتوا البيانو ومع طبل مكتوم
أخرجوا التابوت، دعوا المشيعين يأتون.
دعوا الطائرات تئن وهي في السماء تدور
يكتبن في السماء رسالة أنه قد مات،
ضعوا أقواس الكريب حول أعناق الحمائم البيضاء ،
فأودن يبكي صديقه الذي كان له شماله وجنوبه وشرقه وغربه، وأسبوع عمله ويوم راحته، وظهيرته ومنتصف ليله، وحديثه وأغنيته. وفي نعيه له يريد أن يفرض الصمت على كل شيئ. أما عبد الله محمد فإنه يحتفي بحياة إدريس شكر الله الذي كان قائداً لفرقة الكمبلا في مدينة تلودي. والفرق هنا بين مدخلين لشاعرين، كما هو أيضا الاختلاف بين ثقافتين. ثقافة ترى في الرحيل نهاية وأخرى ترى في الموت بداية. هكذا الحال عندنا وعندهم، وهكذا الشأن بيننا وبينهم. وعلى الرغم من جوامع الحزن والفرح نتباين ونختلف، فهم عندما يبكون ينتحبون في صمت، بينما نولول نحن في جلبة وضوضاء معلنين عن الثكل بالعويل و"الثكلبة". ولكننا جميعنا، سواءاً كتمنا نحيبنا أو أطلقنا له العنان، نشعر بألم الفقد ووجع الرحيل.
أما في "كمبلا.. كمبلا" فعلى الرغم من رحيل ذلك الرجل الفذ، وقائد الكمبلا هو بالضرورة رجل استثنائي في تكوبنه البدني وفي حضوره الذهني، فإننا لا نزال نراه يصول ويجول في كامل لباس وعدة وعتاد قائد الكمبلا. ومع صانع الصخب والضجيج فإن الصمت لا يجوز، إذ أن كل ما حوله يدور ويمور ويفور:
ها أنت أمام الجمع تلوج
تختال
كعلم إفريقي
بالألوان يموج
تكسوك مناديلٌ شتى
وإزارٌ من سعفٍ منسوج
وكشاكيش غطت ساقيك
تهشهش لا تنفك
تكا شك تكا شك
تكا شك تا شك
كتب الشاعر الإنجليزي بيرسي بيش شيللي مقاله الشهير "الدفاع عن الشعر" في 1821، وبعد مائتي سنة نجد الشعر يدافع عنا في وطن مهزوم، ويشد من أزرنا في زمن مأزوم، ولا عجب في ذلك: فالشعراء كما يقول شيللي "هم المشرعون غير المعترف بهم في العالم". وقصيدة مثل "كمبلا.. كمبلا" تنتج داخل التاريخ وتنتج خارجه، وستظل تولد وتحبو وتخطو وتركض وترقص وترضى وترفض على الرغم من ثقل التاريخ، وفاقة الحاضر، وإدمان الساسة العجز والتثبيط. وفي زمن العنف وتعدد مرات التوقيع على اتفاقيات السلام، فإن مهمة الشعر هي عقد مصالحة بين الإنسان وبين أحلامه التي تجهض، وطموحاته التي تؤاد، والانكباب بإصرار ومثابرة على إيجاد فرجة نرى من خلالها ما نحن جديرون به. و"كمبلا كمبلا" برغم عذوبة استرجاعها لذكرى رجل ومشهد، ليست مجرد نوستالجيا تغازل القديم وتستدعيه محتفية به، وإنما هي بشكل أساسي تطلع يستشرف الجديد ويبشر به. وإذا كانت رقصة الكمبلا، من خلال قرونها وأقنعتها وذبائحها ومزاميرها وجلاجلها وسياطها وعصيها وأهازيجها وضجيجها، تستحث الرجال لكي يكونوا في جسارة الثيران وهي في عنفوان بطرها وخيلائها، فإن "كمبلا .. كمبلا" في كرنفاليتها المتجذرة والمتجددة محاولة لإعادة اليقين الذي زعزعته صروف الأيام في قدرة الإنسان على الصمود والتحدي. ودون أن أُسقِط عليها أكثر مما تطيق وتحتمل، فهي أيضاً احتفالية ترفض الانصياع للمألوف، ولا تقنع بقبول الواقع على علاته، أو الموافقة عليه بكامل مظاهر ضعفه وقصوره:
ستجوب البلدة
يتبع موكبك الصبيان
وسيعلو إنشاد الميري
صنواً لنداءات الأذان
وصدى من جبل
قد شابته أخاديدٌ خضرٌ ودخان
وضجيج أناس
أنى سرت مضوا خلفك..
"تكا شاك تكا شاك" ونحن نمشي وراء "حفيد المك"، ونشعر أن الشعر في القصيد، كما في الحياة، هو أجمل ما يجمعنا وأنبل ما يتملكنا، وهو أيضاً غاية ما نصبو إليه ومنتهى ما قد نمتلك. وتماماً كما يقول ديلان توماس، الشعر "هو ما يجعلك تضحك، وتبكي وتخترق، وتصمت، ... وهو ما يجعلك تريد أن تفعل هذا، أو ذاك، أو لا شيئ على الإطلاق، هو ما يجعلك تشعر أنك وحدك في عالم مجهول، وأن تعلم أن ما تنعم به من رضا وما قد تعانيه من ضنك هو إرث متاح لك للأبد، وإلى الأبد سيكون هو كل ما تمتلك."
وفي "كمبلا.. كمبلا" يقول عبد الله محمد "للعم" إدريس شكر الله ستمشي، وسيمشي الناس معك. ومع تقدمهم في المسيرة سيشعرون بأن أحزانهم تتناقص، وأفراحهم تزداد، وطموحاتهم تكبر، وأفضل ما لديهم يزداد بهاءاً وألق وهم يمشون معك:
تحدوهم أصوات نفير
ومشاهد قوم من ميري
قد صالوا خلف حفيد المك
تكا شك.. تكا شك.. تكا شك.. تكا شك..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.