أتذكر أنَّ الزمان كان نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات. كنا ثلة من الأساتذة السودانيين والعرب نعمل بالتدريس في جامعة قاريونس (جامعة بنغازي حالياً). كانت الجامعة حقل ألغام أمني، والأجواء بدت مشحونة بشعارات الحرية والتحرر، بالخلاص من الاستعمار الحديث، حسب صفحات وسطور الكتاب الأخضر، ولكنك في الواقع كنت لا تستطيع إكمال جملة واحدة في مدح مفهوم الحرية والتحرر أو أخذه بالنحو السياسي الواقعي حولك. ما كان أدل على ذلك من مداهمات رجال الأمن لنا في قاعات الدرس، وطلب إبطال المحاضرات بشكل فوري، والتوجه إلى قاعة واسعة تتوسط فناء الجامعة لاجتماعات مهمة واستثنائية تجري دون إخطار مسبق. أذكر أنني وزملاء من المدرسين المُداهمين والمُخرجين دوت سابق إنذار من القاعات، كنا لا ندري أو نعلم إلى أين نساق، عندما يتم إخراجنا من روح الدروس، ويتم حشرنا في قاعة لا نستطيع أن تضع أقدامك عليها قبل أن تتعرض للتفتيش الشخصي المهين، واستقبال الأوامر الناهية بالجلوس على المقاعد الخشبية الطويلة بالمدرج العريض. دقائق ويدخل القائد الملهم الذي كان خريجاً من بيوتهم، أو بالأحرى من قصورهم، من خريجي الجامعة في قسم التاريخ. يحضر الزعيم، تحركه رغبات دفينة لإلقاء الدروس على من درسوه، فيبدأ الجميع في ولوج سياحة من الأخطاء المفاهيمية للتاريخ والحاضر والمستقبل، وإياك إياك، وفي تلك الأثناء، أن تتذمر أو تبدي مقاومة صوتية، فنظرات العسس، وعيون الرقابة الأمنية المسلحة تنتظرك بالشر والنوايا القاتلة. يتحدث معمر القذافي عن صدر الإسلام مثلاً، ويفتي بآراء لا تكاد تعثر على مثيل لها في كتب التاريخ عن ذلك أو مقبوليات العقل. فحولك وأمامك حديث سياسي انفعالي أقرب إلى السب والشتيمة لكل شيء لا يمت للتحليل العقلاني الرصين بشيء، ثم ما ينفك الرجل أن يعقب على الواقع العربي والقضية الفلسطينية، فيقلب أعاليها على أسافلها دونما رحمة. يبدأ الجلد بالكلمات، بتخاذل الحكام العرب، وعلاقاتهم واتصالاتهم السرية بإسرائيل، لينتهي بعرفات نفسه، واصفاً إياه أحياناً بالخيانة. أما أمريكا فكانت ذات صحن السب واللعن، يلعن خاشها ولا يبقي على ريغن صفحة يرقد عليها. ساعة وأكثر تمر علينا ونحن في حالة من الاعتقال القسري المؤلم، ثم يتم إطلاق سراحنا لنعود إلى (ثكناتنا) داخل الجامعة مهانين، مقهورين، لا حول لنا ولا قوة. كنا ونحن في ذلك السكن الداخلي للأساتذة، لا نثق حتى في ظلالنا أو غرف البيوت الخشبية المصنعة التي نقطنها بمساحة طرفية داخل مبنى الجامعة. وعندما نعود إلى قاعات الدرس كان إياك وأن يعلق أحد أو يأتي بسيرة ما لحقت به من محاضرة قهرية. كل ذلك كان يعني شيئاً واحداً لا غير، إذا ما أبديت تذمراً، وهو أنك ستساق مقيداً بيد شخص لا يأتي من الخارج، ولكنَّه غالباً ما سيكون أحد طلابك المجندين الجالسين أمامك في القاعة، وكأنَّما هم يتربصون لحظة كتلك ستخطئ فيها، وترتكب المحظور. يا الله، كل شيء كان ممتلئاً بالمخاطرة، إذا ما فكرت أو عبَّرت سياسياً. ولكن إذا أكرمك الله بعلاقة خاصة بأحد الليبيين المعارضين من الأساتذة، فإنك وبلا أدنى شك سوف تحصل على تعقيب بنظرات ساخرة، وعدم رضى مما جرى دون كلام واضح مبين. ليس القذافي وحده كان يحتقرنا، بل ابن خالته أحمد إبراهيم، وزير التعليم العالي آنذاك، والذي كان كلما راودته نفسه بالتنفس في وجوه الأساتذة، يتم تجميعنا له، ويتم إدخالنا إلى القاعة لنشاهد عرضاً أقرب إلى العرض المسرحي منه إلى المحاضرة. فالرجل الذي يكون حضوراً في جلسات تعذيب قائده وقريبه يعود إلينا من النافذة ولم تنقض مدة كافية علينا للعلاج من الأول، ليعيد لنا أداء القذافي متقمصاً شخصيته على ذات الكرسي الهزار، والنظرات المريبة إلى السقف، وشد الرقبة إلى أعلى، وإلقاء القول على عواهنه. أذكر أنَّنا حشرنا ذات نهار في القاعة، وقد مرت شهور على الأساتذة السودانيين دون أن يتمكنوا من تحويل النصف المخصص من الراتب للعملة الصعبة، واستبشرنا خيراً بالدعوة، وأنَّنا سوف نسمع كلاماً طيباً ونشهد انفراجاً، ولكن كان أن انتهت الجلسة دون إحراز أي هدف لصالح القضية، فوقف أستاذ الرياضيات المعروف، وزميلنا في الجامعة، بروفيسور سيد أحمد حاج التوم، يطلب أن ينال فرصة للحديث. وسيد لمن يعرفه شخصية جريئة يقول ما برأسه دون قيود، أبوالسيد كما كنا نناديه خاطب الوزير بشكوى الأساتذة السودانيين، ولكن ما أن اشتم الرجل فحوى الشكوى، وأن للأساتذة السودانيين مسؤوليات وغيره تجاه أهلهم وأبنائهم ببعض الدول الأوروبية التي تستحق التحويل بالعملات الصعبة، كان وبمجرد أن اشتم الوزير الفكرة النقدية لسيد حتى قاطعه قائلاً: "قعمز". و(قعمز) لمن لا يعلم معناها عند الليبيين تعني (اجلس)، المفاجأة كانت في رد أبوالسيد الذي قال فيه: "لا، ما بقعمز". كل العيون في القاعة توجهت إلى سيد أحمد حاج التوم بنحو من الشفقة والخوف، وجميع من في القاعة وبلا استثناء تقريباً توقع اعتقاله واختفائه بعدها. فالاعتقال والاختفاء كان سيد الحلول في مقابلة مثل ذلك (الصلف). ولكن فوجئنا بالوزير يبتسم ويقول له بضحك: "سوادني مش كده؟". (ينادوننا بالسوادنية), فرد سيد: – ايوه. اضطر الوزير أن يفسر ما كان يجري، وقال إنَّ الأمر في طريقه إلى الحل، بعد أن كان من المقرر أن تذهب كل تحويلات السودانيين إلى بنك مشترك باتفاق مع رئيس الوزراء وقتها، الصادق المهدي. تذكرت كل ذلك، وأنا اتأمل الحرب القائمة منذ سنوات بليبيا بعد سقوط ومقتل القذافي، وأجد أن أربعين عاماً من القهر المنظم تبدو كفيلة بإدامة تحريك الأرض تحت أقدام الليبيين الذين صنع إهاناتهم رجل كان فريد زمانه، وسيد نظام يستحق إطلاق اسم نظام وعرض الرجل الواحد عليه، وانظر إلى النهاية البشعة التي انتهى عليها صاحب العرض، وافهم كيف يضحك التاريخ على ضحايا ماكينات السلطة أو القوة المصنوعة من مادة الاستبداد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.