تعد فلسفة الفينومينولوجيا أو الظاهراتية من أحدث الفلسفات المعاصرة، ومؤسسها هو الفيلسوف الألماني اليهودي الأصل إدموند هوسرل الذي عاش من 1859 الى 1938. وتقع أهمية هذه الفلسفة في أنها تقدم معنى للحقيقة يختلف عن كل ما سبقه من فلسفات، وتهتم بدراسة الموضوعات التي تظهر أو تتجلى أمام الوعي.. إلا أن أهم ما يمكن أن يستنتج من منهجها فيما يخص هذا المقال هو أن الحكم في أمر ما بموضوعية تامة يحتاج الى تحييد الذات بإبعاد أية منفعة أو قيمة متعلقة بها من الحكم الذي ستصدره في هذا الأمر. لكن هذا التحييد يكاديكون مستحيلاً لأن خبرة الوعي تتدخل وتفسد عملية التحييد. لكننا، برغم هذا، نجد أن القرآن الكريم يطالبنا بأكبر قدر ممكن من التحييد قبل أن نصدر أحكامنا على الآخرين حين يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَآمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْتَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.» وهكذا نجد أن قمة العدل القرآني تتحقق عندما يحكم الإنسان على نفسه قبل أن يحكم على الآخرين. لذا فإن أدنى مستويات الحكم علىالنفس يكون عندما يبحث الانسان في ذاته عن نفسه ويعترف بأخطائه لنفسه ويردعها. أما أعلى مستويات الحكم على النفس فيكون عندما يعترف الإنسان بأخطائه على الملأ ولا يحمّل عواقب فعله للآخرين، خاصة إذا كان يترتب على فعله هذا عقوبة قانونية من نوع ما. ويحدثنا القرآن بتفصيل أكثر في العدل بأن لا نُنقص الناس حقوقهم وأن ذلك يعتبر فساداً في الأرض: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَالْمُخْسِرِينَ»: «وَزنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ». ولم يتركنا القرآن ولا هوسرل بدون منهجية لكيفية إقامة الحكم الموضوعي. فالقرآن يخبرنا أن الطريق إلى العدل يكون بعدم اتباع الهوى «فَلَاتَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ»، والهوى هنا يعنى كل ما توسوس به النفس الأمارة بالسوء لتحقيق فائدة أو إرضاء شخص أو إقتناص الفرصة للانتقام. والهوى قد نفسره بمفهوم العالم النمساوي سيغموند فرويد (1865-1939)، مؤسس علم التحليل النفسي، بأنه فعل "الهو" أو العقل اللاواعي الذي ينزع للشر ولا يراعي المنطق والأخلاق. وهذا ما يقابل تحقيق منفعة أو قيمة متعلقة بالذات عند هوسرل، ليس هذا فحسب، بل يتعدى القرآن ذلك ليحدثنا عن أن لا تكون معرفتنا المسبقة بالشخص وعيوبه وصفاته وأفعاله المشينة مدخلاً للهوى حينيقول: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا». وهذا ما تنبه له هوسرل أيضاً عندما رأىأهمية تعليق الحكم (أو التوقف عن إصدار أحكام قبلية) لمعرفة الماهية. وقد أستخدم الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (1889 - 1976)، وهو تلميذ إدموند هوسرل، منهج الهيرمنيوطيقا الفينومينولوجية (نظرية التفسير الظاهراتية) في تحليل وفهم النص الديني او الأدبي بتحييد(تقويس) التاريخ، والمعجم اللغوي، ومصدر النص، والإيمان، وإلاسطرة. هكذا نجد أن منهج هوسرل في التّقويس للوصول لماهية الشيئ، لا يختلف عن المنهج القراني في الحكم في أمر ما: 1) تحييد الذات 2) إبعاد الغرض والمنفعة 3) إبعاد المعرفة المسبقة بصفات الشخص/الموضوع ولكن، عند هوسرل، من المستحيل تناول أي ظاهرة بطريقة موضوعية حيادية. ولذا نقول انه من الصعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، تحقيق العدل الكامل أو المطلق في أمر ما. ولهذا تأتي الإشارة القرآنية لطيفة حين تقول إن العدل «أقرب للتقوى»، وفي آية أخري بأن الله لا يكلف نفساً إلا استطاعتها: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَوَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا». وهكذا نجد أن منهج فلسفة هوسرل كامن بصورة ما في ثنايا القرآن مثل كثير من الفلسفات التي أبدعها أو تناولها العقل الإنساني في كلالعصور. وبرغم انه من الصعب أن يضع أحداً أقواساً على ذاته لتحييدها الا انه لا سبيل آخر غير هذا للوصول للحقيقة قدر المستطاع. ولذاسنتّبع هذا المنهج القرآني الفلسفي الهوسرلي عند تناولنا لبعض الفلسفات الإنسانية الاخرى الكامنة في ثنايا القرآن وإمكانية الإستفادة منها، دون تسفيه لآراء الفلاسفة أو الآخرين لأسباب ليس لها علاقة بالحق، كالعقيدة أو الجنس أو الدين أو المذهب وما إلى ذلك. 17 أكتوبر 2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.