برز تياران رئيسيان بين المهتمين بالوضع الاقتصادي في بلادنا فيما يتعلق بقضية الدعم السلعي الذي توفره الحكومة وعلى الأخص دعمها للوقود. فمن جانب، هناك الذين يطالبون بالإبقاء على الدعم حتى لا تتفاقم معاناة المواطنين من غلاء المعيشة فوق ما هي عليه. ومن جانب آخر، هناك الذين يرون أن توفير الدعم السلعي يُشكل العقبة الرئيسية أمام بداية تعافي الاقتصاد السوداني من أزماته المُستفحلة، لأن الدعم مُكلف مالياً ويحِد من الموارد التي كان من الأجدى أن تكون متاحة للإنفاق على القطاعات ذات الأولوية كالصحة والتعليم. كما أن الفئات المستفيدة منه في الغالب تتمثل في قاطني الأماكن الحضرية وأصحاب القدرة المالية الأفضل من مالكي السيارات الخاصة، إضافة إلى أن دعم السلع بشكل عام يُشجع على زيادة استهلاكها، كما أنه يفتح الباب لتهريبها عبر الحدود للدول التي لا تتبع هذا النهج. بالنظر إلى ما تقدم، وفي ضوء التصريح المنسوب لوزير الطاقة المُكلف بأن الحكومة قررت بالفعل إزالة الدعم على الوقود، وتسعير المواد البترولية المستوردة وفق سعر الصرف السائد في السوق الحر، فسأحاول فيما يلي اِستجلاء ما أعتقد أنه جوانب أساسية في هذا الموضوع لم تجد حظها من النقاش الوافي، أو ربما تم تجاهُلها بقصد أو دون قصد. لابد من الإشارة في البداية إلى أنه لا أحد حسب علمي، حتى من بين أشد المؤيدين للإبقاء على الدعم، يُجادل بأن من واجب الدولة تجاه مواطنيها توفير الوقود لهم بأسعار مدعومة. كذلك تجدر الإشارة إلى أن دعم الوقود شأنه شأن أي نوع آخر من أنواع الدعم تستفيد منه بعض الفئات أكثر من فائدة غيرها منه. فعلى سبيل المثال، توفر عدد من الدول الغنية الدعم للمزارعين ومشاريع الإسكان وقطاعات الرعاية الصحية وبعض الصناعات الاستراتيجية. كما أنها، وفي أوقات الأزمات الاقتصادية الكبرى، قد تقدم الدعم للبنوك العملاقة ولأسواق الأسهم لحمايتها من الانهيار. وهذه كلها ترتيبات للدعم لا يستفيد منها عموم الناس، بل تقتصر الفائدة منها على الجهات المستهدفة. وحتى عندنا هنا في السودان، ربما يكون بوسع المرء أن يقول بأن تخصيص الرواتب للدستوريين والقوات النظامية وأياً من منتسبي الدولة بما قد يفوق بكثير ما كان يمكن أن يتقاضوه في أفضل مجالات كسب العيش الأخرى المتاحة لهم لو لم يلتحقوا بخدمة الدولة، هو أيضاً نوع من أنواع الدعم له أثره الضار على الميزانية بزيادته للإنفاق الحكومي فوق الحدود المناسبة. والأمر الذي قد لا يقل أهمية عن ذلك، هو أن الإعفاءات الضريبية الممنوحة للشركات ورجال الأعمال هي بدورها شكل من أشكال الدعم، وهي تُقلص من الجانب الآخر من حجم الإيرادات الحكومية التي كانت ستتحقق بدونها. الشيء الذي يجعل من الدعم مشكلة ملحة، هو عندما يُلاحظ حدوث ارتفاع في تكلفته يستوعب جزءاً كبيراً من موارد الميزانية، وهو الشيء الذي تشتكي الحكومة هذه الأيام من حدوثه. ولكن، هل كان من أهداف الحكومة في السودان بالفعل في وقت من الأوقات تأمين حصول مواطنيها على الوقود بأقل من أسعاره الدولية، كما فعلت بعض البلدان النفطية ذات الانتاج الكبير للبترول؟ أم أن دعم الوقود جاء كنتيجة غير مقصودة، ومن ناحية أخري لا يمكن عملياً تفاديها، لقيام الحكومة في السودان بتبني سياسة سعر صرف ثابت، أو بالأحرى سياسة سعر صرف مُدار تنازلياً، ولكن بمُعدلات تقل عن معدل هبوط سعر صرف الجنيه مقابل العملات الصعبة في السوق الحر، وفي نفس الوقت اتباع سياسة مالية مُنفلِتة وسياسة نقدية غير مُنضبطة لا دور لها سوى توفير التمويل النقدي لعجز الميزانية. كم مرة رفعت حكومات الإنقاذ المتعاقبة سعر بيع المواد البترولية لمستوى الأسعار الدولية، ثم والت الصرف غير المحدود على الحروب وعلى جهازيها الدستوري والنظامي المُتضخمين ليشتعل التضخم، ولتجد الفارق قد اتسع من جديد بين سعر الصرف الرسمي المُدار الذي تستورد المواد البترولية على أساسه وسعر الصرف في السوق الحر، مما يدفعها إلى الشكوى من ارتفاع تكلفة دعم الوقود والمطالبة برفع أسعاره؟ إن العمل بأسلوب سعر الصرف الثابت أو السعر المُدار، وهو ما تشير بعض الدراسات الاقتصادية إلى أنه الأسلوب الأكثر ملاءمة لأوضاع الدول النامية، يتطلب وقبل كل شيء آخر انضباط السياسة المالية الحكومية بحدوث اتساق فيها بين مستوى النفقات الحكومية والإيرادات الحكومية. كما يتطلب العمل بسياسة نقدية رشيدة، وهو أمر لا يسهُل الالتزام به دون تحقق شرط استقلالية المصرف المركزي. وهذه كلها أمور راحت كما هو معروف ضحية للحكم غير الرشيد خلال الأعوام الثلاثين لعهد الإنقاذ، كما أن الصورة للأسف لم تتبدل حتى الآن. لقد نُسِب إلى عدد من المسؤولين الاقتصاديين القول بأن نسبة الإيرادات الضريبية للناتج المحلي الإجمالي في السودان هي من بين أكثر النسب المنخفضة دولياً بالقياس إلى مجموعة البلدان النامية، وهو ما يفاقم من عجز الميزانية الحكومية. ولا يوجد لذلك غير تفسيرين، أولهما أن ما يقوم بدفعه المواطنون لا يصل كله إلى وزارة المالية، أو بمعنى آخر هناك تجنيب للإيرادات الحكومية لفائدة جهات رسمية أخري غير وزارة المالية. ويستند الذين يقبلون هذا التفسير إلى تزايد شكاوى الناس من ارتفاع الجبايات أثناء سني الإنقاذ الطوال. والتفسير الثاني، هو أن الإيرادات الضريبية في السودان هي بالفعل أقل بكثير من المعدلات السائدة في الدول النامية، والتي هي-أي المعمول بها دولياً- المعدلات الضرورية لمقابلة أهداف الإنفاق الحكومي ودفع جهود التنمية في بلدٍ نامٍ. والسؤال الذي لا بد لهؤلاء المسؤولين من الإجابة عليه في هذه الحالة هو سبب هذا القصور في التحصيل الضريبي. هل هو ناتج عن ضعف الإدارة والتحصيل الضريبي، أم عن انخفاض معدلات الضرائب على السلع والخدمات، أم انخفاضها على ضرائب الدخل على الأفراد وعلى الشركات؟ وفي الحالتين الأخيرتين، من هم هؤلاء الافراد الذين لا يدفعون ضرائب دخل أو يدفعونها بمعدلات أقل مما يجب، وما هي تلك الشركات التي تتمتع بالاعفاءات الضريبية أو لا يُستوفى منها القدر المناسب من الضرائب؟ هذه هي الأسئلة الحقيقية التي تجب الإجابة عليها بصورة صادقة وشفافة، إذا كنا جادين حقاً في البدء في معالجة مشاكلنا الاقتصادية بطريقة منهجية وقابلة للاستدامة. أخلص مما تقدم، إلى أن الشكوى من فداحة عبء الدعم السلعي في اقتصاد يعمل بنظام سعر الصرف المُدار، وبعجز مالي حكومي زائد عن الحدود ناجم عن افراط في النفقات الحكومية وضعف بالغ في حصيلة الإيرادات التي تجد طريقها الى وزارة المالية، وما ييسر كل ذلك من سياسة نقدية تغطي هذا العجز بطباعة العملة، هو من قبيل ما يعرف بتعبير "السردين الأحمر" وهو الشيء الذي يستخدم ليصرف الأنظار عن السبب الحقيقي للمسألة المطروحة. من الصحيح، أن وزير الطاقة المُكلف ذكر في التصريح المنسوب له أن المواد البترولية سيتم تسعيرها بموجب سعر الصرف السائد في السوق الحر. ومن شأن ذلك أن تنتفي معه الحاجة إلى دعم الوقود، ولكن سعر الصرف الذي سيسود في السوق الحر، في ظل ميزانية حكومية ذات عجز كبير وسياسة نقدية توفر التمويل لهذا العجز بصرف النظر عن حجمه، لن يستطيع عاقل أن يتنبأ بالمستويات التي سيبلغها. وسيعمل سعر الصرف المُنفلت هذا والتضخم الذي يتغذى به، على رفع الأسعار كافة وليس فقط أسعار الوقود مما سيجعل الحياة لذوي الدخل المحدود جحيماً لا يطاق. ولعل الإشارة تجدر هنا، إلى أن صندوق النقد الدولي الذي عُرِفت عنه مطالبته المتواصلة بإلغاء دعم السلع، لا يُمانع في معظم الحالات أن يتم ذلك الإلغاء بشكل تدريجي مقروناً بحصول الدولة المعنية على تمويل خارجي مُيسر يساعدها على تخفيف الآثار على الفئات المتضررة من رفع الدعم. وأخيراً لعلنا أيضاً نتذكر أن حكومة الإنقاذ، على شدة عدم اكتراثها بمعاناة المواطن العادي، لم تمتلك الجرأة على القيام بتحرير سعر الصرف بشكل مُطلق تحسّباً من تبعات مثل ذلك القرار عليها، لأنها كانت تُدرك أن عجز ميزانيتها الكبير المتواصل يُذكّي نيران التضخم بصورة مُتصاعدة، وأن تحرير سعر الصرف بالكامل في مثل هذه الظروف سيُطلق جنون الأسعار في البلاد مما ستصعُب معه السيطرة على ردة فعل المواطنين المتأثرين.