ما من عاقل يدعي بأن الديمقراطية هي الشكل الأمثل لأن يحكم الشعب نفسه بنفسه، طالما هناك دائماً طبقة أقليات احتكارية تملك الثروة وتسيطر على القرار السياسي من خلف الستار، في نظام رأسمالي بلغ غاية توحشه. ولكن تظل الديمقراطية الآن، وإلى حين إشعار آخر، الصيغة الأقرب إلى تحقيق الحد الأدنى من شروط حكم الشعب، وذلك بحقه في الاختيار بين أحسن السيئين. خاصة في الولاياتالمتحدة التي تمثل النموذج الأسوأ لما يمكن أن يبلغه توحش الرأسمالية. وقد دفع اليأس من قدرة الديمقراطية على تحقيق العدالة وحكم الشعب، بكثير من المفكرين إلى البحث عن بديل لها، إلا أن أغلب – إن لم تكن كل – المحاولات انتهت إلى ما يمكن أن ينتهي إليه اليأس من: فوضوية أطاحت بالدولة ذاتها، أو إلى سيطرة طبقة المظلومين، التي صادرت بدورها حرية كل الطبقات بما فيها البروليتاريا نفسها وكرست ديكتاتورية النخبة الحزبية، أو لجان شعبية كرست حكم الفرد، أو نظام ثيوقراطي أطلق يد الطبقة الدينية باسم الخالق، وغيرها من التصورات التي حاولت أن تحل مكان الديمقراطية. وكما يقول برنارد شو إن الديمقراطية منهج يضمن أننا لن نُحكم بأفضل مما نستحق. وهذا يعني ضمن ما يعني، أن الديمقراطية تتيح للناس هامش من حرية للاختيار، ولو بين سيئين لا ثالث لهما. إن هامش حرية الاختيار هذا قابل للاتساع دائما. وهو يتسع بقدر اتساع وعي الناخبين في الاختيار بين: أيهما أقرب إلى تحقيق، ولو الحدود الدنيا من مصالح الناس. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن اتساع مساحة هامش حرية الاختيار باتساع وعي المحكومين، يمدد ويوسع أفقياً من مساحة إمكانية نشوء المزيد من الأحزاب الجديدة التي تستقطب أصوات الذين لم تعبر عن مصالحهم الأحزاب القائمة، التي تعبر عن مصالح قِلة من الاحتكاريين، أقطاب الرأسمالية العالمية، أصحاب النفوذ الاقتصادي والشركات العملاقة عابرة القوميات. ولعل التجاذبات التي ظهرت في الانتخابات الأخيرة داخل الحزب الديمقراطي أكدت هذه الإمكانية، ما دفع البعض إلى القول بأن الحزب يمر بما يشبه أزمة هوية في الوقت الراهن. وقد تجلى التباين في التوجهات بوضوح في المناظرات بين مرشحيه لتمثيل الحزب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أواخر العام الماضي. حيث كان هناك تباين واضح في مواقف كل من الجناح التقدمي في الحزب والذي يقوده كل من المرشحين بيرني ساندرز وإليزابيث وارن والتيار المعتدل أو التقليدي ممثلا بجو بايدن وأيمي كلوبوشار. وقد نجح ساندرز، صاحب التوجهات اليسارية الواضحة، في جمع مبلغ مالي كبير لحملته الانتخابية فاق جميع خصومه. واللافت أن أغلب قاعدته الشعبية من الموظفين والعمال والطلاب الذين يرون أن النظام السياسي الأمريكي قد وصل لمرحلة العجز، وأنه غير قابل للإصلاح، وبحاجة إلى "ثورة سياسية" للحد من نفوذ الشركات والأثرياء الذين يتمتعون بنفوذ واسع في أروقة القرار في واشنطن. وعندما انتُخب عضوا في مجلس الشيوخ – لعب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما دوراً محوريا في حملة ساندرز للوصول إلى مجلس الشيوخ – لم يتردد ساندرز في توجيه الكثير من الانتقادات لكلا الحزبين، متهما إياهما بالوقوع تحت تأثير المتبرعين الأثرياء والشركات الكبرى. وهذا ما تنجح فيه الديمقراطية وتتفوق به على سائر الأنظمة الأخرى. إنها تفسح المجال باتساع الوعي الطبقي لنشوء ونمو المزيد من الأحزاب التي تعبر عن مصالح مختلف الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية والمشاركة في الشأن العام وإدارة الدولة. طريق طويل حتى يتحقق حكم الأغلبية؟. نعم. ولكنه الطريق الوحيد الأقل تكلفة وخطورة لإدارة الصراع بين الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية، والمضمون النتائج على المدى الطويل. ولكن هذا لا يعني أنها قد لا تتعرض بين حين وآخر لمحاولات من بعض القوى الاجتماعية والسياسية لحرفها عن طريقها وجرها إلى مربع الاستبداد والسيطرة الأحادية. وقد دخلت الديمقراطية الأمريكية مفترق الطرق الخطر هذا مع ولاية ترامب الأولى والأخيرة، وواجهت اختباراً قاسياً، وإن كان الأول من نوعه في تاريخ التجربة الديمقراطية في الولاياتالمتحدة، إلا أنه لن يكون الأخير. لأن هذا هو طبيعة مسار الديمقراطية في تطورها. أن تتعثر، وأن تعصف بها أهواء النزعات الاستبدادية، ولكنها، بوعي وإرادة الشعوب – لا النخب – تنهض وتستكمل مسارها وتصحح أخطائها وترمم شروخ بنيتها، فتزداد صلابة. خلاصة الأمر: أن الجائحة الترامبية، التي عرضت الديمقراطية لإمتحانٍ قاسٍ، والمتمثلة في "كنكشته" بالسلطة، والتي أعادت إلى الذاكرة السودانية كنكشة البشير ورهطه من الإسلاميون، وجعلت النظام الأمريكي أقرب ما يكون إلى دولة من دول العالم الثالث. أن الديمقراطية لم تتعافى بيد النخبة السياسية، بقدر ما كان وعي الشعب هو اللقاح المناسب. بهذا المعنى انتصرت الديمقراطية، ولكن لم يهزم ترامب تماماً وبشكل نهائي، فأمام الديمقراطية أكثر من ترامب مستقبلاً. وسيظل الصراع قائماً، طالما أن الاستبداد مثل أي فايروس يستنسخ أحياناً، ويتحور أحياناً أخرى، ويطور نفسه أحياناً ثالثة، ستظل الديمقراطية أمام تحدي تطوير نفسها وتقوية جهاز مناعتها مستعينة بلقاح الوعي، في اختبار دائم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.