ليس من قول أبلغ من حكمة الشاعر الجاهلي أمرؤ القيس يصف فيها الحرب والتداعي إليها في بدايتها، باستثارة مختلف الدواعي، ثم محاولة التنصل عنها عندما يشب ضرامها وتصعب السيطرة عليها وتبدأ في إفراز بشاعة نتائجها. وهي حكمة استقاها من تجربة عملية طويلة خاض فيها حروباً ثأراً لمقتل والده، فكانت عنده محل تأمل: الحربُ أوّلٌ ما تكونُ فُتيَّةً تسعى بزينتها لكلِّ جَهولِ حتى إذا استَعَرَت وشَبَّ ضِرامُها عادت عجوزاً غيرَ ذاتِ خليلِ شمطاءَ جَزَّت رأسَها وتَنَكَّرَت مكروهةً للشَّمِّ والتقبيلِ ولا تزال حكمة أمرؤ القيس تزداد كل يوم قيمة في ميزان العقل، مع تطور وسائل الدمار وأثره البالغ على الشعوب واقتصاداتها، خاصة في منطقة شرق أفريقيا التي لا تنفك عن حرب حتى تخوض أخرى، وقد آن الأوان أن تجد سبيلاً لحل النزاعات بعيداً عن الوسائل المدمرة التي تضعف اقتصاداتها الهشة بطبعها وتقعدها عن محاولات الخروج من دائرة الفقر. لا يمكن المزايدة على حق القوات المسلحة في الدفاع عن الحدود، أو واجب الشعب في الاحتشاد خلفها لتأمين الأرض والعرض، فهذه واجبات مقدسة لا يتعين التنصل عنها بحال، ولكن يجب أن لا تنقلب إلى دق طبول حرب تؤدي إلى نزاع يمكن حله من خلال وسائل الدبلوماسية وآليات الحل السلمي. وليس أسوأ من القول إن أرض الفشقة سودانية، ومن ثم يجب أن لا تنشأ مفاوضات بشأنها أو وساطة حولها. لأن ذلك يعني إغلاق آفاق الحل السلمي والجنوح لحل طائش غير مأمون العواقب على الطرفين، لا تنقص السودان الأسانيد التي تؤكد حقه في أرض الفشقة، ولا الحجج التي تدعمه قانوناً، فاتفاقية 1902 التي تم إبرامها مع الملك منليك الثاني واتفاقية عام 1972 في عهد الرئيس جعفر نميري، والحيازة الطويلة المستمرة والهادئة للمنطقة وغيرها من الاسانيد التاريخية والقانونية تمثل أدوات داعمة للحق السوداني تجعل السودان هو الكاسب من منطق السلام والتفاوض دون حاجة إلى اللجوء إلى أدوات الحرب. ومن الضروري استغلال هذا المنطق أولاً واستنفاده قبل اللجوء للمنطق العنيف. لا تحل الحرب مشكلة ولا تسهم في إيقاف مدعي حق عن المطالبة بحقه مهما كان ضعف الحجة في مطالبته، وإنما قصارى ما يمكن أن تتمخض عنه من نتيجة إيجابية هو أن يجلس الأطراف لمحاولة الوصول لحل سلمي عن طريق التفاوض أو التسويات أو التحكيم إذا استدعى الأمر. وهذه الحكمة مستخلصة من الحروب التي خاضتها كل دول الجوار التي تحيط بنا. فقد تأجج الصراع بين أثيوبيا وأريتريا وانقلب إلى صراع مسلح دامي بين عامي 1998 و2000، وتكبدت فيه الدولتان خسائر غالية في الأرواح والممتلكات وأنفقتا على اشتعالها مليارات الدولارات، ثم كانت خاتمتها أن جلس الطرفان ووقعا اتفاقية سلام وتحكيم ملزم، كانت نتيجته أن آلت المنطقة المتنازع عليها من ناحية قانونية إلى أريتريا، ورغم تمسك أثيوبيا بموقفها حتى بعد صدور قرار التحكيم، إلا أن قوة الدفع القانونية التي خلقها قرار هيئة التحكيم كانت الأساس في انتهاء حالة العداء بين البلدين وعودة العلاقات إلى طبيعتها. وخاضت كل من ليبيا وتشاد صراعا حول شريط أوزو انتهى إلى حرب بين الدولتين عام 1987 ثم لم تهداً بصورة نهائية إلا بعد أن التجأ الطرفان إلى محكمة دولية قضت بتبعية الإقليم إلى دولة تشاد. وانطبق نفس الأمر على مثلث طابا الذي تنازعت عليه كل من مصر وإسرائيل وكانت تحتله إسرائيل لأكثر من ثلاثين عاماً، ولم تتنازل عنه حتى بموجب اتفاقية السلام التي وقعتها مع مصر عام 1977، ثم اتفق الطرفان على إحالة الفصل في تبعية المنطقة للتحكيم الذي قضى بتبعيتها لمصر، فعادت إلى حضن الدولة المصرية. آفاق الحل السلمي عديدة على قائمتها التفاوض، والسعي لتخطيط الحدود على الواقع العملي بناء على الاتفاقيات المبرمة واستخدام كافة وسائل الدبلوماسية، وقد تتصاعد وسائل الحل السلمي إلى التحكيم، وكلها كافية للوصول إلى حلول أقل تكلفة من الحرب وأكثر استدامة، ويمكن أن تفضي إلى حالة سلام عوضاً عن حالة النزاع العنيف التي تشكل استنزافاً واستهلاكاً وضغطاً على موارد البلدين. من الأفيد للسودان وأثيوبيا إيجاد حل مستدام وسلمي، يجنب البلدين ما ستفضي إليه الحرب من دمار وضغط على اقتصاد ضعيف تسعى كلتا الدولتين إلى محاولة لململة أوجه تصدعاته والنهوض، ومن واجب الحكماء في كلا البلدين دعم جهود السلام والحوار الهادئ لحل المشكلة. وأثيوبيا تمثل عمقاً وجواراً لا يصعب الحوار معه، وما بيننا أكثر من رابط ود يجعل الحل السلمي أمراً ممكناً ومستداماً. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.