لقد كنا ومازلنا وما فتئنا نؤكد بل تؤكد التجربة المريرة التي عشناها أن طول وخطورة صيغ التمويل التي سموها اجتهادا بالإسلامية. وهذه الصيغ هي أساس التردي المشهود للاقتصاد الكلي والقاعدي منذ تطبيقها في سبعينيات القرن الماضي، وهي التي أصابت الاقتصاد السوداني في مقتل، خاصة بعد تطبيقها على قطاعي الصناعة والزراعة. وهناك ندوة شهيرة نظمها اتحاد الصناعات السوداني في أوائل التسعينيات وكنت حينها الأمين العام للاتحاد حول صيع صيغ التمويل المصرفي التي سميت اجتهادا بالتمويل الإسلامي من مرابحات ومشاركات وقرض حسن. وقد نظمت تلك الندوة بعد مشاورات مع الدكتور حسن الترابي رحمه الله، وذلك لحساسية الأمر وحرصا على مسيرة اتحاد الصناعات في ذلك الطقس السياسي العاصف. وكانت دهشتي عظيمة عند عرض الفكرة على الدكتور الترابي، إذ خلافا لما توقعت قال لي الدكتور الترابي أمض في الأمر، ثم أمدني بورقة بخط يده تحتوي على قائمة من المفكرين الأسلاميين لدعوتهم للندوة، وأضفنا لها من جانبنا قائمة من المفكرين المستقلين، فنجحت الندوة بكل المقاييس. وأذكر أن الأخ بدر الدين سليمان قد تحدث حديث العالم وأنهي حديثه بأنه (لا يوجد في الإسلام ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي، لأنها بدعة). ولدهشة الحاضرين عقب السيد عبد الرحيم حمدي عراب الاقتصاد آنذاك قائلا: (أوافق على كل ما ذكره الأستاذ بدر الدين سليمان نصا وروحا، ولا زلنا ندعو لفتح نافدتين إحداهما للنظام العالمي التقليدي والأخرى لتجربة اجتهاد الصيغ الإسلامية، ولم نطالب بإلغاء أيا منهما، ومن الواجب أن نسمى الأشياء بأسمائها). وهذا بالضبط ما خرج به المؤتمر الاقتصادي القومي الأول المنعقد خلال 26 28 سبتمبر 2020م تحت شعار (نحو الإصلاح الشامل والتنمية الاقتصادية المستدامة). وقد دعت إحدى توصيات المؤتمر الرئيسية إلى إلى تبني العمل بنظام النافذتين التقليدية والأخرى جورا بالإسلامية، والإسلام منها براء. وما انتهى إليه المؤتمر الاقصادي في سبتمبر 2020م هو ما خرجت به ندوة اتحاد الصناعات السوداني في العام 1992م. والآن علينا أن نقر بأن تلك الصيغ المستخدمة اجتهادا هي أصل بلاء الاقتصاد السوداني، بل هي السبب في كل ما نحن عليه من دمار وهوان للاقتصاد، وما نتج عنه من زيادة عزلة السودان إبان سريان العقوبات الاقتصادية بدعوى الإرهاب، ولعل أفدح الإرهاب ما يمكن من فرض الفاسد من الفكر بدعوى الدين وما فرض بسيف تجهيل الآخرين. ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى السي دي الخاص بفعاليات الندوة والمتوافر حاليا بمحلات دبليو دبليو بشارع 117 بالرياض. ونحن الآن نتطلع إلى العودة للمجتمع الدولي والتعاون مع منظماته المالية فلابد لنا أن نعود لنظام التمويل التقليدي لأنه: أما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). والأصل في التمويل منذ نشأته عبر القرون وحتى ظهور المصارف ونظريات الاقتصاد كعلم بين كل العلوم الأخرى تؤسس وتؤكد الآتي: أولا: الاقتصاد علم من العلوم ليس له وطن ولا دين تماما مثل الكيمياء، والفيزياء، له قواعد وقوانين علمية تماما كقانون الجاذبية والصوت والضوء، وكما لا يجوز أن نسمى علم الفيزياء بالفيزياء الإسلامي صح أو خطأ الاجتهاد، فلا يجوز أن نبتدع اجتهادا الاقتصاد الإسلامي. وكان يمكن أن نسميه اجتهادا الاقتصاد من منظور إسلامي، وسواء كان للمجتهدين أجرا أو أجرين، إن صح الاجتهاد. ثانيا: الاقتصاد علم والبنوك أصبحت علما، أما البنوك المركزية فلها قواعد وميكانيزم أحدهما سعر الفائدة والذي يتحكم فيه بتوازن ما بين الاستثمار والإدخار والكتلة النقدية وسيسات التمويل..... الخ. وقد شوهت هذه التجربة مسار الاقتصاد السوداني وجعلته اقتصادا مصابا بانفصام الشخصية، قام بتحريم الربا داخل السودان، ولكنه يتعامل به مع العالم الخارجي بفقه الضرورة، ثم ألغت سعر الفائدة واسمته رسوم إدارية، تماما كان تأتي بزجاجة خمر ونكتب عليها عصير برتقال، أهذا يحللها؟. إن الصيغ الإسلامية من مشاركة ومضاربة ومرابحة وقرض حسن فهي اجتهاد لقضاء قد لووا يد الاقتصاد بإقحام الدين ومعركة في غير معترك. وعليه سنظل نواصل مطالبتنا لجهات الاختصاص، خاصة بنك السودان المركزي الذي يتميز بتواجد وفير لقياداته العليا والوسطى ذات الدراية والعلم والخبرة التي اكتسبوها بجدارة واقتدار عبر عدة عقود مضت ظلوا أشاوس صامدين يقاومون الباطل بالحق الأبلج مستندين إلى علم وخبرة تدحض كل اجتهاد مبتور أو هوس رخيص الغرض. ثالثا: خبراء البنك المركزي هم القادرون على إعداد السودان ليحتضن رغبة البنوك الأولى في العالم أمثال: باركليز وسيتي بانك. ولعل السؤال هل يعقل أن تفتح هذه البنوك العملاقة فروعا لها في بلد لازال يترنح عزة بالاثم من التخلف المصرفي والتعصب لاجتهاد أبتر الرؤية مجهول التبني تحت قناع الدين، تحقيقا لمرامي ليس للدين فيها ناقة ولا جمل. فلنعبر من أسفل السلم إلى أعلاه بكل ثقة واطمنئان لمستقبل مصرفي مستقر وتمويل منساب يدعم مسيرتنا نحو الإصلاح الشامل والتنمية الاقتصادية المتكاملة المستدامة، وذلك عبورا لعهد طال قاسى فيه السودان من شعوذة قيادات الصدفة للاقتصاد بنظرية التجربة والخطأ. وفي كل تجربة خاطئة كان الاقتصاد يعاني بعدها من مخاض تجربة أفدح وأمر وأعم حتى وقع الاقتصاد تحت براثن الحلقة الجهنمية الخبيثة، والتي لن نستأصل أوراقها إلا بمشرط يعزز الاقتصاد بالعلم لا الدجل والشعوذة، ولا نلتفت لعويل البواكي من قيادات عهد بائد نسب كل أخطائه بأنها إبتلاء من الله على الناس، وما كان كل بلاء الناس إلا من الناس والذين حعلوا موازينهم حشفا وسوء كيلة، كقول المتنبي: ولم أرى في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام.