بسم الله الرحمن الرحيم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) الأحزاب. ويسألونك عن مالك بدري! ذلكم الرجل أمة. جمع فضائل، وحاز مناقب نادرة. اللهم اكتبه عندك من الصالحين والصديقين والشهداء والأخيار والأبرار. .................................................... إن مداخل الكتابة عن المغفور له بإذن الله العالم الجليل مالك بدري كثيرة؛ فمالك بدري السوداني البسيط ابن البلد، ومالك بدري الأخ المعين لمن يعرف، ولمن لا يعرف، ومالك بدري الصديق، ومالك بدري الزميل، ومالك بدري العالم، والصوفي، والزاهد . ومالك بدري الحكيم حلّال المشبوك، المشاء في قضاء حوائج الناس، الساعي في صلح ذات البين، والراتق لكل فتق، المخبت العابد، فهو إن شئت شجرة خير وارفة الظلال، كثيرة الجني والثمار، عامرة بفروع الخير، أو إن شئت فهو بحر جود وفضائل: ..... من أي السواحل جئته فلجته المعروف والجود ساحله. عاش أستاذنا الجليل حياة علمية حافلة بالابتكار والإبداع كان شعاره فيها من المحيرة إلى المقبرة؛ فلقي الله مجاهداً في نشر قيمه، ومفاتحة المعرفيه في أسلمة علم النفس، والتي بدأها في ورقته الموسومة ب (علماء النفس المسلمون في جحر الضب) ، والتي رقًاها إلى كتابه الأشهر: the Dilemma of Muslim Psychologists الصادر من لندن عام 1979م ، والذي ترجم إلى عشرات اللغات ، وغدا بعد ذلك دستوراً لعلم النفس الإسلاميّ. شاء الله أن تتكامل عوامل كثيرة في تكوين شخصية مالك بدري في رحلته الإنسانية، وفي مسيرته العلمية. من أهمّ تلك العوامل النشأة الأسرية؛ حيث كان لشخصية والده الأثر الأعظم هي شخصية والده - ذلكم العصامي المجاهد الذي اتسم بالذكاء والإبداع مما هيأه للتحول من مقاتل بالسيف إلى مقاتل بالقلم. وما قصة نجاح نشره للتعليم في السودان إلا مثال لهذا السبق. لم يكن والده الشيخ بابكر بدري تقليديَا متمسكًا بموقفه من المستمعر الذي دكّت آلاته الحربية حصون الثورة المهدية التي انضوى تحت لوائها مقاتلاً. ولكن فطنته ألهمته النضال بالقلم عندما عزّ الجهاد بالسيف، فكرّس حياته للتعليم الخاصّ منشئًا بذلك مدارس الأحفاد التي نقلها من رفاعة إلى أم درمان ، كما عمل في التعليم مفتشًا للتعليم في النيل الأزرق. فشيد مدارس كثيرة في إبان عهدته؛ فلو تمسك بابكر بدري متقوعاً بأنصاريته ما قام بكلّ هذه الإنجازات . فلا غرو : فهذا السيلُ من تلك الغوادي وهذي السُّحب من تلك الرياحِ كذلك كان لتكوينه العلمي الأولى في الأحفاد دور كبير في تشكيل مزاجه العلمي والنفسي. يقول مالك بدري عن تلك الفترة: "أفضل أستاذ درسني منذ المدرسة الوسطى وحتي نيلي درجة الدكتوراه؛ هو الأستاذ شيخ الدين جبريل، وكان أستاذًا للغة الإنجليزية، وكان أيضًا المسؤول عن النشاط الرياضي في المدرسة، وكان قدوة في أخلاقه، ورياضيًا في جسمه، وقدوة في أساليب تدريسه وتحبيبه للطلبة المادة التي كان يدرِسها. أذكر أيضًا الأستاذ سيد أحمد غاندي، وكان كما ذكرت شاعرًا وفنانًا، وأذكر أني كنت صغير السن بالنسبة لبقية الطلاب، فكنت أجد صعوبة في علم الحساب، وكنت مهملًا في حفظ القرآن، فألف شعرًا يهجوني به أذكره إلى اليوم، يقول فيه: مالك بدري قط ما بحفظ القرآن وفي علم الحساب تلقاه يوت وكران بعرف اللعب من التعب فتران وطول اليوم يحوم في حلة الغرقان" كان لارتباطه بجماعة (الإخوان المسلمون ) ، أثر كبير جداً في تكوينه العلمي ، وفي نظرته إلى فلسقة العلوم . يقول: "الإخوان المسلمون هم أصدقائي، وهم الذين أعادوني من الفكر الغربيّ إلى الفكر الإسلاميّ، وعلى أيديهم تعلمت الكثير" لم يطق مالك بدري ان أن يكون أسير جماعة فكرية، فخرج إلى فضاء أكبر، فكان له موقفه من الجماعة التي رهنت الإسلام في الحكم والسياسة. يقول مالك بدري: "كانت تلك الأيام مشحونة بالأحداث الجِسام، فقبل مايو 1969م بفترة قصيرة كان هناك المؤتمر العام للإخوان المسلمين،وقد اختلفنا فيه مع الدكتور حسن الترابي وجماعته، واستقلت من المكتب التنفيذي و من الجماعة، وأنشأنا حركة صغيرة مع الأستاذ محمد محمد مدني (سبال) والأستاذ عبد الرحمن رحمة، والأستاذ محمد مصطفى بلال، والأستاذ علي جاويش، والمرحوم محمد خليل... وبعض الذين رفضوا أسلوب الترابي في التقليل من شأن التربية والاهتمام بجمع الناس، وسمينا هذه الجماعة ب (الغرباء) فلم تمضِ سنوات حتى اقتنع كثير من إخواننا بالمزالق التي يمكن أن تحدث لو اتبعوا أسلوب الترابي وجماعته وانضموا للغرباء، من أمثال الدكتور الحبر يوسف نور الدائم، والأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد.. كان ذلك في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي". ثم انتقل مالك بدري إلى عوالم التصوف . وتصوفه لم يكن تصوف تهويمات أو انعزال عن الحياة كما يروق لبعض المتصوفة ، وإنما كان تصوفه تصوف علم ومعرفة؛ فقد كان منفتحَا على الحياة العصرية ومتفاعلاً بها في كلّ تجلياتها؛ فكان مهموماً بقضايا المعرفة والعلم ، وبقضايا المجتمع، وقضايا الأمة. كانت رحلة مالك بدري في التصوف، رحلة العابد العالم العامل الباحث عن الحقيقة؛ فالتقي بشيوخ كثر إلا أن وثق علاقته الروحية مع الشيخ الأستاذ الشريف أبي القاسم في رفاعة، وهو متصوف عالم، راق له مذهبه في التصوف فالتزمه إلى أن ذهب إلى لقاء ربه. مالك بدري في حقيقته أشبه بما وجدناه من وصف لسلف هذه الأمة. فهو ليس ناقلاً لعلم، وإنما كان في ذلك مبتدعاً. واجتزء من وصف للخليل بن أحمد أراه له مطابقاً ، قالوا: كان الخليل بن أحمد الفراهيدي رأساً في لسان العرب، مُفْرِطَ الذكاء، حليماً، وَقوراً، دَيِّناً، وَرِعاً، قانعاً، متواضعاً، كبيرَ الشأن، مُتقشِّفاً، مُتعبِّداً، وكان يُعرَف بالزُّهد، وكان من الزُّهد في طبقةٍ لا تُدرَك". وكما ابتدع الخليل بن أحمد العروض والقوافى ، وابتدع الإمام الشافعي علم الأصول، ابتدع مالك علم النفس الإسلاميّ . صقلت دراسته لعلم النفس حكمته المطبوع عليها؛ فسبر غور النفس البشرية، وسلوكها فتكونت له ملكة في فنّ التعامل مع البشر على اختلاف مشاربهم، فكان أسلوب تعامله سهلاً ممتنعاً؛ فلا غرو أن قصده الناس، باختلاف ألسنتهم وألوانهم وجنساتهم؛ لقضاء حوائجهم مهما كانت .وبذا كان له الفضل، وأي فضل. قال الشافعي : وأفضل الناس مابين الورى رجل * تقضى علي يده للناس حاجات البساطة التي طبع عليها مالك بدري تتجلي أيضًا في أسلوبه اللغوي كتابة وحديثًا، وصدق من قال: كما تكون طبائع الشخص يكون أسلوبه، فمالك أسلوبه سهل ممتنع، وذلك ما جذب إليه طلاب المعرفة مستمعين لمحاضراته ، وقارئين لكتبه التي طبعت مرات ومرات ، وترجمت إلى عشرات اللغات. خاتمة هذا، وإني إذ أودع عالمنا الجليل بهذه الجمل القصار، لا أراني مستوفياً بذلك له قدرًا، ولست لذلك أهلاً، فهنالك كثر أسمق قامةً، وأعمق فكراً ، وبه ألصق ، وأجدر بوفائه قدراً. إنه حقاً فقد جليل، وحسبنا أنها سنة الحياة. ف ( لكلٍّ يومُه والعمر يُدني). من الخط الأخير بلا جواب وتلك مشيئة الرحمن تقضي بأن يرجع الكلّ للتراب. د. عادل الشيخ عبد الله أحمد جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية ، بروناي دار السلام عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.