ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نماذج للتّمويه وغياب الشفافيّة في السياسة الاقتصادية السودانية .. بقلم: محمد الحاج
نشر في سودانيل يوم 10 - 03 - 2021

يُقال تموّهَت الحقيقة إذا اختلط فيها الحقّ بالباطل، وهذا المعنى للتّمويه هو الذي ميّز السياسة الاقتصادية في السودان خلال الثلاثين عاماً الطوال للإنقاذ، واستمرّ مع عميق الأسف تحت إدارة الحكومة الجديدة التي مهّدت الثورة المجيدة والتّضحيات الجِسام لشبابها المجال لتكوينها. أما ما يعنيه غياب الشفافيّة في إدارة الشؤون العامة، فلا أظنّ أنّه يحتاج مني إلى توضيح.
وحتى لا أكون كمن يُلقى الكلام على عواهِنه، سأورد أربعة نماذج للتّمويه وغياب الشفافيّة، تُفسِر إلى حدٍّ كبيرٍ في اعتقادي استمرار التردّي الاقتصادي في السودان، وتحميل جلّ أعبائه للمواطن العادي، الذي ليست لديه، بحُكم طبيعة عمله ونوعيّة مصادر دخله، الوسائل الكفيلة بحماية مستوى معيشته من التّدهور.
أوّلا: قضيّة الدعم والموازنة الحكوميّة وسعر الصرف
هناك عِدّة أوجُه للتّمويه بالمعنى الذي أشرت إليه أعلاه في هذه القضيّة. بداية، لا يُوجد حسب علمي من دعا إلى تبنّي سياسة حكومية تقوم على توفير الدعم السلعي للمواطنين، كما فعلت ذلك مثلاً، فيما يخصّ أسعار الوقود، بعض الدول النفطيّة في وقت من الأوقات. كلّ ما طالب ويطالب به العاملون بأجر، وأصحاب الدخول المحدودة، وكلّ من ليست له القُدرة على رفع أسعار منتجاته بنفس مستوى ارتفاع معدلات التّضخّم، هو ألا يتمّ إضعاف واستنزاف قوّتهم الشرائيّة بهذه الصور المُريعة نتيجة اختلالات مالية حكومية لم يتسبّبوا فيها، وسياسات اقتصادية غير رشيدة لم يُستشاروا حول تطبيقها.
وفي المقابل، لم أسمع بمسؤول حكومي عندنا أوضح بجلاء للناس سبب نشوء مشاكل الدعم في مبتدأ الأمر، وعودتها للظهور مرّة بعد أخرى، متى ما تلاشى أثر الارتفاع في سعر السلع المدعومة الذي تقرّره الحكومة. ذلك السّبب ببساطة، هو أنّ الحكومة كانت، إلى ما قبل إجراءات التخفيض الرهيب الأخير غير المسبوق لسعر الصرف، تعمل بسعر صرف رسمي يقلّ عن السعر السائد في السوق غير الرسمي، أو ما يعرف بالسوق الموازي. وعليه، كُلّما تزايدت الفجوة بين السعرين كُلّما تزايد عبء الدعم.
مصدر التّمويه هُنا، أنّه بدلاً عن التحدّث بشفافيّة عن كافة الأسباب التي أدت إلي زيادة نفقات الحكومة على إيراداتها، ومن ثَمّ اضطرارها لتمويل العجز بطباعة النقود مما زاد من كمية النقود المتداولة، وهو العامل الرئيسي وراء انخفاض أسعارها في السوق غير الرسميّ، شأنها في ذلك شأن أي شيء يتزايد المعروض منه بصورة مُنفلِتة، يتمّ التركيز على قضية الدعم وإثارة الصخب الكثيف حولها. ويُعزى ذلك بالطبع، إلى أنّ الذين يُخفّف عليهم الدعم أعباء المعيشة في مثل هذه الأوضاع الاقتصادية الخرِبة، وهم عامّة الناس، ليس لديهم الصوت العالي الذي تملكه الجهات الأخرى التي تستفيد من التوسّع الكبير في الإنفاق الحكومي.
لا أملك معلومات دقيقة عن حجم النفقات الحكومية الفعلية لكلّ قطاع في الموازنة، لكنِّي قرأت مثل غيري أنّ الإنفاق الإجماليّ على الأجهزة العسكريّة والأمنيّة والدستوريّة ربما يكون قد وصل إلى حدود 70 في المائة سنوياّ، من النفقات الحكومية الإجماليّة.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ "معهد ستوكهولم لدراسات السلم العالمي" أورد في دراسة له أنّ متوسِّط الإنفاق العسكري وحده، خلال الفترة (1990- 2019) بلغ في السودان قُرابة 22 في المائة مُقارنة بمتوسط عالمي ل 145 دولة بلغ نحو 6 في المائة خلال عام 2019 الذي تتوفّر عنه معلومات، أي أنّ المعدل المتوسِّط في السودان لهذا البند بلغ ما يكاد يصل إلى أربعة أضعاف المستوى العالمي!
إذا كانت الدولة، أي دولة، غير قادرة على ضبط الإنفاق الحكومي، وغير قادرة كذلك على تحصيل ضرائب تتناسب مع حجم هذا الإنفاق، سواء بسبب التهرّب الضريبي، أو بسبب ما عُرِف عندنا بظاهرة تجنيب الإيرادات وحجبها عن وزارة المالية، أو بسبب ضعف الإدارة الضريبية، أو كلّ هذه العوامل مُجتمعة، وإذا ما كانت منافذ الاقتراض الخارجي ضاقت أمامها، فلا غرابة في أن تلجأ لتمويل عجزها من مصادر غير حقيقيًة من خلال طباعة النقود. وإذا أُضيف إلى كلّ ذلك ما يُشاع عن وجود عمليّات تزوير للعُملة، وهو ما لم تنفِه السُلطات حسب علمي بطريقة شفّافة وحاسمة، فلا بُدّ أن ينهار سعر الصرف.
والآن، وبعد أن قامت الحكومة بتخفيض سعر الصرف الرسميّ دُفعة واحدة، بصورة لم تحدُث في السودان من قبل، حيث ارتفع سعر الدولار مُقابل الجنيه بنحو سبعمائة في المائة، وأُزِيل الدعم، سنرى إن كانت المشكلة قد وجدت الحل الذي ضلّ عنا دهراً.
في اعتقادي الراسخ، أنّ مُشكلة سعر الصرف لن تُحلّ إذا لم يتمّ حلّ مُشكلة الميزانية الحكومية بطريقة مُستدامة. ويتطلب ذلك بشكل مختصر مُفارقة نهج المُمارسات الحاليّة، ومن ثَمّ الشروع في الصرف على القطاعات المُختلِفة بمعدلات لا تشذّ كثيراً، كما هو حاصل عندنا الآن، عن المُعدلات المُخصّصة لها في الدول النامية الأخرى، وذلك من جانب. ومن جانب آخر، حصول الحكومة على إيرادات ضرائب بمُعدلات مُقاربة لهذه الدول، دون تجنيب او إعفاءات أو تهرّب ضريبي، ومع إحكام الدولة مُمثّلة في وزارة المالية سيطرتها على الأموال العامة أيّاً كانت مصادرها. يتطلّب هذا الامر إرادة واضحة للإصلاح، كما يتطلّب بموازاة ذلك الشفافيّة واطلاع الناس على حقيقة أوضاعهم.
كان الناس قد استبشروا خيراً بتدشين نهج جديد من الشفافيّة عندما نُسِب للسيد رئيس الوزراء تصريحاً في أغسطس من العام المنصرم، بأنّ وزارة المالية تُسيطر على أقلّ من عشرين في المائة من إيرادات الدولة. ولكن ما تبِع ذلك هو احتجاج السيد رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش على ذلك التصريح، الذي فُسِر على نِطاق واسع بأنه يعني أنّ الشركات العسكريّة والأمنيّة العاملة في المجالات الاقتصادية المدنيّة هي التي تُسيطر على بقية إيرادات الدولة. ثم أعقب كلّ ذلك، حديثٍ للسيد مُستشار رئيس الوزراء ذهب فيه إلى أنّ الأخير كان يقصد بتصريحه مثار الجدل النسبة التي تخضع لسيطرة وزارة المالية من الموارد الإجمالية للبلد وليس الإيرادات الحكومية فقط. وهذا أمر مثير للإحباط من ناحية الشفافيّة دعْ عنك غيرها، لأنه شتان ما بين مضمون تصريح السيد رئيس الوزراء وتفسير مُستشاره له. يكفي فقط أن نقول إنّه لو كان هذا هو ما يُفهم بالفعل من تصريح السيد رئيس الوزراء، لما احتجّ عليه أبداً السيد رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش.
وعلى ذكر الشفافيّة وتدهور سعر الجنيه السوداني، يدور حديث كثير هذه الأيام حول تصدير مُنتجات كالحبوب الزيتيّة والعُجُول الحيّة وغيرها إلى مصر. وإن لم تخُني الذاكرة، فقد كانت التجارة مع مصر في زمن مضى يحكُمها بُروتكول تجاريّ تُستثنى منه الحبوب الزيتيّة كالسمسم والفول السوداني وكذلك الصمغ والقُطن وكلّ المنتجات التي تُعتبر مصدراً رئيسيّاً للعملات الصعبة للسودان. وكانت الإبل هي التي تُشكّل معظم مكونات الصادرات السودانية لمصر، باعتبار الأخيرة سُوقها الرئيسي. وراعى البُروتكول التجاري المذكور، وكما ينبغي له، تحقيق قدر من التوازن بين الدولتين، بحيث لا تُحقّق إحداهما فائضاً كبيراً في التعاملات على حساب الأخرى.
تقتضي الشفافيّة أن نعرف إن كانت السلع التي تُعتبر مصدراً رئيسياً للعُملات الصعبة بالنسبة للسودان، تُصدّر بتلك العُملات لمصر أم أنّها تُباع بالعُملة المصرية، ليستورد التُجّار السودانيين بمبلغها سلعاً كمُنتجات البلاستيك والأسمنت.
وبالنسبة لسلعة الأسمنت، من حقّ الشخص أن يندهش لاستيرادنا لها من الخارج، فهي سلعة تتوفّر مُدخلات انتاجها لدينا. كما أنّها تتميّز بأنّ تكلفة النقل العالية لها تُشكِّل نسبة كبيرة من قيمتها، مما يُعطي الإنتاج المحلي ميزة كبيرة فيها. وإذا كان البلد، أيّ بلدٍ، ليس قادراً على المحافظة على صناعة وطنيّة مثل الأسمنت، فلن يقدر على تصنيع شيء آخر.
لقد ذُكِر أنّ السودان يُعاني، في إطار الترتيبات المعمول بها حالياًّ، من عجز ملحوظ ومُتواصِل في الميزان التجاري مع مصر، أي من عجزٍ على صعيد الصادرات والواردات من السلع. وتقتضي الشفافيّة نشر المعلومات الرسميّة الموثوق بها عن وضع هذه التجارة.
كذلك تقتضي الشفافيّة، معرفة وضع ميزان مدفوعات الخدمات الخارجية مع مصر. فالميزان التجاري أو ميزان الصادرات والواردات السلعيّة، ليس وحده الذي يميل لمصلحة مصر. فمدفوعات خدمات السياحة والعلاج السودانية لمصر تجعل ميزان الخدمات الثنائي بين البلدين يميل هو الآخر لمصلحة مصر، وبما يزيد بمراحل عن العجز التجاري لصالحها. ولا ينتهي عجز المدفوعات الخارجية السودانية مع مصر عند هذا الحدّ، فهناك أيضاً التدفُّقات الرأسماليّة، أي رؤوس الأموال، من السودان لمصر لأغراض الاستثمار فيها وشراء العقارات وغيرها، مِمّا يجعل الميزان الرأسماليّ مائلاً لمصلحة مصر. وبذلك يُسجل السودان سنويّاّ عجزاً كبيراً في ميزان المدفوعات الخارجي الكُلّي مع مصر، بإضافة مكوِّناته المذكورة أعلاه.
لا بُدّ من نشر معلومات رسميّة موثوق بها عن وضع عناصر ميزان المدفوعات الخارجية الثنائي مع مصر. كلّ الدول المُحترمة تقوم المصارف المركزيّة فيها، أو غيرها من الجِهات المُناط بها إعداد موازين المدفوعات الخارجية، بنشر معلومات عن الموازين الثُنائيّة مع أهمّ شُركائها التجاريين، مما يُيسِّر وضع الخُطط وإعداد سياسات اقتصادية رشيدة تُحافظ على مصالحها.
وليس ذلك فحسب، وإنما يجيء مُناقشة الاختلالات الكبيرة الثُنائيّة في المدفوعات الخارجية، في مُقدِّمة المواضيع التي يتمّ بحثها في الاجتماعات الثُنائيّة التي تُعقد بين هذه الدول. والسؤال الذي نتمنى أن نحصل على إجابة واضحة عليه هو: هل تمّ مناقشة هذا الموضوع في الاجتماعات المُتلاحِقة بين المسؤولين في البلدين، والتي لا يكاد يمرّ شهر أو أقلّ منه دون أن تعقد؟
هذه العلاقة التجاريّة بين البلدين بشكلها الحالي مُختلّة بشكل كبير من الناحية الاقتصاديّة البحتة، إذا كان الناس حريصون بالفعل على مصالح السودان المشروعة. لقد شاهد كلّ العالم أمريكا، وهي أغنى دولة فيه، ورافعة أكبر رايات حُرّيّة التجارة والأسواق فيه، تُطبق الإجراءات الاُحادِية التي تهدف الى تقليل الاختلالات في تجاراتها الخارجيّة ليس مع الصين وحدها، وإنما حتى مع الدول التي تربُطها بها اتفاقية تجارة حُرّة ككندا والمكسيك. فما بالنا نحن نسير وأعيننا مُغمّضة لنقبل بترتيبات مُجحفة اقتصادياً وبشكل صارخ في حقّنا.
لكلّ ما تقدّم، وبالعودة لقضيّة سعر الصرف، أعتقد أنّ الحكومة لن تستطيع مُجاراة السوق الموازيّ للدولار. وما يبدو حاليّاً من توحيد لأسعار الصرف سيختفي عاجلاً أو آجلاً. وكلّ ما يفعله التمويل الخارجي، إن تحقّقت التعهُّدات التي قدّمتها بعض الجهات به، هو تهدئة الأوضاع لفترة، لأنّه لا ينبغي أن يتوقّع أحد بأن تقوم الدول الأخرى بتوفير دعم لا سقف زمنيّ له لتمويل العجز المالي الحكومي لدولة ما. ويبدو أنّ السُّلطات المعنيّة تُدرِك أنّ ما تمّ ليس توحيداً مُستداماً لسعر الصرف، حيث نُسِب إلى مسؤولين في المصرف المركزي قولهم بأنّ ما تمّ هو تعوِيم مرن مُدار، مما يعكس معرفتها على ما أعتقد لخطورة ترك الحبل على الغارب لسعر الصرف ليجد قيمته في الأسواق في ظروف اختلال مالي حكومي كبير. وهي، أي السُّلطات، تعرف أنّه ليس بوسعها دفع الناس العاديين إلى الحائط، إن جاز التعبير، إلى ما لا نهاية. فأصحاب الدُخُول المحدودة، وكلِّ من ليست لديه القُدرة الكافية لتعديل أسعار منتجاته أو خدماته لتتناسب مع الارتفاع المتواصل في الأسعار الناجم عن تدنّي القيمة الشرائية للجنيه السوداني مع التخفيضات المتواصلة في سعره، لن يقبل بذلك.
عندها، وإذا ما قلّ سعر الصف المرن المُدار هذا بقرارٍ من الحكومة عن سعر السوق الموازيّ تهيُّباً من زيادة معاناة المواطنين وإفقارهم، فستطلّ قضية الدعم برأسها من جديد. وإذا ما جرى تسليط الضوء عليها بنفس الهِمّة التي جرى بها هذا الأمر في الماضي باعتبارها أساس البلاء، فسنكون قد جعلنا من التّمويه الاقتصادي عندنا فنّاً مُتقدِّماً.
ثانيا: سياسات التحرير الاقتصادي
تحرير أسعار السلع والخدمات، وفتح الأسواق، وإزالة القيود الإداريّة على الأنشطة الاقتصادية، وخصخصة المؤسسات العامّة، هو هدف ترعاه المؤسسات الاقتصادية الدوليّة وعلى رأسها الصندوق والبنك الدوليين، ومن خلفهما الدُول الغنيّة صاحبة التأثير الكبير عليهما. ويروّج لهذا الهدف على أساس أنّ سياسات التحرير آنفة الذِّكر ستسمح للدولة التي تُطبِّقها بزيادة كفاءة استخدام الموارد، وتوجيهها للقطاعات والمناشط التي تتمتع فيها الدولة بأفضليّة اقتصادية نسبيّة، مما سيترتّب عليه ازدهار النمو الاقتصادي فيها، ورفع مُستويات معيشة مواطنيها. ولا يتحدّث أحد بالطبع حول أنّ التحرير سيفتح أسواق الدولة التي تقوم به أمام مُنتجات الدول الرافعة لرايات حُرّيّة التجارة، وهوما تسعى إليه في الاصل ربما قبل كلّ شيء آخر. ويعكِس هذا التوجّه فكراً اقتصادياً يؤمن بتفوق آليات السوق، على غيرها من مناهج إدارة النشاط الاقتصادي. وسأعود لهذه النقطة لاحقاً، من حيث صِحّتها في تفسير الكيفيّة التي تطوّرت بها تاريخيّاً الدول التي أصبحت الآن مُتقدِّمة وغنيّة.
يعرف كلّ المُهتمين ببرامج التحرير الاقتصادي التي طبّقتها الدول النامية، أنّ سياسات تحرير الأسعار والأسواق لم يتمّ الشروع فيها إلا بعد استيفاء متطلبات تنفيذ برامج الاستقرار الاقتصادي. وبرامج الاستقرار أو التثبيت هذه كما تُسمى، المقصود بها، السيطرة على عجز الموازنة الحكومية من خلال ترشيد النفقات وزيادة الإيرادات الحكومية، والحدِّ من توسُّع السيولة النقديّة بهدف تقليص مُعدلات التّضخّم. فلا أحد، حتى من بين كبار المروِّجين لتبنّي سياسات التحرير الاقتصادي، يزعم مجرد زعم بأنّ من المُمكِن رفع كفاءة استخدام الموارد وتخصيصها للقطاعات المُنتِجة في ظلِّ تضخّم جامح، ينتج عنه تدهور مريع لسعر الصرف. فبالإضافة إلى أثر التّضخّم المعروف اقتصادياً في تشويه آليات الحوافز، فإنّ المستثمرين سيحجمون عن الدخول في استثمارات طويلة الأجل بطبعها، لأنّ من المُتعذِّر في ظروف التّضخّم المُنفلِت تكوين فكرة معقولة عن القيمة الحقيقيّة الفعليّة للنفقات والإيرادات المستقبليّة. وإلى جانب ذلك، فإنّ الدول التي طبّقت هذه البرامج تلقّت تمويلاً مُقدّراً من الصندوق والبنك الدوليين وغيرهما لتشجيعها على تنفيذها.
ما حدث في السودان في عهد الإنقاذ، هو أنّ سياسات التحرير الاقتصادي لم تُطبّق فقط دون السيطرة على عجز الموازنة، وإنما طُبِّقت وهي مصحوبة بتزايد هذا العجز بمُعدلات غير مسبوقة، لتمويل الحروب العبثيّة الباهظة التكاليف التي أشعلتها في البلاد. ولم يقِف سوء الإدارة والتدبير عند حدود التوسّع غير المسؤول للإنفاق الحكومي، وإنما صاحب ذلك سياسات طائشة في جانب الإيرادات الحكومية، حيث ابتدع نظام الإنقاذ أسلوب تجنيب الجهات الحكومية لإيراداتها وحجبها بالتالي عن وزارة المالية صاحبة الاختصاص، كما قام بمنح إعفاءات ضريبيّة وجُمركيّة واسعة للمنظمات والجهات المُناصِرة للنظام. وعندما تفاقمت الأوضاع المالية، واحتاج غول الإنفاق الحكومي لمزيد من الموارد، تمّ خصخصة العديد من المؤسسات العامة تحت بيارِق التحرير الاقتصادي، ولكن من غير أبسط ضوابط الشفافيّة، حيث لا يدري الناس خارج أوساط النظام الكيفيّة التي أبرِمت بها الصفقات. وهناك أقوال مُتواتِرة بأن هذه المؤسسات بِيعت بأقلّ من قيمتها الحقيقية لأنصار النظام في الداخل والخارج، ليزيد كلّ ذلك الوضع ضِغثاً على إبّالة.
ولأنها لم تتلقّ تمويلاً خارجياً كشأن الدول الأخرى التي طبّقت برامج الاستقرار والتحرير الاقتصادي، قامت بتمويل العجز من موارد غير حقيقية من خلال طباعة العُملة، لترتفع معدلات التّضخّم وينهار سعر صرف الجنيه السوداني كما هو معلوم للكافة. ووجد العاملون بالحكومة من أطباء ومُعلمين وغيرهم، أنّ القيمة الحقيقيّة لرواتبهم أو قوّتها الشرائيّة قد تبخّرت بين عشيّة وضُحاها. وعانى بقيّة أصحاب الدخل المحدود، وكلّ شخص آخر ليست لديه القدرة على رفع أسعار مُنتجاته أو قوّة عمله من مصير مُماثِل.
وطَوال هذا الوقت كانت الآلة الإعلاميّة للنظام تنخرط في عملية تمويه مُحزِنة، وهي تتغنّى بمزايا وفوائد التحرير الاقتصادي، الذي من الصحيح بالطبع أنّ قِلّة قليلة من النافذين ومن يدور في فلكهم قد استأثرت بها، على حساب أغلبية المواطنين الذين تدهورت مستوياتهم المعيشية.
وبالعودة لفاعليّة سياسات التحرير الاقتصادي في إحداث اختراق حقيقيّ على صعيد تسريع معدلات النمو الاقتصادي والالتحاق بركب الدول المُتقدِّمة، فهذا مع الأسف مِمّا يدخل في باب التّمويه الدولي. لا توجد دولة سواء في مجموعة الدول الغربية الصناعية الغنيّة، أو اليابان، أو ما يُعرف بالنمور الاسيويّة، أو الصين في العقود الأخيرة، قد حقّقت ما حقّقت من تقدُّم وتصنيع لأنها تبنّت منذ البداية سياسة التحرير الاقتصادي، وفتحت أسواقها بالكامل لمُنتجات دول أكثر تطوّراً وتقدّماً تقنيّاً منها. كلُّ هذه الدول طبّقت بشكل أو بآخر، وبهدوء ودون ضجيج كما هو الحال بالنسبة للنمور الاسيويّة، برامج وطنيّة استهدفت تسريع التنمية والتصنيع فيها بمؤازرة قويّة من الدولة، إن لم تكُن شراكة، في قطاعات بعينها حتى تمكّنت من خلق قاعدة إنتاجية وتصديرية قادرة على المنافسة.
لا أحد، بالطبع، يدعو للانكفاء والانغلاق على الذات، فالأسواق الدوليّة والتكنولوجيا العالمية ضروريّتان لتحقيق التقدّم والتنمية الاقتصادية. ولكن، وفي المُقابل، لا يُمكِن تحقيق التقدّم والتنمية دون وجود خُطط مدروسة بعناية تسترشد بتجارب الدول التي سبقتنا في هذا المِضمار. أمّا الإيمان الأعمى وحده، بالتحرير الاقتصادي وفتح الأسواق للتنافس الكامل، الذي يروِّج له البعض، ومع دول أكثر تطوّراً وتقدّماً مِنّا، فسيُبقينا غارقين في مُستنقع الاعتماد على تصدير المواد الخام واستيراد السلع الصناعيّة من الآخرين.
ثالثاً: قِلّة السُكّان وقضيّة الاستثمار في الزراعة
مما يدخل في باب التّمويه في هذا المجال، الحديث عن المساحات الشاسعة للأراضي الزراعيّة في السودان، وقِلّة أعداد السُكّان في البلد التي لا تسمح لهم بتعميرها. إذا كان المقصود بذلك أنّ الاستثمار الزراعيّ لا يتمّ إلا بالأيدي والسواعد والفؤوس، فلربما كان ذلك صحيحاً. ولكن في هذا العصر، فإن المَزارِع في الدول الغنيّة على سبيل المثال، وهي مَزارِع كبيرة المساحة تتمّ معظم مراحل العمل فيها بواسطة أفراد الأسرة المحدودة العدد المالكة لها، وذلك بالاستعانة بالآليات الزراعيّة الضخمة ومُدخلات الإنتاج الحديثة. وهذه هي المَزارِع التي تزوِّد مناطق كثيرة في العالم بالحبوب والغذاء. وفي دول عديدة أخرى، تُصنف ضمن منظومة الدول النّامية، فإن استخدام الآلات الزراعيّة وتقنيات الإنتاج الحديثة أصبح أمراً شائعاً.
لا، ليس صحيحاً البتّة أنّ المشكلة عندنا هي قِلّة السُكّان. فملايين السودانيين قد اضطرّوا للهجرة من بلادهم وهاموا في الخارج والحسرة تملؤهم لأن أنظمة الحكم القائمة فشلت في إدارة البلاد بالحدِّ المعقول الذي يُتيح للناس فُرص العيش الكريم.
يتبع هذا الحديث عن قِلّة السُكّان وفشلهم في استثمار أراضيهم الزراعيّة، حديث موازٍ عن كسل السودانيين، يردّده البعض في مصر، ونقلته عنهم بعض الأوساط في دول عربية أخرى منها جهات في السودان نفسه. هذا الحديث أو هذه الفكرة، بالإضافة لتخلُّفِها والشِحنات العنصريّة الكامنة فيها، غير صحيحة تاريخيا بالطبع، وتحمل تبسيطا مُخِلّاً للأمور، وما كان من اللازم الالتفات إليها لولا استخدامها المُتعمّد للتّمويه وإخفاء مآرب أخرى لا يتمّ الإفصاح عنها.
تكفي نظرة واحدة إلى سائقي العربات والشاحنات، وهم يقضون يوماً كاملاً في صفوف عقيمة للحصول على حصص ضئيلة من الوقود، لمعرفة صبر السودانيين على العمل والمكارِه. كما تكفي جولة في أسواق العاصمة والمدن الرئيسيّة لمُشاهدة أصحاب المتاجر ومحلات الأغذية يعملون من الصباح الباكر وإلى منتصف الليل، بدرجة قد تفوق ما يقوم بها أصحاب الحوانيت الهنود المشهورين بساعات عملهم الطويلة. كما يجب ألا ينسى المرء في هذا الصّدد، هِمّة وعزم عشرات الألوف من العاملين في التعدين الأهلي للذهب في ظروف لا يتحمّل العيش فيها إلا القليلون في هذا العالم، أو الرُعاة يسوقون مواشيهم راجلين معظم الوقت، لأسواقها داخل السودان وفي بعض دول الجوار.
لديَّ معرفة بمنطقة القضارف، وأعلم بأنّ العمل في المشاريع الزراعيّة الواسعة فيها، المُمتدّة من منطقة الفاو القريبة من مدني وإلى حدود السودان مع إثيوبيا، من أشقّ أنواع العمل. يقتات مُعظم المزارعين والعاملين معهم على السمك المجفف (الكجيْك لمن سمع به) ذي الرائحة النفّاذة وعصيدة الذُرة المُعدًة بالماء المغلي، ويشربون من مياه الأمطار التي تتجمّع في الحفائر الصغيرة التي يقيمونها وتتحوّل مياهها بعد فترة وجيزة إلى مياه راكِدة ملوّثة.
وعلى طول هذه المنطقة الشاسعة، لا يوجد إلا طريق مدني- القضارف، ومؤخّراً طريق القضارف- القلابات. لقد حقّق هذان الطريقان فوائد للمشاريع الزراعية القليلة المُتاخمة لهما، ولكِنّ الأغلبيّة العُظمى من المشاريع بعيدة عنهما، ولا توجد أيّ طُرق صالحة للسير خلال موسم الأمطار للوصول إليها. ويُعاني الناس الأمرين للوصول إلى مستشفى القضارف لعلاج من يتعرّض للدغات الأفاعي السامة في الفترات التي يشتدّ فيها هطول الأمطار. ولا توجد خدمات كهرباء أو مدخلات انتاج حديثة، ويعاني المزارعون من النقص المتواصل في الوقود. كذلك لا تُوجد جُسُور على الوُديان العاتية التي تحمل السيول الجارفة، والتي راح ضحيتها على مرّ السنين أعداد من المزارعين، أعرف البعض منهم، عليهم رحمة الله.
ورغم وطأة هذه الظروف القاسية، ينتج هؤلاء المزارعون مُعظم محصول البلاد من الذُرة، وكميات مقدرة من السمسم والفول السوداني والدُّخن وعبّاد الشّمس، بالإضافة إلى انتاج مُهمّ من الثّروة الحيوانيّة.
لا تكمن المشكلة في قِلّة عدد السُكّان، وإنما في غياب الرُّؤية السليمة والخُطط التنمويّة المدروسة. فلا يُمكن تحقيق استثمار زراعي حديث دون توفير الحدّ الأدنى من البُنى الأساسية من طرق وغيرها كخدمات الكهرباء، ودون توفُّر مُدخلات الإنتاج. وليست المسالة فقط نقصاً في الموارد، وإنما أيضاً سوء تخصيص المُتاح منها. فالأموال التي أُنفِقت على الحروب العبثيّة، والصرف على الأجهزة الدستوريّة المُتضخّمة، وعلى أجهزة الحكم المحليّ المُتشعِّبة التي تُصرف معظم مواردها كرواتب وأجور للعاملين بها، كانت كفيلة بإنشاء حدّ معقول من البُنى الأساسيّة والخدمات الإنتاجية.
هناك أمر آخر، وهو خُرافة أن الاستثمار الزراعي الذي نتطلّع إلى فوائده لا يقوم به إلا الأجانب المالكون لرؤوس الأموال. إذا وجِد مشروع زراعي له جدوى اقتصادية فمن المُمكِن الحصول على قروض خارجية لإقامته. ونحن لدينا تجارب ناجحة في ذلك، مثل مشروع امتداد المناقل، ومشروع الرهد الزراعي، ومشاريع انتاج السكر وغيرها. كما أنّ شركة الشيخ مصطفى الأمين الزراعيّة، على سبيل المثال، قد قامت في الماضي بإنشاء مشاريع زراعيّة عملاقة، مُقدِّمة نموذجاً طيّباً للرأسماليّة الوطنيّة الرائدة، قبل أن تتأثر أنشطتها برياح حقبة الإنقاذ المُدمِّرة.
كذلك، ألم يكُن من الأجدى قيام السلطات لدينا بتشجيع قيام شركات مُساهمة عامّة للاستثمار الزراعي يُشارِك فيها المغتربون السودانيون، بدلاً عن إعادة استنساخ التجارب السابقة لتحفيزهم للتحويل للسودان من خلال السماح لهم بجلب السيارات والأثاث.
لا يجوز التّمويه على الناس في هذ الجانب، أوفي غيره بالطبع، فعندما يأتي المستثمرون الزراعيون الأجانب، فسيكون هدفهم الاستراتيجيّ هو الاستفادة من أراضي ومياه السودان لإنتاج محاصيل زراعيّة يصدرونها لبلدانهم كمُنتجات أوليّة. لن يُقيم لنا أحد صناعة زراعيّة في هذا البلد ذات قيمة مُضافة، وسنكون نحن الذين نستورِد منهم مقابل المُنتجات الزراعية الخام من أراضينا ومياهنا، حليباً وألباناً وأجبانا.
رابعاً: أوهام التّكامل الاقتصادي في المناطق الحدوديّة
هذا ضرب آخر من ضروب التّمويه التي راجت عندنا. طُرِحت فكرة التّكامل في البدء كحلّ لمُشكلة حلايب المُحتلّة من قِبل مصر، كما حاولت بعض الجهات مُؤخّراً اقتراحها كحلّ للنزاع مع الجانب الإثيوبي في منطقة الفشقة. والأمر المُحير أنّ هذا الحلّ المُقترح للنزاعين الحدوديين أتى من قِبل جهات سودانية، ولم يأتِ من الجانبين الآخرين. وفضلت هذه الجهات السودانية هذا الأسلوب على المُطالبة الجادة الواضحة بحقوقنا، على الأقلّ من خلال الآليات الدوليّة المعمول بها لحلّ مثل هذه النزاعات، ليأخذ في النهاية كلّ صاحب حق حقه.
أودُّ أن أُشير هنا إلى ما ينبغي أن يكون معلوماً بالضرورة، وهو أنّ استقرار الجيران في المناطق الحدوديّة والاستثمار فيها، سيتحوّل بعد جيل واحد، وبحُكم الطبيعة البشريّة، للنظر إلى هذه المناطق بحُسبانها جُزءاً أصيلاً من دولتهم. فعندما تُقام المدن والقرى وتشقّ الطرق، ويذهب الأطفال للمدارس فسيقولون هذه "الأرض لنا"، ولا يجب أن يُدهِش ذلك أحداً.
كنت قد ذكرت في مقال سابق نُشِر بسودانايل أنّ روسيا التي تملك أسلحة نوويّة تستطيع تدمير هذا الكوكب ولا يجرؤ عاقل على الاعتداء عليها، تحظر مع ذلك ملكيّة الأجانب للأراضي الزراعيّة في مناطقها الحدوديّة، وأيضاً في المناطق الأخرى التي تعتبرها مناطق حيويّة، لاعتبارات أمنيّة لا تُخفى. كما تحظر أوكرانيا ملكيّة الأراضي الزراعية للأجانب، وتفرض الأرجنتين وأستراليا ونيوزلندا والصين وولاية كاليفورنيا وبعض الولايات الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية حظراً أو قيوداً مُشدّدة على ملكيّة الأجانب للأراضي الزراعية، وهذه مجتمعة تُمثِّل أهمّ المناطق الزراعية في العالم. كذلك تفرض المكسيك قيوداً على الاستثمار الأجنبي في المناطق الحدوديّة وعلى السواحل.
هذه البلدان المذكورة كلّها دول متطوِّرة وخالية من النزاعات الخطيرة، ومع ذلك أدركت خطورة تمليك الأجانب للأراضي الزراعية، فما بالنا نحن؟ فعندما تمنح بلادنا جهات أجنبية حقّ استثمار أراضينا الزراعيّة لما يُناهِز المائة من الأعوام كما حدث خلال عهد الإنقاذ، تكون كمن ملكّتها لها من الناحية العمليّة، أدركت هذا الأمر أم لم تُدرِكه.
محمد الحاج-كندا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.