معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طوال كالنخل وسود كالفحم وأسود في إهاب رجال .. بطولات "الكتيبة المصرية السوداء" في حرب المكسيك .. بقلم: أحمد حسب الله الحاج
نشر في سودانيل يوم 16 - 03 - 2021

منذ أن أصدرت لي دار "مدارك" في 2018 رواية "فشودة" ظلّ الصديق سيد أحمد بلال يوافيني بكل ما يجد أن له علاقة بمشاغل الرواية وبخاصة مشاركة "الأورطة المصرية السوداء" في المكسيك. وكان بعض ما يصلني منه يستحوذ على إعحابي، وبعضه يُثير حفيظتي ويدفعني للكتابة له مشاكساً ومناكفاً. ومؤخراً اندرج تحت ما يثير الحفيظة تسجيل صوتي للعميد أركان حرب صلاح كرار، ولعدة أسباب رأيت أن يخرج ردي عليه من دائرة المناوشات الإخوانية لاقتحم به باب الساحة العامة. وقد حدث هذا بعد أن استمعت بكثير من الانتباه إلى التسجيل الصوتي الذي يتحدث فيه العميد بحري صلاح كرار عن الجيش السوداني وعما فعله به نظام الإنقاذ، والذي لا زلنا نعاني منه الآن، وسنعاني منه لسنين قادمات.
وبعد أن أكملت الاستماع عدت إلى المقدمة الغريبة التي تفضل بها العميد وهو يقول مخاطبا أحد الأشخاص في يقين العارف وفي تجرد الناصح: "أول حاجة العسكرية دي مما قام (هكذا) قوة دفاع السودان في ألف وتمنماية وحاجة، يعني ألف وتمنماية كم وتمانين، ستة وتمانين، وكان فيها والد عبد الفضيل ألماظ اسمه محمد ألماظ، دي المجموعة الطلبها ال الاسمو منو دا، بتاع فرنسا دا، مش نابليون، اسمو... المهم يعني طلبها علشان تمشي المكسيك تحارب هناك، رسلوا الكتيبة دي بالبحر لحدي ما هناك، وقاتلت قتال ولما جو راجعين أصر يجوا فرنسا وأداهم أنواط وأوسمة على شجاعتهم وكدا..."
والحديث نموذج بديع، أو إن شئت مريع، للطريقة التي يتحدث بها الأفراد الذين نصبوا أنفسهم، عن طريق الانقلابات العسكرية، مرجعيات في الفكر والفن والأدب والثقافة والتاريخ والاقتصاد والسياسة في السودان. وهي مرجعيات شوهاء وعاجزة وعقيمة ومقصرة، ولا تستطيع محاولة الإفصاح دون أن يرتج عليها ليغلب عليها العي فتلوذ بقاموس بعض مفرداته، كما هو الحال هنا: منو دا، ومش ويعني، وبتاع، وكدا. وفوق هذا وذاك عدم وضع أدنى اعتبار للحقيقة التي هي عندهم غول وعنقاء. ورغم هذا استمعت وأعدت الاستماع، لأنني، وأعترف بهذا، استمتع كثيرا بسماع روايات الجهالة، وبخاصة عندما يكون الجهل منتشيا "بمغلوط معارفه"، ومزهوا بانتفاخات ذاته، ومنتفشا بريش غروره كديك رومي برتبة عميد أركان حرب. فبداية نجد أن قوة دفاع السودان التي وصل فيها صلاح كرار إلى رتبة العميد أركان حرب، تأسست عنده في "ألف وتمنماية وكدا"، بينما تأسست تلك القوة على يد هدلستون باشا في1925. أما "ستة وتمانين" التى نجح العميد بعد تأتأة ولعثمة في تحديدها فإنها لم تشهد أي تأسيس لقوات مسلحة سودانية، إلا إن كان العميد يشير إلى ملازمية شيخ الدين، ابن الخليفة عبد الله. وذلك لأنها، اي 1886، كانت السنة الثانية من عمر الدولة المهدية.
وتماما مثلما أن المصائب لا تأتي فرادى، لا يكتفي العميد أركان حرب بواحدة، بل يسارع بالإدعاء أن تلك القوات المسلحة السودانية التي تأسست في تلك السنة، التي يظن، قد حاربت في المكسيك. هذا في حين أن "الكتيبة المصرية السوداء" Bataillon Negre Egyptien التي يخلط العميد بينها وبين القوات المسلحة السودانية، شاركت في حرب المكسيك في السنوات 1863 - 1867 أي قبل قرابة العشرين سنة من التأسيس المزعوم تلك القوات. ويعتسف العميد هذا، لأنه كما يبدو، يريد مفاجأتنا بمعلومة "مذهلة"، وهي "وكان فيها والد عبد الفضيل ألماظ"!! وأقول له بداية لم يكن والد عبد الفضيل ألماظ من بين أفراد تلك الكتيبة التي حاربت في المكسيك. ليس ذلك فحسب، بل أن الرجل الذي يظن العميد أركان حرب أنه والد عبد الفضيل ألماظ ليس هو والده، بل ولا تجمعه به صلة قرابة لا من قريب أو بعيد. ولهذا فإن قول العميد "وكان فيها والد عبد الفضيل ألماظ اسمه محمد ألماظ" خطأ فاحش يستوجب منه الإعتذار، ليس لنا فهو لا يعبأ بنا ولا نعبأ نحن به، وإنما لأسرة عبد الفضيل ألماظ، لأن والد عبد الفضيل هو ألماظ عيسى وليس محمد ألماظ. وحتى أعود إلى هذا لاحقاً، ولتخفيف حدة جريرة نسبة الأبناء إلى غير آبائهم، أقول له إن "بتاع فرنسا"، والذي لا يحتاج منه لاعتذار، هو شارلس-لويس نابوليون بونابرت، ابن أخ نابوليون، والذي عرف باسم نابوليون الثالث.
وبما أنه قد صارت إحدى عاداتنا أن نتحول سريعاً إلى ببغاوات تردد ما سبقنا إلى ذكره آخر أو آخرون دون فحص أو تمحيص، فلا بد لنا من محاولة الرجوع إلى المصدر الذي انطلقت منه تلك الجهالات المتفشية عن مشاركة "الكتيبة المصرية السوداء" في الحرب الأهلية المكسيكية. وذلك في ظني الفيلم المعروض على "اليوتيوب" تحت مسمى "مشاركة الجيش السوداني في حرب المكسيك." ولا أظن أنني سأتجاوز حدود المعقول عندما أقول إنني لم أشاهد/أسمع قريباً مثل هذا الكم المرعب من الأخطاء، التي تنحدر إلى مستوى الكذب الصريح، الذي نجح منتج أو منتجو هذا الفيديو في تكديسه في 3 دقائق و33 ثانية فقط. وأنصح هنا أن يسحب وه ويعيدوا صياغته قبل إطلاقه من جديد.
وإذا بدأنا بالعنوان "مشاركة الجيش السوداني في حرب المكسيك" فهو ليس أكثر وليس أقل من أكذوبة، ذلك أن الجيش السوداني لم يشارك في حرب المكسيك، لأنه في وقتها لم يكن هنالك شيئ يعرف بالجيش السوداني. وكما أسلفت فالأميرلاي محمد ألماظ أفندي ليس والد البطل عبد الفضيل ألماظ، وأظن أن الخطأ هنا ليس فقط خطأ معرفياً، وإنما هو خطأ بغيض يحمل بين طياته الكثير من الاستخفاف العنصري الذي يتخفى ولا يكاد يستر عورته وراء غلالة الزهو غير الحقيقي. فطالما أن هناك "الماظ" فلنلصقه بعبد الفضيل دون أدنى محاولة لتقصي حقيقة، أو وضع اعتبار لحساسية أصل ونسب. فإن أصبنا فبها، وإن لم نصب "فكله عند العرب صابون" ولن يعترض علينا أحد. ومرة أحرى ليس لعبد الفضيل ألماظ علاقة على الإطلاق بمحمد ألماظ أفندي الأميرلاي "الدينكاوي" صاحب التاريخ العسكري الحافل الذي أهله لكي يكون يوماً حاكماً لمديرية دنقلا. أما والد عبد الفضيل فهو الجندي ألماظ عيسي "النويراوي" بكامل خصوصية شخصيته، وتميز عطاء جنديته، وكريم رونق إنسانيته، وخصوبة رجولته، ولا يستحق منا أن ننزع عنه أبوته لأحد أعظم أبطالنا. أماعبد الفضيل نفسه الذي يُحكى عنه أنه كان يتوق لإشباع الطير من جثامين الرجال قبل خروجه في يوم 27 نوفمبر 1924 فهو ليس بحاجة لأن ننسبه جهلا وصفاقة واستهتارا إلى أب غير أبيه، فقط لأنه كان صاحب رنبة عسكرية أعلى.
وحتى محمد سعيد والي مصر لم يسلم هو الآخر من فرط تهاوننا مع الحقيقة، فناديناه بلقب الخديوي، بينما لم يكن هو كذلك، إذ أن أول حاكم مصري عرف باسم الخديوي كان خلفه إسماعيل. ويتبع هذا أكذوبة تجميعه للجنود من كل بقاع السودان، فذلك أمر عارٍ تماما من الصحة، إذ أنه لم يكن من بين أفراد تلك المجموعة/ جعليا أو شايقيا أو دنقلاويا أو شكريا أو كاهليا، أو رزيقيا، أو من أي من القبائل التي نرى أنها ذات قدر وشأن واعتبار. وإنما كانو من أبناء قبائل جنوب السودان وجبال النوبة وأصقاع دارفور. لقد كانو جميعا من الجنود العبيد الذين حرروا أنفسهم من خلال بسالتهم وبطولاتهم. ولو قبل الجميع أو رفضوا فأولئك الرجال الذين لعبوا دوراً أكبر من غيرهم في إسقاط دولة المهدية كانوا أول من رفع راية الوطنية السودانية، التي حملها بعدهم أبناؤهم من أمثال على عبد اللطيف وعبد الفضيل ألماظ، وحملها بعدها أحفادهم. ولا أنسى هنا الدور الرائع والمتميز لأشاوس المحس الذين رفدوا القومية السودانية بفكر عبيد حاج الأمين ووعيه، وبجسارة سيد فرح وبطولاته، وبألحان خليل فرح وكلماته.
وعودة إلى أكذوبة "الجيش السوداني في المكسيك" فإن تلك "الكتيبة السوداء" لم تتحرك من الخرطوم عبر بربر إلى سواكن فبورسعيد، بل تحركت من محطة القطارات بالقاهرة إلى دار المكوس بالإسكندرية حيث كانت تنتظرهم "السين". وعندها فقط عرفوا أنهم في طريقهم للمكسيك، ليحاربوا إلى جانب القوات الفرنسية لتثبيت حكم الإمبراطور ماكسميليان هناك. وأخبروهم أن "أفندينا" يتابع هذه المهمة بشكل شخصي، ولا يتوقع منهم غير أن يرفعوا رأسه عالياً بين الحكام والمحكومين في كل مكان، وبخاصة في أوروبا. وقد فعلوا. وقد حكيت عن هذا وغيره ضمن سرد روايتي "فشودة" والتي سأعود إليها مراراً في هذا الرصد والسرد مستعيناً وموضحاً. ومن ذلك أن مجمل عدد أفرد الأورطة كان 447 ضابطاً وجنديا، ومعهم 39 من المجندين الذين لم يحاربوا من قبل، إضافة إلى عشرة من الصبيان.
وفي ذات السياق فإن القول بعودتهم بعد أن استتب الأمن بالمكسيك هو أيضا قول غير صحيح إن راعينا الأدب، وعارٍ تماماً من الصحة إن توخينا الصرامة. فقد غادرت الكتيبة السوداء مع القوات الفرنسية المندحرة بعد انتصار الجمهوريين على الملكيين. وتمّ ذلك عندما جاءتهم الأوامر في فبراير1867 بمغادرة المكسيك مع القوات الفرنسية. لقد كسب رجال الكتيبة جميع معاركهم، ولكن حلفائهم خسروا الحرب. ولم تمر سوى بضعة شهور من خروجهم من المكسيك حتى وقف الإمبراطور ماكسميليان الذي، جاءوا لتثبيت حكمه، أمام فرقة الإعدام. ولكن هذا لا يأخذ شروى نقير من سجل إنجازهم. وسيظل يذكر لهم ضمن ما يذكر أنهم كانوا آخر الذين غادروا فيراكروز التي احتفظوا بها، ولم يدخلها جندي جمهوري منذ أن قدموا إليها في 23 فبراير 1863 وحتى غادروها في 12 مارس 1867. كما يذكر لهم أنهم حموا فيراكروز بجسارة وظلوا يقفون على أرضها حتى اعتلى آخر جندي فرنسي ظهر إحدى السفن المغادرة إلى فرنسا.
لقد كانت تلك هي مغادرتهم. أما وصولهم إلى فيراكروز بعد رحلة مضنية عبر الأطلنطي فيحكيها السرد في رواية "فشودة" على هذا النحو:
"وفي الصباح رأينا أن نعلن عن وصولنا بالطريقة التي نفضلها على غيرها، أن نجول شوارع المدينة في طابور عسكري. وأقول لكم إنه عندما دقت الطبول وصدحت الأبواق ودقت أقدامنا التراب، وجد سكان فيراكروز أمامهم مشهداً لم يروه من قبل، وربما لن يروا مثله من بعد. ربما أكون مغالياً، ولكن مشهد كتيبة سودانية تمر أمامك في طابور عسكري سيظل عالقاً بذهنك لوقت طويل. فنحن نقاتل حين نستعرض، ونستعرض حين نقاتل، ونرى الحياة ساحة نقاتل فيها بجسارة ونرقص عليها بمهارة، كما نعتبرها مساحة للتبختر متى كنا قادرين على ذلك. وفي ذلك الصباح في الأسبوع الأخير من شهر فبرير 1863 شاهدت فيراكروز أربعمائة من الرجال الغرباء، طوال كالنخل، وسود كالفحم، في ملابس بيضاء كالقطن يعلنون قدومهم كمقاتلين."
وسريعا ما عرف رجال الكتيبة أن نقطة ارتكازهم ستكون فيراكروز، وأن نطاق عملياتهم سيمتد على طول الخط الحديدي الذي يربط الميناء بالعاصمة. كان الخط يتعرض للهجوم المتواصل من العصابات الجمهورية التي كانت تشن حرباً ناجحة على الخط الحديدي وكافة خطوط الاتصال. وما أن أكملوا استعداداتهم، بما في ذلك تغيير بنادقهم لتنسجم مع بنادق الجيش الفرنسي، حتى حدث أول إشتباك لهم مع القوات الجمهورية في مارس 1863، وفي إبريل بدأوا نحكمون السيطرة على مناطق عملياتهم، وفي مايو استطاعوا أن يمسكوا بزمام المبادرة في ملاحقتهم للعصابات الجمهورية. وعندما دخل المارشال بازين، القائد الأعلى للقوات الفرنسية، العاصمة مكسيكو سيتي في 7 يونيو كانوا معه. وفي 21 يونيو، يوم الاحتفال بالنصر، شكلوا حرس الشرف ومشت الكتيبة مشية الظفر والخيلاء، وسط صيحات الإعجاب، عبر ميدان زوكالو. وعند حضور الإمبراطورة شارلوت إلى فيراكروز في ديسمبر 1865كان لهم شرف إطلاق 101 طلقة تحية لها. وكانوا الحرس المختار لحمايتها، فكان الخيالة السودانيون يركبون أمامها وخلفها. وقد تحدثت عنهم بكثير من الروع والإعجاب إلى زوجها الإمبراطور.
ومنذ البداية كان الفرنسيون يعرفون أنه بمقدور الجنود السود أن يقاتلوا، ولكن لم يكونوا يدرون إلى أي مدى. ولهذا لم يعرفوا صلابة معدنهم كجنود حتى سمعوا ببطولات الملازم فرج الزين، وحتى رأوا الأونباشي عبد الله باشا يرفع مكسيكياً فوق رأسه بالسونكي الذي كان لا يزال مغروساً في جسده، وحتى شاهدوا الملازم محمد سليمان يتلقى ست رصاصات وهو لا يزال واقفاً على قدميه، وحتى علموا أن الملازم صالح حجازي صمد مع رجاله العشرين أمام مائتين من الأعداء لساعات حتى وصول القوات المساندة، وحتى علموا أن الملازم عبد الرحمن موسى كان يخرج يوماً بعد يوم في طليعة فرسانه على جواده الأدهم المحجل، يخوض بهم المستنقعات، ويصعد معهم المرتفعات، ويجوب بهم الفيافي، ويقتحم بهم المواقع وكأنه نشأ وترعرع في تييرا كالينتي، أو الأرض المُحرِقة كما يسمونها.
ونتيجة لذلك، وغيره كثير، كال عليهم الفرنسيون، عن جدارة واستحقاق، أقصى درجات التقدير والثناء. فقد كتب عنهم الكولونيل هنري بلانشو، الذي كان شديد الانتقاد للجيش الفرنسي في المكسيك:
"تحت الشمس المُحرِقة في تييرا كالينتي أزاحوا عبئاً عن الجنود الفرنسيين الذين كان يفتك بهم الطقس الذي لا يرحم... هل لي أن أضيف كلمة عرفان لأولئك الأصدقاء الذين أسدوا لنا، في سخاء بالغ، خدمة لا تقدر بثمن. لقد كانوا رائعين كالتماثيل الأبنوسية وهم يلبسون الكشمير الأبيض. أحفاد الفراعنة المحاربين الذين يذهلون الناظر بالطول في قاماتهم، وبالشموخ في وقفتهم، وبالاعتزاز في سلوكهم. لقد كانوا جنوداً كما ينبغي للجنود أن يكونوا."
كما كتب عنهم عنهم المارشال فوريه:
"لم أشاهد في حياتي أبدا مثل ذلك الإعتدال المطلق ومثل تلك الجسارة التي يظهرونها في خضم المعركة. كانت أعينهم فقط هي التي تفصح عن مشاعرهم، إن شجاعتهم مذهلة ولا تصدق، لم يكونوا رجالاً وإنما كانوا أسود." Ce ne sont pas des soldats, ce sont des lions
ومع هذا فقد وجدوا من يعيب عليه "الوحشية" وعدم أخذهم للأسرى. ورداً على ذلك يقول أحدهم ضمن سرد "فشودة":
"كنا نحسن التصويب، ونجيد اللحاق والمطاردة، ولكننا كنا نتميز عندما نلتحم بأعدائنا في قتال يدوي. كنا نصمد أمام نيرانهم حتى نتداخل معهم، وعندها كنا نلقي بالبنادق جانباً ونعمد إلى الخناجر التي نحملها دائماً معنا. كان من المستحيل أن تأخذ أسرى في تلك الأحوال. ولكن مهما قالوا عنا فقد كنا، ولا نزال، نحني رؤوسنا للشجاعة أينما وجدناها، بين صفوفنا أوعند أعدائنا."
وعند خروجهم من فيرا كروز كانت "السين" مرة أخرى في انتظارهم. وكان من المقرر أن تبحر بهم مباشرة إلى الإسكندرية، ولكن المارشال بازين، الذي تفقدهم بنفسه قبل الرحيل وشكرهم على ما قاموا به، نجح في أن يرتب لهم زيارة باريس ليتيح للكتيبة أن تنال ما تستحقه من تكريم. وفي 30 إبريل ألقت "السين" بمرساتها في ميناء طولون حيث كان هنالك قطار خاص ينتظرهم في "قار دو طولون" ليأخذهم إلى "قار دو ليون" في قلب باريس حيث قضوا أسبوعاً في ضيافة الحرس الإمبراطوري في سان لازار. وكما يقول السرد في "فشودة":
"وفي التاسع من مايو دقت طبولنا كما لم تدق من قبل، وصدحت موسيقانا كما لم تصدح من قبل، وضربت أقدامنا على أرصفة الشوارع الباريسية كأننا نريد أن نشق عليها دروباً. فكما يقولون فإنك لا تلاقي إمبراطوراً في كل يوم من أيام حياتك. قابلنا الإمبراطور نابليون الثالث في باحة قصر التويلري، وصافح البيمباشي محمد ألماظ، وأنعم عليه وعلى عدد من الضباط بوسام جوقة الشرف، وبمدالية حرب المكسيك على الجنود، وقام شاهين باشا القائد الأعلى للجيش المصري بتوزيع الهدايا على الجرحى نيابة عن الإمبراطور."
وعادت الكتيبة بعدها إلى طولون وإلى "السين" التي أخذتهم إلى الإسكندرية التي وصلوها في الأسبوع الأخير من مايو 1867. والمدهش أن الأشياء تتقابل وتتعارض في هذه الحياة بشكل غريب. لقد خرجوا من الإسكندرية من عدة سنين في السر ودخلوا فيراكروز في العلن، ومن شهور خرجوا من فيراكروز في صمت ليدخلوا الإسكندرية في ضجيج وصخب. وفي الثامن والعشرين ساروا أمام الخديوي في ساحة قصره برأس التين بالإسكندرية. وقد كان "أفنديهم" الذي استقبلهم غير "أفنديهم" الذي ودعهم. ودعهم الوالي محمد سعيد باشا واستقبلهم الخديوي إسماعيل باشا.ولم يكن "أفنديهم" وحده الذي تغير، فجميعهم أيضاً قد تغيروا ولم يعودوا نفس الرجال. لقد تركت المكسيك آثارها عليهم جميعاً. كما تركوا هم أيضاً آثارهم عليها. وتركوا أيضاً خلفهم رُفات ما يزيد على المائة من الرجال دفنوهم في مقابر لا تحمل اسماً أو علامة، كما تركوا خلفهم عدداً من المفقودين.
ومرة أخرى، كما في باريس، نالوا حظاً وافراً من التكريم. وكانت ذروة ذلك هي إعلان ترقية محمد ألماظ إلى رتبة الأميرلاي، كما خلع عليه الخديوي لقب البكوية، وقد خلع عليه الباشوية فيما تلى من سنوات.
إنها بعض عادات البشر أن ينسبوا الفضل إلى غير أهله. ولهذا لا بد من القول إن بطولات "الكتيبة المصرية السوداء" لا يستحقها المصريون الذين كثيراً ما تمشدقوا بها، فتلك الكتيبة لم تحمل من مصر غير الاسم ومعه ولاء غائم الملامح "لأفندينا". كما لا يستحقها الجيش السوداني الذي لم يكن قد ولد بعد ليدعيها سادته وسدنته. بل لا يستحقها سودانيو الأمس الذين لم يمنحوا أفرادها غير الرق والاستعباد والذل والهوان. وقد لا يستحقها سودانيو اليوم الذين لا يتحرون الدقة فيما يكتبون، ولا يحرصون على الحقيقة فيما يقولون. إن الذي يستحق شرف تلك البطولات هو السودان، وبه ومعه ولأجله أولئك الرجال الطوال كالنخل والسود كالفحم:
"... الذين عاشوا بأسماء غير تلك التي ولدوا بها. بعضها اختارها لهم غيرهم، وبعضها اختاروها هم لأنفسهم. أسماء أرادوا بها أن يقولوا شيئاً وأن يثبتوا أمراً. أسماء مثل حديد فرحات وبهجت سرور وفرح عزازي وفرج الزين. أسماء اتخذوها كتعويذات تطرد عنهم ذل الغبن، وتبعد عنهم هوان الاسترقاق. لقد غرست العبودية نصلها في أرواحهم فنزفت، ولكنها لم تمت، ولم تفقد قدرتها على الفرح. وأحاط الاسترقاق أعناقهم وأياديهم وأرجلهم بأغلاله ولكن رغم ذلك لم يستطع أن يوقف تقدمهم بتلك الخطوات التي تدق على الأرض فتكاد أن تشق فيها دروباً."
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.