في حياتنا وردي . في حياتنا محمد عثمان . طويلا في مهابة ووسيما في نوبية لا تخطئها العين . سليل بعانخي وتهارقا وربيب الكنداكات ، ناس أمانيشخيتو وأماني ريناس . وياسلاااام ... وادي حلفا ترجمالنقا ...سمرا منديل هدية ليي ، سمرا شِبشِبا هدية تودنقا ليي ... ، أووو قميص نُصِ كُمِي . لم يكن محمد وردي مغنياً وكفى ، كان وردي مغني السودانيين ، وذلك بالمناسبة فضل عظيم وشأو كبير . بطريقة أو بأخرى كان فنان شعوب القرن الأفريقي المنكوب إنما الجميل بشعوبه المحبة للسودانيين . قبل سنوات في تونس الخضراء سألاني ، كل من أبراهيما وقاديسا من إثيوبيا عن معنى كلمات أغنية سودانية يغنيها الأثيوبيون : أومرال هَارام ، أومرال هَانَا ... بعد جهد توصلت إلى أنها عمر الزهور ، عمر الغرام ، عمر الهنا ، لمحمد وردي . خلاص كبرتي وليك تسعتاشر سنة ! لا يلحن محمد وردي الأغنية وحدها ، يلحن محمد وردي الكلمات بل والحروف ! لذلك فالكلمة ذاتها تخرج بطريقة مختلفة لو كانت الأغنية عن الحبيبة عنها لو كانت عن الوطن . في مثل ذلك استمع إليه في وطنّا الباسمك كتبنا ورطنّا ، أحبك مكانك صميم الفؤاد . ذات كلمة أحبك تجدها تخرج مختلفة في أنا ياروحي بااااحبك ! يصدح وردي بالكلمات فتأخذ الكلمات مكانها ، لووو بهمسة ، قووول آااحبك ! تخرج لو بهمسة عن طريق الهمس هي ذاتها . كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل ، نصرخ حينها كنا والمذياع يبث تلك الأغنيات ، نطرب ونحن نرفع أصواتنا التي تغيب في جوقة أصوات بقية طلاب المدرسة في احتفالات أكتوبر وفي احتفالات البلاد بأفراحها قصيرة البقاء . منحنا محمد وردي تلك المحبة للبلاد . نصرخ كنا وفي الصراخ يضيع النشاز : ومع المَكِّ النِمِر ! طبع محمد وردي عمر أجيال من السودانيين بطابع غنائه ، للبلاد وللحبيبة وللشجى والحنين . طبعها بوسامته ، بأناقته ، باعتداده بفنه وقبل ذلك بسودانيته . ذلك زمن روقة السودانيين وهداوة بالهم . غنى محمد وردي مرحبا يا شوق ، ولم يكن إلا لقاء وافترقنا . غنى محمد وردي وسط الدايرة يا أجمل نايرة ، ذلك كان فتحا في أغنيات السودانيين ، فتحاً كان لابد منه والبلاد تدخل في حداثتها التي داستها سنابك خيل البداوة من ساكني عصور الظلام بعد ذلك . كان محمد وردي هو نفسه ظاهرة ، باعتداده بفنه قلت وبرفعه لمكانة الفنانين المغنين . كان فنانا كما ينبغي للفنانين . لا يغني فقط ليطرب الناس ، بل ليطرب نفسه قبل ذلك ، يمدد الكلمات والحروف التي تطرب هي ذاتها من محبة صاحبها لفنه : قلبي الحابييييك ما خان لياليك ! تلك الأغنيات التي بللت مناديل الحبيبات في ستينات وسبعينات وحتى ثمانينات القرن الفائت وربما حتى بدايات تسعيناته . بعدها انفجرت ثورة التكنولوجيا وضاع العالم كما عرفه ساكنوه قبل ذلك إنما بقيت الأغنيات : ولا لون الفرح إنت ، ولا بنت ... يا إلهي ويا مولاي ! تلك أغنيات ربما لبقيت قصائد محدودة الذيوع لو لم يغنها الامبراطور . زمان الفرقة والتجريح بسيبوا ، بسيبوا عشان تشيلوا الريح ! ومن عجب أن التجاني سعيد شاعر تلك الأغنية كان في التاسعة عشر من عمره وقتها . كان ذلك زمان الشعراء المجيدين المجددين ، وتلك سنة كونية لا تتكرر في الكثير ، أن يلتقي ذلك النفر من الشعراء المختلفين والمفارقين للمألوف بالمغني المختلف والمفارق هو الآخر . ثم ماذا سوف يبقى في ذاكرة الناس ؟ تبقى الأغنيات وتبقى المواقف . إنّ جعفر نميري يأخذ مكانه الآن كدكتاتور بغيض بينما المغني السجين في عهده يبقى في ذاكرة الناس وتبقى أغنياته كعلامات في محبة الحبيبة والوطن . يحدث ذلك في آخر الأمر وإن اجتهد أعداء الحياة في تمجيد الدكتاتور وتلميعه . كان وردي راقصاً بطبعه ، إنما راقصاً كالفراشات التي غنى لها ، كالفراشات على نار الهوى واحترقنا ، إنما ذلك رقص بديع يشبه أغنياته ذاتها ، أدخل الآن إلى اليوتيوب وانظر إليه في حفل الكويت ، تلك أيام لن تعود ، أيام السودانيين البديعة في مهاجرهم وفي الوطن ، في حفل عدن في بدايات الثمانينات ، لقد كان العالم العربي ذاته غيره الآن ، كان اليمن الجنوبي اشتراكياً ووقتها كان محمد وردي يغني لاشتراكية سودانية من واقعنا ما من أكتر ، أنظر إليه يا هداك الله في حفلات أديس ، والأثيوبيات الجميلات يتراقصن كما ضوء الشموع . في أديس أبابا كنت كلما دخلت مقهى أو مطعماً كان محمد وردي يصدح بالغناء ، ليس في بعض الأماكن ، بل في كل الأماكن إذ تبثه إذاعات أديس . لم يكن محمد وردي مجرد مغنٍ عطّر سموات الغناء في السودان ومضى لحال سبيله ، كان مغنيا من طراز مختلف . كان محباً للبلاد على طريقته : يجلس على الأرض حين يغني للبلاد مهذب أمامك يكون الكلام . وكان مؤمناً بالبلاد وبأحلام البلاد : حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي ، وطن خيِّر ديمقراطي ... وأصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق ... ونلتقيك اليوم يا وطني لقاء الأوفياء ... والسجن ترباسه انخلع ، تحت انفجار الزلزلة ، والشعب بأسره اندلع ، قرّر ختام المهزلة ... ويا شعباً تسامى ، يا هذا الهُمَام ... والشعب حبيبي وشرياني ، أداني بطاقة شخصية ، وقد كان ! كان وردي صوت شعبنا في انتفاضته المجيدة منتصف الثمانينات كما كان صوت شعبنا في أكتوبر في منتصف الستينات كما كان صوت قلوبنا العاشقات في زمان الطهرانية الآفل وقت كانت الصبيات ينتظرن خطابات العاشقين : ما تخجلي ، يا السمحة قومي استعجلي ... ولو بإيدي كنت طوّعت الليالي ...وتوعدنا وتبخل بالصورة ... ويا أعز الناس حبايبك نحن زدنا قليل حنان : ذلك زمن الضراعات والشوق العجيب : أثقلت كفي الضراعات وما ... الخ من أغنيات الشجى . تلك أيام لن تعود ، أيامنا التي مضت ، ليس بالضرورة أنها كانت أجمل الأيام ، لست مع هذه النوستالجيا الحزينة ، إنما الأكيد أن محمد عثمان وردي جمّل أيامنا كما لم يفعل مغن غيره والأكيد أننا نحن الذين عشنا زمن محمد وردي سنظل مدينين لتلك الأغنيات ولذياك الحضور المهيب ، فالسلام على محمد عثمان في عربيته والسلام عليه في نوبيته الجميلة : آي كا جلا اكا مشكا ! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.