في صمت مهيب رحل إلى جوار ربه صديق أحمد البشير صاحب مكتبة الجماهير في الفاشر، لكن رصيده الزاخر من إشعاع المشاركة من أجل نشر المعرفة وتمكين الثقافة بين الاجيال سيبقىَ منارة تحكي عن عظمة إنسان. الذين عاصروه في ربوع مدينة الفاشر حاضرة دارفور يدركون قيمته الإنسانية التي ازهرّت أكاليلاً تناقلتها الايام نمواً مع صغار شبّو وشابوا، ويتذكّرون بفخر مساحاته الثقافية التي أضاءت مشاعلاً من الإدراك والعلوم لخمسة عقود وما برحت، ويتسامرون في كل سانحة عن مسابحه الفكرية التي ما تداعت رغم الخطوب وما استسلمت تحت قهر الندود، كانت مسابحاً دفئؤها يخطب سابحيه أن يتجلّدوا بصقيع قادم من الشمال القصي حيث منبت الفكر الإشتراكي الذي تبناه، وهو تجلّد صادف دارفور دافئة فما تواءمت ثوباً ولا تناغمت صوتاً، بيد أن انه رغم التوازي فالود هو الذي كان يسود. اتذكّر أيضاً كيف كان الجميع يتفيأون في منزله العامر ظلاله الإجتماعية التي ما صاغت من الترحيب إلا ما يطيب ومن عبارات الضيافة ما يعجز عن وصفه لسان كل خطيب. كان كل بيت في الفاشر بيته وكان بيته مِلك كل داخله. صديق أحمد البشير ومكتبة الجماهير صنوان لا ينفصمان ومتلازمان لا يفترقان، تواثقا على نكران الذات لخدمة المعرفه، صديق أحمد البشير الإنسان كان مشاعراً دافقة تتفاعل ونوايا صادقة تتواصل وخصال سمحة تتناثر ونفحات عاطرة تتهاطل، ومكتبة الجماهير لم تخذله وأن تمثّلت في جَمادٍ من جُدر، وعِماد وارفف ملئؤها ما صنع الوراق وخط الحِبر، لكنها تواثبت معه فوق الروابي وحطّت رِحالها في كل بيت شُعلة وصفحة من كتاب، وزرعت في كل زاوية في المدينة يراعاً من علوم شعراً كان او نثراً أو حِساب. لقد كانت مكتبة الجماهير مجلاباً دائم النبع لأمّهات الكتب ولم تكن يوماً ضنينة على شغف رائديها من نُهّال المعرفة من أهل الفاشر وقادميها للإستزادة من المعرفة بمثقال كتاب، فقد كانت واحة للإصدارات القصصية وقصيدة للدواوين الشعرية ومعملاً للمراجع العلمية ومتحفاً للمخطوطات التاريخية وغابة للإستكشافات الجغرافية وروضة للمجلات الشبيبية وداراً للوثائق العصرية وتنظيماً للمجلات السياسية وموسوعة للمجلدات المعرفية ونخلة للجرائد الثقافية وندوة للمساجلات الفكرية ومحراباً للإفقاهيات الدينية ومعلّقة للإبداعات البلاغية. صديق ومكتبة الجماهير كانا وهجاً مضيئاً تناسقا وألقيا شعاعاً لم يغب عن سماء الفاشر التي بادله أهلها وفاءاً بوفاء حين كان الجميع يرتاد مكتبته عند الرواح ذهاباً وعودة، لم يزل الشعاء طائفاً ولكن بوجل ووجوم في سماء فاشر اليوم حيث تناحر الثَقل مع أخيه وحيث مساغب الأيام وفراق الإبن لأمّه وابيه، وحيث تعددت مسارب الشرود وإرغاء الزبود وطحن الهبوب وحيث يسكن الرعب في كل خُبّ وركن بل في كعب كل خُفٍّ ومركوب. من ذا الذي لم يتناقل بين (مكتبة الجماهير) ومكتبة (قاضي مليط ). مسافة بحساب القياس المادي لا تتعدىَ ثلاثين متراً، لكنها مسافة ملئؤها آفاق من المعرفة مرصوفة بالكلمات، مفروشة ببساط منمّق من مآثر القول وعذبه، مساحات بلا حدود ولا آفاق ساريها لا يكاد يمضي حتى تنقله المعرفة بشغوفها وتؤثره الثقافة بنفوحها وتأسره العلوم بحبالها وتروضه الآداب بلجامها، وبينما تشدّه مناكفات التضاد الفكري بين صاحبي المكتبتين تتواضع به دوام الود بينهما واحترام أدب الخلاف عندهما، نفح مما افتقدناه في يومنا هذا. قبل عدة سنوات رحل عن دار الفناء الشيخ آدم عبدالله قاضي مليط صاحب مكتبة ( قاضي مليط). غادر في طريق الأولين والآخرين بكل وقاره وورعه ولم يورث أموالاً ولا كنوز ولكن أورث إشعاعاً من المعرفة والعلم والثقافة لأجيال وأجيال، رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته مع الشهداء والصديقين، واليوم نكتب بضع كلمات في رثاء صديق احمد البشير تتواضع مهما كانت بلاغتها عند مقامه كإنسان وتتصاغر ما فتئت مآثره تتراقىَ فوق بواسق الاشجار وفوق كل فِنانْ، فإن افتقدنا مكتبة الجماهير وإن غيّبَ الموتُ صديق أحمد البشير في تأكيد لاستحالة دوام الحال، وفي ترسيخ لقول الله سبحانه وتعالىَ لكل أجل كتاب، فإن ما اختزنته افئدتنا من إنسانيته وما تنسمته ذاكرتنا من جمائله وما ورثته الاجيال من معارف وثقافة من مكتبته ستبقىَ تتجدد بتوالي الايام. آلا رحم الله صديق احمد البشير وضاعف في فضائله من فضله وتجاوز عن مزالقه برحمته وأدخله فسيح جناته مع الشهداء والصديقين والهم أسرته وآله وصحبه ومحبيه جميل الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون. [email protected]