مقدمة: كان عبد الفتاح المغربي محاضراً أولاً للرياضيات في كلية غوردون (التي تطورت فيما بعد لكلية جامعية) عندما كتب هذه الرسالة المطولة في الأول من أكتوبر 1949م. عين عبد الفتاح في عام 1951م كعضو المعارضة الوحيد في الجمعية التشريعية التي كانت تبحث في أمر دستور البلاد، وعمل في هذا المنصب لمدة ثمانية عشر شهرا. في نهاية عام 1955م تم تعيينه عضواً في المجلس الاستشاري، ثم عضواً في مجلس السيادة عقب إعلان السودان في الأول من يناير1956م. نشرت هذه الرسالة في مجلة "الدراسات السودانية" التي صدرت في بريطانيا في مارس 1999م. في الجزء الأول من الرسالة كتب عبد الفتاح عن العلاقة بين السودان ومصر، وعن الاستعمار البريطاني للسودان والعلاقة التاريخية للسودان مع مصر. وفي هذا الجزء يعرض الكاتب لآراء جريئة عن موظفي الخدمة المدنية من السودانيين، وعن مصر وبريطانيا. قد يكون من المفيد أن يعلم القارئ أن الكاتب متزوج من بريطانية عاش معها سنين عددا في الجريف، حيث كتبت زوجته مذكرات بعنوان "أيامي في الجريف" تم نشرها في مجلة "الدراسات السودانية" قبل سنوات، وقمت بترجمتها ونشرها في "الأحداث" ومواقع اليكترونية أخري. ________________________________________________________________________ اتخذ البريطانيون من الحادث المؤسف الذي قتل فيه السير لي استاك في عام 1924م في أحد شوارع القاهرة ذريعة للطرد الفوري والشامل لكل ضباط وجنود الجيش المصري من السودان، وبرحيلهم فقدت مصر كل ما تبقى لها من نفوذ في البلاد. توقف مؤقتا كذلك مد حركة "وحدة وادي النيل، وتم إغلاق المدرسة الحربية في الخرطوم إلي أجل غير مسمى، وأدى الضباط السودانيون بالجيش المصري قسم الولاء لحاكم عام السودان البريطاني الجنسية. ورغم كل هذا، فلم يبلغ عداء البريطانيين لمصر إلى حد إنزال علمها من على سارية القصر الجمهوري، إذ أن ذلك كان سيكون متناقضا مع ما كانت تدعيه بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من أنها داعية "العدالة" في العالم وزعيمتها الأولى. لذا سمحت بريطانيا لمصر بأن يظل علمها يرفرف جنباً إلي جنب مع العلم البريطاني في كل المباني الحكومية في سائر أرجاء البلاد. بيد أن كل ما فرضته حكومة السودان على مصر بعد التمرد العسكري في عام 1924م من الطرد والمنع والحجر والتقييد، أتي بغير ما تشتهي بريطانيا، إذ أن تلك الإجراءات لم تفعل سوى إذكاء نار المشاعر الوطنية عند السودانيين، وتقوية رغبتهم في الاتحاد مع مصر. لم يكن ذلك وقفاً علي طبقة المتعلمين من السودانيين، بل شمل أيضا الصناع والمزارعين والتجار في كل أنحاء البلاد. تبلورت لدى السودانيين آراء سياسية محددة علي اختلاف مستويات تعليمهم. فلقد كان أكثرهم من الأميين، وقليل منهم متعلمين، بيد أن الجميع كان على قدر كبير من الوعي والحس السليم. بلغت نسبة الأمية وسطهم أكثر من 99%، وكان لديهم طبيب واحد لكل 70000 فرد. كانوا يكرهون أن يروا (استعمل المؤلف في الأصل تعبير "يحقدون على". المترجم) المسئولين البريطانيين وهم ينعمون بمرتبات وامتيازات ضخمة، وسلطة مطلقة، ومنازل فخيمة علي شاطئ النيل. تزايدت وتعالت بعد ذلك دعوات السودانيين للحكم الذاتي أو الوحدة مع مصر. كان قيام مؤتمر الخريجين العام هو القوة الدافعة وراء كل ذلك. لا جدال أن ذلك المؤتمر يحق له أن يفخر بأنه هو من أيقظ الشعور الوطني في السودان، وأحدث ثورة تعليمية بإنشاء عدد من المدارس الأهلية. أقامت حكومة الاستعمار- بعد خطوات مترددة وتحت ضغوط عديدة من السودانيين ومطالبات مستمرة لتقاسم السلطة- مجلساً استشارياً، وجمعية تشريعية ومجلساً تنفيذياً. دلت مناقشات السودانيين المتعلمين ووسائلهم السلمية وسلوكهم تجاه المستعمر علي أنهم كسبوا الكثير تحت الرعاية البريطانية. كان ما يطمحون إليه فعلاً هو الحصول علي حق الحكم الذاتي، بيد أن معرفتهم بتاريخ الإمبريالية البريطانية ألجأتهم إلي مصر ليكون السودان تحت التاج الملكي المصري بجيش واحد وسياسيات أجنبية متماثلة. كانت تلك فرصة ذهبية لبريطانيا لتثبت حسن نيتها وإخلاصها للسودانيين وذلك بالقيام بخطوات حقيقية لتدريبهم في إدارة شئون حكمهم الذاتي. بيد أن الحاكم العام البريطاني لم يشأ حسداً من عند نفسه أن يسلم سلطته الرفيعة ذات الهيبة والمكانة إلى المواطنين الذين كانوا – حتى الآن- أذلة تحت سلطته، فعمد إلي تقوية موقفه أكثر فأكثر بخلقه لوظائف اسمية وفخرية منحها لبعض السودانيين من خاملي الذكر الصاغرين له من الذين أدمنوا – وعلي وجوههم ابتسامة عريضة- الموافقة والتأمين علي كل ما يعن له، مع أنه يعلم تماماً أنهم عاطلون عن التأهيل والموهبة والكفاءة، ولم يؤتوا من العلم أو الوطنية شيئاً. تم تعيين بعض هؤلاء النكرات علي عجل مريب ورفعوا لمناصب إدارية عليا تهيئة لهم لتسنم وظائف أعلى في مستقبل قريب. لا يمكن وصف هؤلاء الذين اختارهم المستعمر سوى بالعقم (الفكري) والرجعية، فمعظمهم ليس له من التأهيل ما يجعلهم يتبوأون المناصب الرفيعة التي منحت لهم، ولا القدرة علي المبادرة ومسايرة تقدم الزمن والتطور الذي حدث لمواطنيهم. كان مبلغ همهم هو تسنم المناصب الرفيعة حتى يقوموا – صاغرين - بتنفيذ سياسية سادتهم البريطانيين، وفي مقابل ذلك يقوموا باستغلال مناصبهم لمنفعتهم المادية الشخصية البحتة. علي الرغم من أن الآنسة برهام قد ذكرت أنها علي معرفة وصلة بمثل هذا الصنف من كبار الموظفين السودانيين، فإننا نكاد نجزم بأنه، وبالنظر إلي قصر المدة التي قضتها الآنسة في السودان، فإن معرفتها بمثل أولئك النفر (غير الكريم) بل بكل السودانيين لا بد أنها معرفة سطحية عابرة. إن هنالك حداً للتكتم والسرية التي ينبغي للموظف الحكومي أن يلتزم بها. وقد تخدش كرامة هذا الموظف العام إن تم الكشف عن شخصيته عند ذكر بعض المعلومات والحقائق التي تبرع ذلك الموظف بتقديمها. لقد تصرفت الآنسة برهام بكثير من عدم اللياقة إذ كشفت فيما كتبت عن شخصيات الذين زودوها بالمعلومات، ولم تراعي أن المصالح العليا للبلاد مقدمة علي علاقات الصداقة الشخصية. ولن أزيد علي هذا بمزيد من التصريح، فهذا خارج عن سياق هذه الرسالة. بيد أن هنالك نقطة هامة لا ينبغي للآنسة برهام أو السلطات المحلية إغفالها، وهي أمر يؤكد على التجانس العنصري الذي يميز سكان وادي النيل. إن حوالي سبعين في المائة من الوزراء ووكلاء الوزارات (رغم ما بذل من جهد في سبيل اختيارهم من مختلف درجات السواد) تجري في عروقهم دماء مصرية. إن رئيس الجمعية، والوزير دون أعباء، قد أتيا من بلد ظل طوال التاريخ (حتى في زمن المهدية) يتبع لمصر. بل إن أقاربهم مازالوا يصوتون في انتخابات البرلمان المصري. وهنالك وكلاء وزارات الاقتصاد والتجارة والمواصلات والعدل والأشغال العامة والري كلهم أبناء أو أحفاد لمصريين خلصاء. زد علي هذا أن أبناء وزير الصحة تجري في عروقهم دماء مصرية لا تقل نسبتها عن خمسة وسبعين في المائة، وأن أخوة نائب رئيس الجمعية مصريو الجنسية ويقيمون بمصر بصورة دائمة. جرت في المجلس الاستشاري مداولات ومناقشات كثيرة حول دستور الجمعية، وكانت الآنسة برهام حاضرة وشاهدة علي تلك المناقشات. اقترح أحد من ذكرنا أعلاه قبول المقترح كما قدم دون زيادة أو نقصان، وكان من الممكن أن يمرر المقترح بالإجماع لولا تدخل رئيس المجلس البريطاني بنفسه مع واحد أو أثنين من السودانيين الذين وقفا ضد المقترح بشجاعة، وهزم المقترح بأغلبية ضئيلة. وحتى بعد المداولات وبعض التعديلات علي الدستور (التي أجازها المجلس الاستشاري بصورة عامة على أن تخضع لمزيد من النقاش والتعديل) فإنها قد قوبلت بمعارضة ومقاطعة من قبل غالبية الطبقة المستنيرة في البلاد، تساندنهم في ذلك طائفة الختمية التي تزعم أن أتباعها يمثلون غالبية سكان السودان. ولزم زعيم الختمية بحكمة معهودة الصمت حيال هذا الأمر، بينما ساندها حزب الأمة والصحف التي تتحدث بلسانه. وما أن انقضت شهور قليلة حتى بانت عيوب ونواقص الدستور كآلية لحكم البلاد، مما دعا المستعمر لإعادة النظر في أمر تعديله بصورة جذرية. ولن أقوم هنا بتعداد تلك العيوب والنواقص، بيد أني أنصح الآنسة برهام بالنظر في أرشيف مداولات مكتب العلاقات الخارجية السودانية. ويكفي هنا أن نذكر أن أغلبية أعضاء الجمعية لا يحسنون معرفة جغرافية بلادهم، بينما كان الواحد منهم ينال مرتبين منفصلين من أموال دافع الضرائب ، وهو بذلك يدين بالولاء لجهتين منفصلتين لا يجوز الجمع بينهما؛ فالجمعية التشريعية التي تنعقد فقط لشهور قليلة في كامل العام ليس بمقدورها أن تسن أي تشريعات، والوزراء ووكلاء وزارتهم من السودانيين يعينون من قبل رؤساء المصالح البريطانيين الذين بمقدورهم استبعاد العناصر الوطنية القوية، ومن وراء أولئك يقف الحاكم العام البريطاني الذي يملك كامل السلطات. كان الوزراء ووكلاء الوزارات السودانيون يلوذون بالصمت العميق، أو ينسلون خلسة من قاعة المجلس ويذهبون إلي الكافتيريا واحداً بعد آخر عندما تبدأ مناقشة الموضوعات الهامة مثل الاقتصاد أو الحريات الفردية أو رأس المال الأجنبي، ويبقى نائبا رئيس المجلس اللذان يفترض أن يمثلا جناحي المعارضة) بدون "جمهور مستمع" خلا قلة من الذين لا يكادون يفقهون قولا، وبالطبع تكون نتيجة المداولات مضمونة سلفاً. لكن دعنا نكون عمليين وندقق النظر في حالنا كسودانيين. إننا كسودانيين بكل الألوان والسحنات نعلم تمام العلم أن مصيرنا ومستقبلنا مرتبط تماماً بالإمبراطورية البريطانية وأنه ليس لمصر القوة اللازمة لتفرض حلاً عادلاً لقضية السودان، وأن مجلس الأمن ما هو إلا مجموعة من أفراد عصابة قامت بطرد مليوني من العرب غير المسلحين، وقادتهم إلي الردى والبؤس خارج ديارهم وأراضيهم التي ظلوا يفلحونها منذ ألفين من السنين. ويعلم السودانيون أن التحول إلي الشيوعية لا يتماشى مع مبادئ العقيدة الإسلامية، وأنه ليس بوسعهم أن يظلوا قاعدين دون فعل شئ، فذلك أمر مثير للملل كما أنه عديم الجدوى! إننا شعب فقير جاهل نفتقر إلى التسليح، ونعلم أن السيوف التي استخدمها آباؤنا في الماضي لن تجدي فتيلاً في عصر الذرة والسرعة التي تفوق سرعة الصوت. إن بلادنا كغيرها من البلاد الصغيرة واقعة تحت ضغوط هائلة لتتبع آثار أحدى القوى العظمى ذات الأيدلوجيات البشعة. بيد أن طريقنا واحد. نعلم أنه لا قبل لنا بطرد البريطانيين بالقوة، ولا نرغب في ذلك في الوقت الحالي. لو قدر للسودانيين أن يجتمعوا على قول واحد، وطالبوا بخروج البريطانيين من البلاد، لوضعوهم في وضع لا يحسدون عليه. بيد أن البريطانيين كانوا أحرص الناس علي أن لا يحدث ذلك أبداً. لقد كسبنا من حكم البريطانيين خيراً كثيراً، فنحن الآن ننعم بصحة وتعليم ورفاه وأمن وهدوء أكثر مما عرفه آباؤنا بما لا يقاس. نحن ننعم بعقول أنظف وبيوت أنظف، ومطالبتنا الآن بحريتنا هي مما يحسب للبريطانيين. لكن لابد من القول أن وتيرة تقدمنا في مسيرة التطور والتحضر التي يقودها البريطانيون لا تسير بالسرعة التي نطمح إليها، وإن ثمار التقدم التي جنيناها حتى الآن هي أقل مما نستطيع مضغه وبلعه. نقلا عن "الأحداث"