[email protected] أحال الأستاذ فتحي الضو شتاء واشنطون الي موسم من الدفء الجميل عندما أناخ راحلته وضرب خيمته علي منبر الجالية الثقافي، محاضرا عن السياسة والصحافة منقبا في أضابير التاريخ، باحثا في سجلات الحاضر وسابحا في معمعان الراهن والمحضور. في تحقيق مطول نشرته الصحف القاهرية مؤخرا وصف الأستاذ هيكل العلاقة بين الصحافة والسياسية كالعلاقة بين النار والفراشات و المركب والماء أي أن كل منهما يمنح الحياة للآخر.أو أنها مثل ملح الطعام ضروري ولكن زيادته تنفر الطاعم وتفسد المطعوم.. وقد أنقدح في ذهني أنها علاقة جدلية في صيرورة من التفاعل الدائم لا تفتأ تنتج ديناميكيتها الخاصة وخصائصها الذاتية.يحفظ التاريخ للصحافة الحرة أنها نجحت في كشف أكبر جريمة سياسية في تاريخ الولاياتالمتحدة الحديث، إذ تمكن الصحفي الشهير بوب ودورد في أماطة اللثام عن فضيحة ووتر قيت مما أضطر الرئيس نيكسون الي الأستقالة والأنسحاب نهائيا من الحياة السياسية.، وقد أستخدم نائبه فورد عندما آلت اليه سدة الرئاسة سلطاته الدستورية للعفو عن الرئيس المستقيل، وأغلق باب المحاكمة التي كانت تترقبها الصحافة للكشف عن المزيد من الأسرار والتوابل التي تثير العطس في سوق السياسة.وعندما عاد الرئيس المستقيل نيكسون الي مقر أقامته في كاليفورنيا أنهالت عليه الكثير من العروض لأجراء مقابلات صحفية مع كبريات القنوات و شبكات الأخبار في الولاياتالمتحدة التي كانت تتسابق لتشفي غليل التساؤلات التي كانت تعتمل في الشارع السياسي ..ولكن صحفي بريطاني كان مغمورا في أمريكا وأنطلق الي أستراليا ليصيب قدرا من النجاح في تقديم البرامج الترفيهية قرر أن يدخل المنافسة يدفعه طموح جامح للفوز بصفقة اللقاء لأستنطاق الرئيس نيكسون في المسكوت عنه.أجري الصحفي ديفيد فورست أتصالات مع أحد نجوم صناعة السينما في هوليوود من المقربين للرئيس نيكسون وقدم عرضا ماليا يسيل له اللعاب فاق ما قدمته القنوات وشبكات الأخبار الأمريكية.فما كان لهذا الوسيط بد سوي أقناع الرئيس نيكسون بجدوي هذا العرض وتفضيله علي العروض الأخري.تم أقناع الرئيس بأن أجراء اللقاء يعتبر سانحة ذهبية لأسترداد أعتباره الرئاسي وترميم صورته المشوهة والدفاع عن نفسه ضد الأتهامات المتناسلة.وأمعانا في تهدئة الهواجس وتجميل العرض ذكر الوسيط للرئيس نيكسون أن ديفيد فورست يعتبر مقدم برامج ترفيهية وليس له أي باع في التحقيقات السياسية ، لذا فأن اللقاء سيكون سهلا ميسورا.قدم الصحفي ديفيد فورست الي كاليفورنيا يرافقه منتج برنامجه الخاص وتم أكمال الصفقة بتحرير شيك بمبلغ 200 ألف دولار لحساب الرئيس الخاص ، وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك العهد.تم الأتفاق علي التفاصيل بأن تجري المقابلة علي أربعة حلقات علي أن يبدأ التسجيل بعد ثلاثة أشهر..عكف الصحفي فورست علي تكوين فريق من المختصين لبناء مخطط الحوار، وأستعان بخبير في السيرة الذاتية للرؤساء وآخر باحث في التحقيقات السياسية.وضع الفريق أستراتيجية للحوار لمناقشة قضايا العلاقات الخارجية خاصة فيتنام وكامبوديا، والقضايا الداخلية وبالطبع فضيحة ووترقيت.قبل أيام من بدء تسجيل المقابلة أتصل مكتب نيكسون لتوقيع عقد قانوني مع الصحفي فورست يحدد فيه بألا تتجاوز الأسئلة الخاصة بقضية ووترقيت 10% من زمن المقابلة.أحتجت الصحف والقنوات التلفزيونية الأمريكية علي ترتيب أول لقاء مع الرئيس المستقيل نيكسون مع صحفي بريطاني ، مشيرين الي أن الشعب الأمريكي يتطلع لمعرفة مزيد من الحقائق والمعلومات عن وترقيت ، وأتهمت مقدما الصحفي فورست بأنه سيكون مترفقا بالرئيس.فاجأ الصحفي فورست مضيفه الرئيس نيكسون في الحلقة الأولي بسؤال لم يتوقعه أحد وهو :لماذا لم تقم بأبادة الأشرطة حتي لا يتوفر دليل مادي علي الجريمة؟ قال نيكسون أن السؤال مخالف للعقد الذي تم توقيعه بين الطرفين ولكن طالما أن هذا السؤال يشغل المشاهدين فسأجيب عليه .وفند بلباقة سياسية ومنطق قانوني متماسك الألغام المحتشدة في السؤال،وأسهب في الأجابة بشرح مطول حسب الأستراتيجية التي وضعها له مستشاريه ليستهلك زمن اللقاء ويقلل من مساحة الأسئلة الحرجة.وكانت تدور خلف الكواليس في غرفة التحكم وغرف الأنتاج الأخري نقاشات ساخنة تقرظ من أداء الرئيس حتي أضطر المخرج لقطع التسجيل وأسداء النصح للصحفي فورست بألا يدع الرئيس يسهب في الاجابات حتي لا يضيع زمن اللقاء ، وبالطبع كثر التذمر وسط أعضاء فريق البرنامج الذين كان يتطلعون الي تحويل المقابلة الي محاكمة تلفزيونية بدلا عن المحاكمة الجنائية التي أفلت منها بالعفو الرئاسي.خرج الرئيس نيكسون من الحلقة الأولي منتصرا بشكل ساحق حتي قال أحد المصورين أنه لو ترشح مرة أخري لصوت له.وقد لعب الرئيس بذكاء في اللحظات الفاصلة قبل التصوير حيث داعب فورست مشيرا الي أن حذاءه تفيض منه الانوثة فأضطرب مع بدء التصوير.كان الرئيس نيكسون يحرز تقدما اثر تقدم في كل حلقة، حيث أعتمد أستراتيجية الأسهاب والأجابات المطولة ، فما كان من فورست إلا أن أرسل أحد أعضاء فريقه ليبحث في أرشيف المحكمة بواشنطون عن وثائق المحادثات الهاتفية للرئيس.فعاد بصيد ثمين، و عكف فورست علي مراجعة التسجيلات الصوتية والوثائق حتي عثر علي ضالته المنشودة، حيث أكدت التسجيلات أن الرئيس يعلم بحادثة السطو علي مكتب رئاسة الحزب الديمقراطي بمبني ووترقيت قبل اليوم الذي أعلنه رسميا وحفظ في أضابير التحقيقات الصحفية وسجلات المحكمة.كانت الحلقة الرابعة في التسجيل والأخيرة حاسمة ومصيرية بالنسبة لفريق البرنامج. حيث كاد الرئيس نيكسون ان يحقق نصرا حاسما يعيد فيه البريق لصورته المشروخة، وكان الصحفي ديفيد فورست يحلم أن يحاصر الرئيس ويستنطقه بأعترافات جديدة تهز المجتمع الأمريكي وتفتح له باب المجد الصحفي. كان كلاهما يحدق في الحد الفاصل بين بريق النجاح ولجة الفشل، كان نيكسون كالفارس النبيل الذي خسر المعركة ولابد أن ينتصر ليسترد كرامته المثخنة بالهزائم..أما فورست فكان كالفارس الجريح الذي ثلم سيفه وأصيب فرسه ولكنه يقاتل لا يلوي علي شئ ..ومع بداية الحلقة فاجأ فورست الرئيس الامريكي بنص التسجيل الذي يثبت أن الرئيس كذب علي الشعب الأمريكي لأنه كان يعلم بالحادثة قبل اليوم الذي أعلنه فيه، وطالبه بالأعتراف بأنه أستغل منصبه لتعطيل العدالة، والتستر علي الجريمة مما يوقعه تحت طائلة القانون.وفي لحظة عاطفية بدت أقرب الي الأنهيار قال نيكسون أن الأفعال و القرارات التي يتخذها الرئيس لا تعتبر جريمة وإن أخطأ فيها لأنها تراعي المصلحة العامة، وألح عليه فورست بأن يلقي بأعترافه في وجه الحقيقة حتي ترتد مبصرة. وفي لحظة دقيقة من عمر اللقاء شحب وجه نيكسون وتبلل بالعرق وبدت الهزيمة تلوح برياتها في عيونه وعلامات الانكسار في تجاعيد وجهه.فأقتحم أحد مستشاري الرئيس غرفة التسجيل مطالبا بالتوقف لأخذ قسط من الراحة.وفي غرفة الأستراحة نصح الرئيس نيكسون بأن أجابته علي السؤال ستتوقف عليها مستقبل حياته لأنه يقف في الحد الفاصل بين أن ينتصر لمصداقيته وبين أن يدمر حياته في لحظة عاطفية عابرة...فقال إن صدره لم يعد يحتمل هذا العبء الثقيل.وعندما أستؤنف التسجيل قال نيكسون أنه فعلا أرتكب أخطاء ، ولكنها أخطاء صادقة من قلبه وليست من عقله ، وتشف عن مقاصد نبيلة قصد بها المصلحة العامة ولا تنطوي علي نوايا سيئة علي الأطلاق.لذا فأنه لم ينحني ولن ينكسر. هنا فقط أعلنت غرفة التحكم أن الصحفي فورست قد أنتصر للعدالة وأن هذا اللقاء سيتخذ طريقه الي بحر التاريخ سربا، لأنه أنتزع من الرئيس أجابة عجزت عنها مؤسسات العدالة و أنفاذ القانون...خرج نيكسون لأول مرة من غرفة التسجيل وهو مطأطئ الرأس، ولم يستطع أن يبتسم في وجه الجمهور كما كان يفعل كل مرة..فقط أتجه ليداعب كلبا تحمله سيدة ويبتسم في وجهه الأبكم.سكبت الأنخاب في تلك الليلة،وحقق اللقاء نسبة مشاهدة عالية جدا في الولاياتالمتحدة والعالم..وعاد فورست الي لندن وأستراليا بطلا محمولا علي الأعناق..وحرص قبل أن يغادر كاليفورنيا أن يودع الرئيس نيكسون في منزله ولم ينس أن يهديه نسخة من حذاءه الأيطالي الذي وصفه الرئيس قبل بداية تسجيل الحلقة الأولي أنه يفيض بالأنوثة...وبقي هذا القاء في أضابير التاريخ بأنه الأهم في حياة نيكسون السياسية والأنجح في مسيرة فورست الصحفية ..ومرة أخري تنتصر العلاقة الجدلية بين الصحافة والسياسة..شكرا هوليوود التي أهدتنا هذه القصة..