رفع الإيقاف عن مديرة مكتب قناتي «العربية والحدث» لينا يعقوب    مكالمة من رئيس الوزراء.. الإعلامية لينا يعقوب تكشف تفاصيل مكالمة هاتفية    مدرب منتخب السودان: مواجهة العراق صعبة.. وسنقدم كل ما في وسعنا    المريخ يعود للتدريبات بقيادة رمضان عجب    حين تغيّرت معايير الكرة... وبقينا نحن في خانة الشفقة!    غموض حول مدينة بابنوسة..خبير عسكري يكشف المثير    إصابات وسط اللاعبين..بعثة منتخب في السودان تتعرّض لعملية نهب مسلّح    في البدء كانت الكلمة    حكاية    "يارحمن" تعيد الفنانة نانسي عجاج إلى القمة.. أغنية تهز مشاعر السودانيين    حرب مفروضة وهُدنة مرفوضة!    تنويه عاجل لهيئة مياه الخرطوم    توضيح روسي بشأن بناء قاعدة عسكرية في السودان    كامل إدريس يوجه برفع كفاءة قطاع التعدين    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان عثمان بشة يدعم صقور الجديان بأغنية جديدة    شاهد بالفيديو.. الفنانة ريماز ميرغني تغني في "حنة" زواجها "السمحة يا نوارة فريقنا" والجمهور يبارك: (ربنا يسعدك يا محترمة)    طريقة فعّالة لمحاربة الرغبة بتناول الحلويات والوجبات السريعة    باحث أميركي يكشف تفاصيل مرعبة عن قصة سقوط مدينة الفاشر    شاهد بالصورة والفيديو.. جمهور مواقع التواصل بالسودان يحتفي ويتغنى ببسالة ورجولة مدافع المنتخب "إرنق" في إحتكاك مع مهاجم المنتخب الجزائري بعدما قام بالتمثيل    شاهد.. سعد الكابلي ينشر صورة رومانسية مع زوجته "كادي" بعد حفل زواجهم الأسطوري ويتغزل في أم الدنيا: (مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ)    شاهد بالفيديو.. معلق مباراة السودان والجزائر: (علقت على مباريات كبيرة في كأس العالم وما شاهدته من الجمهور السوداني لم أشاهده طيلة حياتي)    شاهد بالصورة.. عرسان الموسم "سعد وكادي" يغادران مصر في طريقهما لأمريكا بعد أن أقاما حفل زواج أسطوري بالقاهرة    شاهد بالصورة والفيديو.. الخبراء بالأستوديو التحليلي لمباراة السودان والجزائر يجمعون على وجود ضربة جزاء صحيحة لصقور الجديان ويعبرون عن استغرابهم الشديد: (لماذا لم يرجع الحكم المصري للفار؟)    تصريحات ترامب المسيئة للصومال تثير غضبا واسعا في مقديشو    قرار عاجل لرئيس الوزراء السوداني    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    دراسات: انخفاض ضوء الشتاء يغيّر نمط النوم    كم مرة يجب أن تقيس ضغط دمك في المنزل؟    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    إدارة ترامب توقف رسميا إجراءات الهجرة والتجنيس من 19 دولة    إدارة التعدين بولاية كسلا تضبط (588) جرام و (8) حبات ذهب معدة للبيع خارج القنوات الرسمية    الخرطوم تعيد افتتاح أسواق البيع المخفض    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    شبان بريطانيا يلجأون للمهن الحرفية هربا من الذكاء الاصطناعي    الأمين العام للأمم المتحدة: صراع غزة الأكثر دموية للصحفيين منذ عقود    بشكلٍ كاملٍ..مياه الخرطوم تعلن إيقاف محطة سوبا    فيلم ملكة القطن السوداني يحصد جائزة الجمهور    إحباط تهريب كميات كبيرة من المخدرات والمواد الخطرة بنهر النيل    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    العطش يضرب القسم الشمالي، والمزارعون يتجهون للاعتصام    إخطار جديد للميليشيا ومهلة لأسبوع واحد..ماذا هناك؟    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    بالصورة.. مذيعة سودانية كانت تقيم في لبنان: (أعتقد والله اعلم إن أنا اكتر انسان اتسأل حشجع مين باعتبار اني جاسوسة مدسوسة على الاتنين) والجمهور يسخر: (هاردلك يا نانسي عجرم)    وصول 260 ألف جوال من الأسمدة لزراعة محاصيل العروة الشتوية بالجزيرة    شاهد بالفيديو.. التيكتوكر المثيرة للجدل سماح عبد الله تسخر من الناشطة رانيا الخضر والمذيعة تغريد الخواض: (أعمارهن فوق الخمسين وأطالبهن بالحشمة بعد هذا العمر)    شاهد بالصورة والفيديو.. بثوب فخم ورقصات مثيرة.. السلطانة تشعل حفل غنائي بالقاهرة على أنغام "منايا ليك ما وقف" والجمهور يتغزل: (كل ما نقول نتوب هدى عربي تغير التوب)    مصر.. تحذيرات بعد إعلان ترامب حول الإخوان المسلمين    شاهد.. بعبارة "كم شدة كشفت معادن أهلها" صورة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تزين شوارع العاصمة السودانية الخرطوم    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذكرى الثانية عشر لرحيل العلاّمة عبدالله الطيب .. بقلم: بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير*
نشر في سودانيل يوم 18 - 06 - 2015

تمر علينا في هذه الأيام المباركة لشهر رمضان الكريم الذكرى الثانية عشر(19/6/2003م) لرحيل شيخ العلماء وعميد الأدب العربي التوأم البروفيسور الممتاز ((Professor Emeritus عبد اللّه الطيب المجذوب. ولهذا العلاّمة أسفار جياد لا أزعم دراية كافية بها، فهي معروفة ومتدارسة بين أهل الإختصاص في اللغة والأدب والتاريخ والإجتماع (أبرزها المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الحماسة الصغرى، من نافذة القطار، الأحاجي السودانية، حقيبة الذكريات ،بين النير والنور،مع أبي الطيب،النثر الفني الحديث في السودان،سمير التلميذ،الطبيعة عند المتنبئ، العادات المتغيرة في السودان النهري(النيلي). والكتاب الأخير عبارة عن مجموعة مقالات متفرقة بالإنجليزية نشرت بمجلة "السودان في رسائل ومدونات-S.N.R" ونقلت إلى العربية تحت إشراف معهد عبدالله الطيب،ومسرحيات هي زواج السمر،الغرام المكنون،قيام الساعة،مشروع السدرة، نكبة البرامكة، و دواوين أشعار هي أغاني الأصيل، أصداء النيل وبانات رامة وسقط الزند الجديد ، فضلاً عن محاضرة الإسبوع في الإذاعة السودانية،سير وأخبار وشذرات من الثقافة في التلفزيون السوداني والتي إستمرت لسنوات عديدة والدروس الحسنية "المغرب" في حضرة جلالة الملك الحسن الثاني ملك المغرب"رحمه الله"). بيد أن ما أسطره هنا لا يعدو أن يكون حزمة خواطر وذكريات تلميذ تتداعى دونما ترتيب مسبق في المخيلة لعبقري العربية عبد اللّه الطيب، كاشفة عن إحدى الفترات الزاهية لكلية الآداب بجامعة الخرطوم التي كانت في نظره " هى الجامعة وما عداها "حرف ومهن ".
ذكريات الدراسة بالجامعة:
قُيّض لثلة من أبناء جيلي الإنتظام في الدراسة الجامعية طلاباً بجامعة الخرطوم في مطلع سبعينات القرن المنصرم. وكانت جامعة الخرطوم آنذاك تعج بالنجوم الزواهر من أهل الفكر والنقد والأدب(محمد إبراهيم الشوش,عون الشريف قاسم,يوسف فضل حسن,عثمان سيدأحمد, عزالدين الأمين,زكريا بشير إمام,الحبر يوسف نورالدائم, محمد الواثق,محمد عبدالحي,خالد المبارك ,علي المك,صلاح الدين المليك,محمد عبده غانم(اليمن),سلمى الخضراء الجيوسي(فلسطين),وشكري عياد(مصر) وغيرهم). وكان واسطة العقد بين هذه الكواكب النيّرة من الأساتيذ عبد اللّه الطيب المجذوب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.فقد كان علماً باذخاً، فريد عصره وعبقري زمانه وحبر لا يجارى في الإنسانيات (اللغة والأدب).وكان لدفعتنا شرف التتلمذ عليه كفاحاً والنهل من معين علمه الفياض. فكانت دفعتنا هى الأخيرة التي درّسها العالم الراحل بالسنة الأولى في مرحلة البكالريوس (1972-1973م) إبان عمادته الثالثة لكلية الآداب وبعد عودته من نيجريا (أنشاء هناك كلية بايرو بكانو) حيث إنصرف بعدها للعمل الإداري مديراً لجامعة الخرطوم (1974-1976م) ومن ثم مديراً مؤسساً لجامعة جوبا (1976-1977) قبل أن ينتقل أستاذاً للغة العربية وعلومها في جامعة سيدي محمد بن عبد اللّه في المملكة المغربية.
وتميز البروفيسور عبدالله الطيب بالتواضع الجم برغم مكانته العلمية المرموقة سواء على المستوى المحلي أوالأقليمي أوالعالمي.وكان مكتبه في كلية الآداب ومنزله ببري مفتوحين لإستقبال تلامذته وزملائة ومعارفه .وكنا نحن طلابه نجد متعة كبيرة في الإستماع لحديثه الآثر في العلم والأدب من خلال المحاضرات العامة أو في ردوده على تساؤلاتنا. فما ينثره من معارف يندر أن تجدها في متون الكتب .وهذا يؤكد مقولة إن "العلم ليس في المتون فحسب إنما هو بالأساس مركوز في صدور العلماء".ولايزال طلابه يذكرون وجوده معهم مستمعاً في حلقات النقاش بمقهى النشاط .وخريجو جامعة الخرطوم سواء من سبقونا أوأبناء جيلنا في حقبة السبعينات يذكرون -وبعضهم كانوا مشاركين في- المناظرات السياسية والفكرية بمقهى النشاط الشهير.وكانت هناك حوارات ساخنة بين طلاب الجامعة بإختلاف ألوانهم السياسية,وإتسمت هذه الحوارات بالتسامح والمرونة(Tolerance)والبعد عن العنف حتى قال البعض عنهم(الناقد العربي والأديب الكبير إحسان عباس والأستاذ السابق بجامعة الخرطوم في كتابه المعنون "غربة الراعي:سيرة ذاتية لمثقف فلسطيني) "إن الحوارات كانت تشتد بين طلاب جامعة الخرطوم بمقهى النشاط وترتفع درجتها.ولكنهم سرعان ما يفيئون إلى الهدوء ويغادرون المكان وليس بينهم سوء تفاهم.وتيقن أن هذه الظاهرة تمثل ألوان الطيف السوداني "وأن السودانيين حتى في أعلى المستويات كانوا ينقسمون إلى حكومة ومعارضة داخل البرلمان.ولكن بعد إنتهاء الجلسة الرسمية يتصافحون إخواناً متحابين".وكان يقول"إن الديمقراطية لتليق بهم ولهم".
أسلوب عبد اهل. الطيب في التدريس:
لا تزال الذاكرة تختزن نثار صورة نضرة لهذا العبقري الفرد إذ كنا نهرع نحو محاضرة الصباح في القاعة (102) والتي تشرفت اليوم بإسمه لنستمع لأحاديثه الشيقة عن الشعر الجاهلي. ولعل من اللافت للإنتباه وقتها أن جميع الطلاب كانوا يحرصون أيما حرص على الحضور فيندر أن يتغيب طالب بل إن العديد من طلاب الكليات الأخرى في الجامعة كانوا يتدافعون بالمناكب، يزاحموننا مقاعد المدرجات والكل في شوق لسماع البروف وهو يجوس بنا منتديات الأدب في العصر الجاهلي ( عكاظ، ذوالمجنة، ذو المجاز ودارة جلجل ) محدثاً حديث العارف المستبطن عن أشعار العرب وأيامهم شارحاً وناقداً ومقارناً، وكيف أن النقاد الجاهليين كانوا على رأى مؤداه أن " أشعر الناس أمرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب وزهير إذا رغب " . وكانت الإبتسامة لا تفارق محياه وهو يخطو جيئة وذهاباً في منبر القاعة ويستطرد بطريقته المعهودة مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والروايات القديمة والأشعار وآراء النقّاد القدامى أمثال قدامة بن جعفر في "نقد الشعر" ، إبن قتيبة في " الشعر والشعراء " وإبن رشيّق القيرواني في " العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ".
وقد كان عبدالله الطيب عالي الموهبة التي ترقى به إلى مرتبة العبقرية. وأورد هنا ما ذكره أستاذنا الجليل بروفيسور الحبر يوسف نورالدائم-وهو أحد تلاميذه النجباء بجامعة الخرطوم في كراسته المعنّونة"بروفيسور عبدالله الطيب 1992م":أن (مستر سكوت) وبعض أقاربه الحادبين كانوا يريدون أن يدخل مدرسة القضاء لما فيها من فرص أوسع للرزق وزينوا له الأمر.بيد أنهم عجبوا أن يستبدل الطيب الذي هو أدنى بالذي هو أعلى بزعمهم.ولكن المشيئة الإلهية أرادت له أن يسلك طريق التعليم ليصبح عالماً باذخاً لانظير له في دنيا الإنسانيات بعامة والآداب بوجه خاص.ولعل من أبرز تلاميذه بجامعة الخرطوم الأساتذه :عون الشريف قاسم،محمد إبراهيم الشوش،صلاح الدين المليك،محمد علي الريح هاشم،الحبر يوسف نوالدائم،محمد الواثق، جعفر ميرغني ،عبدالله محمد أحمد والصديق عمر الصديق.ومن الذين تخرجوا من مدرسته في تخصص العربية وآدابها وعملوا بالتدريس بالجامعات الخليجية:عبدالرحمن الخانجي، ،محمد أحمد سليمان(بليل)،عمر الأمين،إبراهيم القرشي،حسين الخزينة،إسماعيل خضر، عبدالمنعم المكي،سعد عبدالقادر العاقب وغيرهم.
تفرده في لغة الضاد:
وإستناداً إلى ما تقدم، لا غرو أن إعترف له أبرز علماء عصره برسوخه في علوم العربية وآدابها. وأختير عضواً بمجمع الخالدين في قاهرة المعز(1961م) ولم يتجاوز العقد الرابع حينها. ولعمري إن هذا لأبلغ شاهد على فرادته في علوم الضاد وآدابها. ويكفيه فخراً أن عميد الأدب العربي طه حسين شهد له بالتفرد والتميز على علماء عصره 'طرّاً في الشعر العربي حيث أورد في مؤلفه الموسوم " في أدبنا المعاصر " نصاً وحرفاً " لا أعرف معاصراً عربياً تعمق مثله في الشعر العربي وأوزانه وقوافيه ودقائقه وموسيقاه ...... ". ويؤكد العديد من النقاد أن كتابة " المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها " كان ولا يزال المنهل الرئيسى الذي يستقي منه الأدباء والنقاد معرفتهم بالشعر العربي وعروضه.وحاز عبدالله الطيب على جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب عن هذا الكتاب عام 1992م.
ريادته في تجديد الشعر العربي:
يرى نفر من النقاد أن قصيدة عبد اللّه الطيب المعنوّنة ب " ترنم " تمثل توليداً ظهر فيه هذا الشاعر رائداً في التجديد ونظم " الشعر المرسل ". ويذهب لفيف من أهل الأدب أنه إستبق رواد شعر التفعيلة في العالم العربي ( بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومحمود حسن إسماعيل ) منذ مطلع الأربعينات بإبتداعه ضروباً من النظم تعدت الأوزان المألوفة إلى أشياء إصطنعها إصطناعاً ثم بدأ له أن هذا كله عبث لا يفصح عن عواطف النفس وكوامنها وإنما النفس هي إبنة بيئتها – البيئة العربية الفصيحة – فعاد مرة أخرى إلى أصول الثقافة العربية والنظم على أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي. ولعل لسان حاله يطرحه – كما يقول الأديب الدبلوماسي عبد الهادي الصديق (رحمه الله) – عبر بيت شعره القائل:
مالك والجزالة في زمان / يحب به من القول الهجين
موسوعيته في الدراسات الإنسانية:
نبغ عبد اللّه الطيب في الدراسات الإجتماعية والتاريخ الإسلامي وله مقالات وبحوث معروفة ظهرت منذ مطلع الخمسينات والستينات الماضية في العديد من الدوريات العلمية والمجلات الثقافية منها " هنا أمدرمان 1953م، القافلة 1957م وصوت المرأة – 1960م ". كما كان له باع طويل في أدب الأطفال وفي الدراسات الإسلامية. ولعل أطروحته الجريئة عن هجرة أصحاب الرسول الكريم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) للحبشة خير دليل على أسلوبه المتفرد في كتابه التاريخ. فلقد أبان في بحثه الموسوم ب " هجرة الحبشة وما وراءها من نبأ " أن هجرة الصحابة رضوان الله عليهم إنما كانت إلى السودان ( بلاد الحبشة الأكسومية النيلية إلى البحر الأحمر ) وليست أثيوبيا الحالية التي حيزت إلى ملك الحبشة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي. وأن أول ساحل نزله الصحابة هو ساحل سواكن وأنها أول أرض دخلها الإسلام من ديار أفريقيا . والملفت للإنتباه أن عبد اللّه الطيب إستخدم أسلوب التكامل المنهجي ( تداخل المساقات )، فلم تقتصر مرجعياته على الوثائق التاريخية وحدها بل تعدتها إلى المنهج الجغرافي.
آثاره العلمية وكيفية التعامل معها:
لا ريب أن الحديث عن هذا العلاّمة ذو شجون، فقد كان بحراً ذاخراً بالجواهر واللآلي. فالرجل جمع بين المعرفة الموسوعية العامة والتميز في التخصص الدقيق (اللغة والأدب ). والرأى عندي أن هناك بحوثاً ودراسات عديدة تنتظر الباحثين لإستخراج الكنوز الثمينة من هذا الأرخبيل الضخم. فإذا كان هذا هو المبتغى، فيجب علينا (أدباء وكتاب) إحياء ذكرى هذا العالم الكبير في المستقبل المنظور بصورة بعيدة عن النمطية والتقليدية ( قراءات عامة لإشعاره، إجترار ذكريات وكتابة خواطر عن سيرته العلمية والثقافية) وذلك بتشجيع الدارسين على كتابة بحوث علمية محكمة وبمناهج علمية حديثة .( اللسانية والبنيوية وغيرها ) بهدف تسليط أضواء جديدة على الجوانب المختلفة لهذا الموروث الأدبي الثر مع تقديم جوائز عالمية للبحوث المتميزة بإسمه. وإقترح للجنة المنوط بها الإعداد لتكريمه في الذكرى الثانية عشر للرحيل أن تقنع أسرته الكريمة بأن يتحول منزله إلى متحف بإعتباره ثروة قومية ورمزاً من رموز الثقافة والأدب العربي قل أن يجود الزمان بمثله.ومتاحف الرموز تقليد معروف في العديد من الدول حيث يمثل هذا النوع من المتاحف ذاكرة الأمة وتاريخها الحديث والمعاصر،ففي الجارة الشقيقة مصر تحولت كثير من منازل رموزها إلى متاحف. مثل متحف بيت الأمة(سعد زغلول)ومتحف رامتان(طه حسين) ومتحف كرمه إبن هاني(أحمد شوقي).وأنوه بأهمية جمع ماكتبه عنه تلاميذه ومحبوه الكُثر في أوعية النشر المختلفة(كتب، دوريات ،صحف،مواقع أسفيرية) وإخراجها في مجلدات لتسلط مزيداً من الضوء على جوانب متعددة من هذه الشخصية النادرة. ولا مشاحة أن معهد عبد اللّه الطيب بجامعة الخرطوم والذي يترأسه الأديب النابه الدكتور الصديق عمر الصديق لهو خير جهة تضطلع بهذه المهمة الكبيرة. وفي تقديري أن لا تقتصر الدراسات عن هذا الرمزالمتفرد على آثاره العلمية والفكرية بل تتجاوزها لتشمل جوانب حياته الإجتماعية وعلاقته بأهله وتلاميذه وأصدقائه بهدف فتح كوة لينسرب منها مزيد من الضوء على عبقريته الفذة التي جمعت مواهب عديدة وتميزت إلى جانب الصرامة العلمية بالمُلحْ الذكية والطرائف الساخرة وهي عديدة ومتنوعة. وتحضرني هنا طُرفة كان يرويها الطلاب أيام دراستنا بجامعة الخرطوم. فذُكَر أن أحد الطلاب قد رسب في إمتحان اللغة الإنجليزية وجاء إلى عبد الله الطيب عميد الكلية وقتذاك – وقال له: إن مسز شو Mrs. Shaw قد رسبتني في الإمتحان وأن أدائي يكفل لي النجاح ، فقال له البروف بالإنجليزية: Are you sure? – هل أنت متأكد ، فأجابه الطالب: Dead sure – متأكد تماماً ؛ فرد عليه البروف ساخراً بالإنجليزية You are dead but not sure – أنت هامد (راسب) وليس متأكداً.وفي محاضرة لعبدالله الطيب ذات مرة بالقاعة(102) بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، خاطبه أحد الحضور قائلاً"أريد أن أسأل البروفيسور عن .......،" فقاطعه أحد الطلاب وكان شديد الإعجاب بالبروف قائلاً "ياأخي لاتقل بروفيسور......،فإنها كلمة أجنبية ولكن قل ياأستاذ......"، فرد علية بروفيسور عبدالله بالقول"لا بأس فالكلمتان أجنبيتان، لأن الأولى(بروفيسور)لاتينية والثانية(أستاذ) فارسية.ويُروى أن عبدالله الطيب ضحك ذات مرة على أحد محدثيه عندما قال: "أنا قادم من مكتب القبول"-بضم القاف .وقال له البروفيسور:أن القُبول جمع قُبل وهي عكس دُبر،فقل : "مكتب القبول-بفتح القاف" ولاتقل "مكتب القبول" بضمها.
مجمل القول، إن الراحل المقيم العلاّمة عبد اللّه الطيب كان المثل الأعلى الذي يرنو إليه الكثيرون في مضمار الفكر والثقافة. ولقد كان التتلمذ عليه والإرتشاف من ينابيع علمه الدافق سواء في حلقات الدرس أو من خلال مؤلفاته الجياد هو المنهل الذي إستقى منه العديدون وكان خير معين لهم في مدارج خطواتهم العملية. فقد جمع الرجل في ذاكرته معرفة كاملة ومتكاملة بالتراث السوداني ونظيره العربي الإسلامي، فضلاً عن المنجز الغربي. وإتسم أسلوبه بحيوية اللغة وجزالتها. وكتب بعربية قشيبة تتميز بالعذوبة والسلاسة بصورة لا يملك المرء فكاكاً سوء الإنجذاب اليها. ألا رحم الله تعالى العلاّمة عبد اللّه الطيب وأنزل عليه شآبيب رحمته الواسعة وجعل جنات الفردوس مثواه إنه سميع مجيب الدعوات.والله المستعان.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.