قرأت مقال الأستاذ كمال الجزولي، شبهات حول العلمانية، وهو نتاج إعتراض القراء على مقال له عن الدين والعلمانية بين السياسة والثقافة. بمجرد أن تفرغ من قرأة المقالين، تجد نفسك قد وقعت داخل الحلقة المفرغة التي قد وقع فيها العالم العربي والإسلامي منذ بداية شمس أول يوم لألفية الإمام الغزالي في هجومه على العقل، وإنتصاره على عقل أبن رشد! فعرفان الغزالي وبيانه وبرهانه، جعل عقل ابن رشد أن يتخذ من أرض الغربة وطنا له. وهذا ما جعل محمد أركون يفكر في سيسيولوجيا الفشل، والنجاح. أي لماذا تنجح بعض الأفكار في بعض المجتمعات، وتفشل في بعضه؟ لماذا نجحت أفكار ابن رشد في المجتمع الغربي، ولم يصادفها النجاح في مجتمعها الشرقي؟ صحيح قد وصفت فلسفة ابن رشد بأم الفكر الخليع في أوروبا في بداية الأمر، ولكن بعد إنتصار تلاميذ ابن رشد على تلاميذ توما الإكويني، فقد تسيد فكر ابن رشد وعقله، على قيادة الأمور في الفكر الأوروبي. ولكن في ذات الوقت، إختفي أثره كليا في الشرق ليسيطر عرفان الإمام الغزالي في العالم العربي، والإسلامي، الى اليوم في حركات الإحياء التي تجسد الخطاب الديني المنغلق. ونجحت في تجريف، وتحريف وظائف الدين، وإختفاء البعد العقلاني. وقد تسيد الخطاب الديني المنغلق على مهمة تجريف، وتحريف، وظائف الدين. وهي أن يحدد ملامح مجموعة بشرية، ويضمن لها طقوس العبادة، ويجعلها تؤمن وتحترم الآخر المختلف، و يجعلها ممسكة بناصية الإيمان الكامل والشامل بميثاق حقوق الأنسان. وهنا تظهر معانات العقل الإسلامي، مع قطيعتين. قطيعة مع تراثة الذي يختزن النزعة الإنسانية، وقطيعة مع الحداثة، ومناهج العصر الحديث. وهنا تتضح هالة الحلقة المفرغة التي قد تقع فيها بمجرد قرأءتك لمقالي الأستاذ كمال الجزولي وتفاعل القراء معه. فمقال كمال الجزولي يذكر برد الفعل الذي قام به أئمة المالكية ضد كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال.فقد كفر أئمة المالكية إبن رشد بسبب الكتاب، وبصقوا في وجهه، و وصفوه بالزنديق، ومنعوه من أداء صلاة الجمعة. وكانت تلك الإهانة أمام أبنه الذي إصطحبه معه لأداء صلاة الجمعة. ما أشبه الليلة بالبارحة. فإبن رشد في كتابه فصل المقال، حاول أن يأتي بالتوفيق مابين الحكمة، وهي الفلسفة، والشريعة لكي يناهض بها تلفيق الغزالي. وهنا مرة أخرى يأتي دور منهج محمد أركون الهائل في فكرة غربلة التراث الإسلاميفي نقده للعقل الإسلامي. فمحاولة محمد أركون في الإسلاميات التطبيقية،تقدم ملمح مهم للأنثروبولوجيا التطبيقية، وكذلك لأزمة الفكر الأصولي، وإستحالة التأصيل. كان منهجمحمد أركون الهائل و هو نتاج للحداثة الأوروبية، قد جعله يستطيع أن يخوض في حقل الإلغام للخطاب الديني المنغلق، ويبين قطيعة الفكر الإسلامي مع تراثة ذو النزعة الإنسانية، كما في أفكار ابي حيان التوحيدي، وإبن مسكويه. فالحلقة المفرغة التي قد وقع فيها كمال الجزولي وقراءهه، هي غياب المنهج الكامل كمنهج محمد أركون، الذي يستطيع أن يتخلص من القراءة التقديسية، والتبجيلية، والإيمانية القطعية للتراث. وكذلك،إن حقل البحث لمحمد أركون، وبحثه عن النزعة الإنسانية للتراث الإسلامي، تقع في المرفوض من فلسفة الأدب الإسلامي. لذلك نجد إعتراضات القراء، ورفضهم للمصطلح، وإعتقادهم بأنه غير ملائم لإضاة الصراع في بلداننا، هي فكرة أمها الشرعية ألفية الإمام الغزالي، وأفكاره التي تحارب العقل. ولكن لعله من حسن الحظ، يمكنك الان رؤية تقهقر ألفية الغزالي ومشاهدة أشعتها الآفلة، رغم أن الخطاب الديني المنغلق، ما زال مسيطرا على المشهد. ومازالت علامات سيطرة الخطاب الديني المنغلق تظهر في عبارأت قراء كمال الجزولي التي لا تمل التكرار في أن المصطلح غير ملائم، وغير مناسب لإضاءة جوانب الصراع في بلداننا! وهنا يكون الأسى، والأسف، بسبب غياب المنهج الذي يجعل المصطلح غير مناسب لإضاءة الصراع! ولكن ماذا الذي يمكن عمله مع سيسيولوجيا الفشل، والنجاح؟ أي نجاح بعض الأفكار في بعض المجتمعات، وفشلها في البعض الآخر، كما يقترح محمد أركون في مسألة نجاح أفكار ابن رشد في الغرب، وفشلها في موطنه الشرق؟ فقبل ألف عام، كان المسلمون يرفضون ترجمة الفلسفة بحكم أنها من العلوم الدخيلة. واليوم المصطلح غير ملائم لإضاءة الصراع عندنا في مقال كمال الجزولي! فما أشبة اليوم بالبارحة! طيب، ما المشكلة؟ المسيحية كلها دخيلة على الغرب، وقد إستطاعت روما ترويم المسيحية، وفشلت المسيحية القادمة من الشرق، في تمسيح روما! إن الفلاسفة الأوربيين قد وفقوا في تجاوز الكنيسة، وأستطاعوا تقديم جوهر الدين في أفكارهم ذات النزعة الإنسانية. وبالتالي، فقد أصبح الدين مقبولا في حدود العقل كما في أفكار وفلسفة إيمانويل كانت. فالنزعة الإنسانية، ومصارعة الكنيسة، قد بدأها رجال الدين من أمثال نكولا دي كوسا عام 1401، بفكرة قد قلبت محور الكون من محور الأعظم اللا متناهي، الي فكرة الإنسان كمركز. فقد سبقت، كما نرى، إفكار نيكولا دي كوسا، عصر الإصلاح الديني. وحتى أدم إسمث كان فيلسوف أخلاق! فالأخلاق، هي التي تجعل الإنسان يذهب بإتجاه الدين، وليس العكس. لذلك، أستطاع أدم إسمث في تأسيسه لعلم الإقتصاد، أن يفك الإرتباط مابين الإقتصاد، والفلسفة. وكذلك يعلن فك الإرتباط ما بين الإقتصاد، والدين.و بذلك يصبح الدين عند فلاسفة أوروبا مقبولا في حدود العقل. فأدم إسمث، رغم أنه مصنف من ضمن آباء الإستعمار الأوروبي لبقية الشعوب الأخرى، إلا أن فكره لا يدعو الى الإستعمار! فالإستعمار قد جاء من ممارسة أوروبا لخيانة التنوير. ففي نظرية المشاعر الأخلاقية، يتحدث أدم إسمث عن الإنسان بشكل عام، كما تحدث إيمانويل كانت عن الضمير للإنسان، أو عن الناس كافة. وهذه خطوات متقدمة، مقارنة مع فكر الكنيسة الذي كان يناقش أيام إكتشاف أمريكا في هل يجوز التعامل مع الهنود كأنفس؟ ومن هنا تأتي أهمية أن يكون الدين مقبولا في حدود العقل. ولكن، يبدو أننا لم نصل بعد الى مرحلة سحر العالم الذي قد زال، عند كل من ماكس فيبر، ومارسيل غوشيه. فمارسيل غوشية يتحدث اليوم عن الفاتيكان 3! أي أن هناك مراجعات جمة قد قامت بها الكنيسة، أدت الى الفاتيكان 2. وقد تراجعت الكنيسة عن كثير من مفاهيمها البالية، ومنها، مثلا، أن لا نجاة لمن هو خارج الكاثولوكية. وفي الفلسفة، يتحدث لوك فيري عن الإنسانية الثانية. و لعله من سخرية القدر، في ظل فلسفة الإنسانية الثانية، وفكرة سحر العالم الذي قد زال، يظل عندنا المعترضون على ان فكرة العلمانية لا تتناسب مع قضايانا، لأنها نشأت في مجتمع ذي تاريخ مختلف! فبذلك هم يمارسون الجهل المقدس، والجهل المؤسس، كما تحدث عنه محمد أركون، بعد أن إستلف فكرة الجهل المقدس من أوليفيه روا. فالعقل الأوروبي كان كفيلا أن يغربل تراثه المسيحي! وكما يقول مارسيل غوشيه، فقد كانت المسيحية دين الخروج من الدين. فمتي ما تمت غربلة التراث، عبر منهج هائل، كمنهج محمد أركون، سينتصر الدين المقبول في حدود العقل. أي دين الخروج من دين تجار الدين، أصحاب الخطاب الديني المنغلق. فالغرب يفخر بأنه وريث العقل الإغريقي، والروماني. ويفتخر ماكس فيبر بأن البروتستانتية، قد أصبحت نواة الفكر الليبرالي. وجاء علم الفلك من الهند أشبه بالسحر، والشعوذة. ولكن عبر العقل الأوروربي، قد أصبح علما. وهنا في الأسى والأسف! فمن ردود قراء مقال كمال الجزولي، ورفضهم للمفهوم، تتضح فكرة صراع الكليات، التي تحدث عنها إيمانويل كانت. حيث كانت كلية الفلسفة خادمة لللاهوت. وبالتالي, فقد أصبح الإنسان في خدمة الدين. ولكن حينما طالب إيمانويل كانت بأن لا تكون الفلسفة خادمة لللاهوت، فقد أصبح الدين في خدمة الإنسان، وليس العكس. فالرافضون للمفهوم في مقال كمال الجزولي يريدون أن يستمر صراع الكليات، وتظل الفلسفة خادمة لللاهوت، ويظل الإنسان خادما للدين وليس العكس! الرافضون لمفهوم مقال لمال الجزولي، يقفون دعما لبعض لأراء المستشرقين في حصرهم للآداب الفلسفية للإسلام داخل إطار النظرة الإحتقارية للتراث، وإصرارهم على فكرة خلو الآداب الإسلامية من النزعة الإنسانية. وهذا ما يحاول محمد أركون بمنهجه الهائل نفيه بتأكيد وجود النزعة الإنسانية في التراث الإسلامي. فكر ابن رشد وإنتصار تلاميذه على تلاميذ القديس توما الإكويني كان له أثرا كبيرا في زعزعة أركان الكنيسة. حتى أن الكنيسة سمت فلسفة ابن رشد، بأم الفكر الخليع. فهل كان ابن رشد مسيحيا؟ فكما زعزع عقل ابن رشد أركان الكنيسة في أوروبا، نعتقد أن المنهج الهائل الذي يستخدمه محمد أركون، وهو يجسد ثمرة أفكار الحداثة، و ما بعد الحداثة التي تفتخر بها أوروبا، كفيل بزعزعة أركان الخطاب الديني المنغلق، الذي يجسد عرفان، وبيان، وبرهان الغزالي في ألفيته الآفلة. ويعلن عودة، وإنتصار أفكار ابن رشد، بعد أن إتخذت من أرض الغربة وطنا لما يقارب الألف عام. وكما يقال، لا يمكن لثورة أن تنتصر، قبل أن يسبقها إنفجار معرفي! فالثورة الفرنسية سبقها إنفجار معرفي، هائل، دفع ثمنه فيلسوف الثورة الفرنسية فولتير. وإضطر أن يلجاء الى بريطانيا. ولكن حينما عاد، كان يسمع صوت الثورة الفتية وهي قادمة من على البعد. فالأسى والأسف أن قراء مقال كمال الجزولي، و رفضهم للمصطلح، يوضح أن الإنفجار المعرفي الذي يسبق الثورة لم يحدث بعد. وإن قراء مقال كمال الجزولي، يرفضون فكرة وجود النزعة الأنسانية في الأدب الإسلامي! وكأننا في أيام ترجمة الفلسفة، ورفض البعض لها! فسموها بالعلوم الدخيلة، تماما كما يصف قراء كمال الجزولي للمصطلح، بأنه غير مناسب لإضاءة الصراع في بلداننا. فما أشبه الليلة بالبارحة! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.