الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    عيساوي: حركة الأفعى    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"غُيوْمٌ": إبْداعٌ مُختطَفٌ: بيْنَ التجاني يوسف بشيْر وابراهيم ناجي .. بقلم: جَمَال مُحَمّد إبراهيْم
نشر في سودانيل يوم 24 - 04 - 2017

وقفتُ على قصيدة "غيوْم" للشاعر المصريّ الراحل الدكتور ابراهيم ناجي، وقد وردتْ ضمن قصائده في مجموعة أعماله الكاملة المنشورة في مواقع الإنترنت1. لا أنفي أن هواجساً أوقفتني عند هذه القصيدة، كونها الأكثر شبهاً بأسلوب الشاعر السوداني الراحل التجاني يوسف بشير ، والأقرب إلى نظمه من ناحيتي المعنى والمبنى.
سأسعى في السطور التالية إلى تبيان هذا التشابه، وبقليل توغّلٍ في الذي شاعَ في أكثر من مكان، وأكثر من مصدر، أن ثمّة قصائد قد اختفت من مخطوطة ديوان "إشراقة" للشاعر السودانيّ التجاني يوسف بشير. يرجّح أنّ ذلك قد وقع حينَ سافر بالمخطوطة الأديب الإعلامي الراحل المبارك إبراهيم إلى القاهرة، لبحث إمكانية طباعة ديوان الشاعر التجاني هناك. معروف أنّ للرّاحل المبارك إبراهيم، وهو من أبكار المهتمين بالثقافة السودانية، علاقة صداقة وثيقة مع الشاعر التجاني يوسف بشير. أورد الصحفيّ السوداني يحي محمد عبدالقادر2، أن المبارك ابراهيم، هو من نصح الشاعر التجاني بالعلاج في مستشفى الإرسالية بأم درمان، (مستشفى التجاني الماحي للعلاج النفسي الحالي – 2017). طاف الديوان الذي أخذه المبارك إبراهيم معه إلى القاهرة، على عددٍ من أدباء مصر، وأكثر من استبقاه عنده زمناً طويلاً، من بين الشعراء المصريين، الشاعر ابراهيم ناجي. .
حينَ نظرتُ في ديوان الشاعر المصري الدكتور ابراهيم ناجي- في صفحة أعماله الكاملة المبذولة في مواقع الإنترنت- كنتُ أحسّ أني قد أجد شيئاً يشابه بعض ما نظم التجاني في ديوانه "إشراقة". لقد كانت الشائعة معروفة عند أهل أم درمان، فلم أتحرّج وأنا أقتحم هدأة ابراهيم ناجي ، لأستقصي إنْ كان ثمّة أثر لروحِ التجاني الشعرية، فيما نظم ناجي من شعر. دعنا لا نستبق النتيجة ، إذ يحتاج إثباتها إلى بحث أشمل وأعمق. لكن لننظر في القصيدة التي وقفتُ عندها طويلاً، ولم يخذلني حدسي، أنّ نفَس التجاني وزفرات صدره العليل، تكاد تطفر من بين أبياتها، وهي قصيدة "غيوم" للشاعر ابراهيم ناجي3.
تحليل قصيدة "غيُوْم" لإبراهيم ناجي:
أمَلٌ ضائعٌ ولُبٌّ مُشرّد
بين حبٍّ طغَى وجُرحٍ تمرّد
وضلال مشَتْ إليهِ الليالي
هاتِكات قناعهُ فتجرَّد
وبدا شاحباً كيومٍ قتيلٍ
لم يكَد يلثم الصباحَ المورّد
هذه صورة رسمها الشاعر وهو في حالٍ من اليأس وضياع الأمل ، فيما عقله جانح نحو ضلال مُطبق، سعى لحجبه دون أن يخرج للعلن، ولكن الليالي هتكتْ سرّه فشاع. ليستْ هذه الصورة إلا تكراراً لشكوى الشاعر ممّا حاق به، فما رحم نفسه ولا رحمه الآخرون، من "ضلالٍ مشتْ إليهِ الليالي". لنمضِ مع الشاعر وهو يواصل شكواه :
غفرَ الله وهمَها من ليا لٍ
صوّرتْ ليْ الربيع والرّوضُ أجرَد
قاسمتني الورقاءُ أحزانَ قلبي
وشجَاه وَغرّدت حينَ غرّد
ثم ولّتْ والقلبُ كالوترِ الدامي
يتيم الدموعِ واللحن مُفرد
ما بقائي أرى اطّراد فنائي
وانتهائي في صورةٍ تتجدّد
ورثائي وما يفيد رثائي
لأمانٍ شقية تتبدّد
عبثاً أجمع الذي ضاع مِنها
والمنايا مِنّي ومنها بمِرصَد
وبقائي أبكي على أملٍ بالٍ
وأحنو على جريحٍ مُوَسّد
الشقاء يطلّ مِن كلّ حَرفٍ تشكّلت منه أبيات هذه القصيدة . أماني الشاعر الشقية إلى زوال، والمنايا تتربّص به، وكأنّ الأبيات تحدّث عن حال الوَهن الذي اعترى الشاعر، إلا أن يكون عناؤه وشقاؤه، بسببٍ من مرضٍ عضال يتهدّد حياته. تلك حال الشاعر التجاني ، إذ هصرَتْ عِلة ذاتِ الرئة صدره، فكان هلاكه أقرب إليه من اتصاله بحياةٍ لا يظفر فيها بأمل، ولا يلوح في أنحائها إلا الشقاء.
هل يتصوّر من يقرأ هذه الأبيات، أنها صدرت من قلم شاعرٍ هو أصلاً طبيب يداوي العلل . . ؟ ولنسأل أيضاً أيّ أملٍ يضيع من شاعرٍ امتهن مهنةً، وفرتْ له بسطة في العيش في القاهرة، ورغداً في الحياة ، مثل الدكتور إبراهيم ناجي. . ؟
تجيء الأبيات التالية في قصيدة "غيوم"، وهي تمضي على ذات النسق:
واحتيالي على الكرَى وبجفني
قتدٌ ولِي مِن الشوكِ مَرقد
وشُكاتي إلى الدّجَى وَهوَ مِثلي
ضائعٌ صبحهُ ضليلٌ مُسهّد
وشخوصي إلى السماءِ بطرفي
وندائي بها إلى كُلّ فرقد
فجعتني الأيام فيه فلم يَبقَ
على الأرض ما يسُرّ ويُحمَد
ذهبتْ بالجميل والرائع الفخمِ
وطاحتْ بكلِّ قُدسٍ مُمجّد
مالَ ركنٌ مِن السّماءِ وأمسَى
هلهل النسجَ كلّ صرحٍ مُمرّد
هنا الشاعر يحدّث عن فجيعته، وضياع الآمال على الأرض. هو شؤم حاقَ بالشاعر فبدّد أحلامه أمام عينيه، فيئس ممّا أحزنه، وما رأى فيه ما يسرّ أو ما يحمد. الذي أيأسه على الأرض يهون أمام يأسه الداخلي الأعمق. يأسه ممّا كان يحسبه قدسياً مُمجّداً، هو مأساته الكبرى. هاهيَ السماء تميل عنه وتزورّ وتضعضِع شيئاً من إيمانه. لا يقول صراحة، بل يُحدّث الشاعر عن ركن السماء الذي مال. ذلك نَفَسُ شاعرٍ يتململ في إيمانه ، ويتأرجح بين شكٍّ ويقين. عُرفَ عن الشاعر التجاني يوسف بشير، أنه واجه في المعهد العلمي الدينيّ الذى التحق به طالباً، تهماً حول إيمانه، فيما لم يعرف عن الشاعر ابراهيم ناجي اهتزازٌ في إيمانه، أو اضطراب كاضطراب التجاني وحيرته. أنظر في الأبيات التالية من قصيدة "غيوم" من ديوان ناجي :
ربّ عفواً لحيرتي وارتيابي
وسؤالٍ في جانِحي يترَدّد
هوَ هَمسُ الشقاءِ ما هوَ شكّ
لا ولا ثورة فعدلكَ أخلَد
أينَ يا ربّ أينَ من قبل حيني
ألتقي مرّة بحِمليْ الأوحد
بخليلٍ ما ردّه كيدُ نمّامٍ
وَلم يثنِهِ وُشاةٌ وحُسّد
وَحبيبٌ إذا تدفق إحساسي
جَزاني بزاخرٍ ليسَ ينفَد
وعناقٍ أحسّه في ضلوعي
دافقاً في الدماء كاليمِّ أربَد
تنتهي قصيدة "غيوم" في ديوان إبراهيم ناجي هنا في هذا البيت، والإشارة للشكِّ جلية، وللألم في الضلوعِ بيّنة لمَن يعاني من ذات الرئة.
شكوك التجاني وحيرته فيما نظم:
يقول الشاعر التجاني فيما نظم من شعر ، صدر عن حيرة وشكوك. في قصيدة "حيرة" في ديوانه3، قال الشاعر:
بينَ اثنتين أسرّ أم ابكي
قبس اليقينِ وجذوة الشكِّ
في النفس حاجات وإن خفيَتْ
فلعلها ضربٌ مِن النوْكِ
في قصيدته الأشهر عن معهده الذي درس فيه، وعانى من اتهام طال إيمانه، فأخذه بعض أقرانه بشكوكه ، قال التجاني في قصيده الشهير:
هو معهدي ولئن حفظتُ صنيعه
فأنا ابنَ سرحتهِ الذي غَنَّى بٍه
فأعيذ ناشئة التقىَ أن يَرجفوا
بفتىً يمِتّ إليهِ في أحسابِه
ما زلتُ أبكِر في الشبابِ وأغتدي
وأروح بينَ بَخٍ ويا مَرحَىَ بِه
حتى رميْت ولستُ أوّل كوكبٍ
نفَسَ الزمانُ عليهِ فضلَ شهابِه
قالوا وَأرجَفت النفوسُ وَأوجَفت
هلعاً وهاجَ وماجَ قسوَر غابِه
كفرَابن يوسف مِن شقيّ واعتدَى
وَبغىَ.. ولستُ بعابيءٍ أو آبِه
وفي قصيدته "الصوفيّ المعذّب"، قال الشاعر التجاني 4:
يا نعيماً مُشرف الصفحةِ يسّاقط دوْني
نَضرتْ في قربهِ نفسي وزايلتُ غضوني
فمشَتْ غائلةُ "الشكّ" إلى فجر يقيني
قضتْ اللذة فاسترجعها لمحُ ظنوني
تمور نفس التجاني بشكوكه وقد بثها مصارحاً بها في بعض نظمه، كالذي أوردته أعلاه. وإنْ نظرتَ في قصيدة "غيوم" لابراهيم ناجي، فلن تخطيء عينك أنّ ما ورد من شكٍّ واهتزاز يقينٍ وشقاءٍ في قصيدة "غيوم"، هو الأقرب إلى نظم التجاني، منه إلى نظم ناجي. ما عُرفَ عن ناجي كما سبق أن نوّهنا، اهتزاز في إيمانه، أو عِلة سببتْ له شقاءاً ومعاناة . تلك كانت حال التجاني في جلّ قصائد ديوانه "إشراقة".
التجاني وَبَحر "الخفيف":
في إطلالة سريعةٍ على نظم التجاني يوسف بشير، سنرى البناء الشعري الذي يميل إليه في بعض قصائد ديوانه، يلتزم الأوزان الخفيفة، كما لاحظ عبد المجيد عابدين 5 وعبد الله سامي 6، ولقد رأيتُ بحر "الخفيف"، كأنهُ هو بحره الأثير :
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
يا خفيفا خفّت به الحركاتُ
لكأنّ التجاني راقَ له هذا البحر، فهو بحرٌ له نَفَسٌ قصيرٌ، يناسب زفرات صدره العليل المتسارعة، ويوافق إيقاعه وقع الشكاةِ ومرارةِ الحزن. ولو نظرت في قصيدة التجاني التي عنوانها "مساجد وكنائس" 7 ، ستجدها على بحر الخفيف، وبنفس قافية قصيدة "غيوم" لإبراهيم ناجي، وبذات الرويّ والإيقاع. تقول أبياتها السبع "مساجد وكنائس":
درج الحسنَ في مواكب عيسَى
مدرجُ الحبّ في مساجِد أحمَد
وَنمَتْ مَريمُ الجمَالَ وديعاً
مُشرقاً كالصباحِ أحوَرَ أغيَد
نسلتْ موجهُ إلى الدَّيرِ
في حين مشى فرقدٌ إثر فرقد
آه لو تعلم المساجد كمْ ذا
أجهدتْ في الصبابة أمْرد
آه لو تعلم المساجد كمْ ذا
خفقتْ بينها جوانحُ أدرَد
ولقد تعلم الكنائس كَمْ أنفٍ
مُذلّ بها وَخَدّ مُوَرّد
ولقد تعلم الكنائس كم جَفن
مُنضّى وَكَمْ جمَالٌ مُنضّد
ولننظر في قصيدة ثالثة للشاعر التجاني عنوانها "ربّ ما أعظم الجمال وأمجد" 8 ، وهي من تسعة عشر بيت ، ولتبيان التشابه أوردها كاملة:
أيّها الناعم الغريْر أحقّ
ما بعينيكَ مِن تقى وَتعبّد
أنتَ تطري الجمال في كلّ عينٍ
نعمتْ بالجمالِ في كلّ مَرقَد
تصف اللوعة الحزينة كفّاك
لقلبي وتستفيق فتجمَد
طاف بالرّوح من غنائك شجوٌ
نفضَ الرّوح في الفضاءِ وغرّد
فاضَ مِن مِزهَري إليكَ ولكن
أنتَ فجّرته فأرغّى وأزبَد
أنتَ رجعٌ مِن الغناءِ مُمِضّ
بالهوَى والحنان يا ابن (مُحمّد)
مُزهر رنّ في مسامِع داؤود
وأوفَى على ملاحِن مَعبَد
لمِستْ قُدسَ ما توقّع نفسي
واستفاق الهوَى إليه وأخلد
وَمشى فوقه يعجّ ويستأني
وَيهْدا وَيستلينَ وَيحتَد
وبنفسي لمستُ روحك واسترْ
حَمْتُ عينيكَ للفؤادِ المشرّد
وبقلبي نَظرتُ إشعاعَ مَا
يبرقَ من رقةٍ عليكَ وسؤدَد
أنت تطري الجمال فيكَ وتُغري
صبَوات النفوس أن تتوقّد
أنت تطري وتستفز بلحنٍ
غير ذي رعشةٍ وغير مُصرّد
غَنِ يسجد لكَ الفؤاد ويعنو
صلفٌ ثائر الحفيظة أصيَد
وابعث اللحن في شكاة ولهفٍ
وامشِ في لوعة بهِ وَتنهّد
بعضُ هذا الجمال يظهر بعضاً
ربِّ ما أعظم الجمال وأمجد !
ربِّ ما أعظم الجمال وأحلى
موقفاً يسحق النفوس وَمَشهد!
كمْ حكى لوعتي الكمان وَكم ذا
قمتُ أمشي على النعيمِ المقصّد
رقصتْ في القضاء نفسي حتى
أوشكت مِن يديّ أن تتبدّد
إنتهت قصيدة التجاني "ربّ ما أعظم الجمال وأمجد" هنا. الملاحظ أنها القصيدة الوحيدة التي أخذت عنوانها من عجز بيت فيها ، على غير أسلوب التجاني في اختيار عناوين قصائده ..
من نظر في شعر من؟
ذلكم هو السؤال . .
لنا على هذه القصائد الثلاث : قصيدتي الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير "مساجد وكنائس" و "ربِّ ما أعظم الجمال وأمجد" ، ثمّ قصيدة الشاعر المصري إبراهيم ناجي "غيوم" ، ملاحظات خمس ، ستقودنا إلى نتيجة واستخلاص واضحين.
1/ نلاحظ أن قصيدة التجاني "رَبّ ما أعظم الجمال وأمجد"، هي القصيدة الوحيدة التي أخذت عنوانها من عجز بيت فيها، وهو البيت السادس عشر من جملة تسع عشرة بيت، لكأنّ قبلها أبيات خفيت علينا، أو أبيات سقطت من المخطوطة، أو ربما أسقطت بفعل فاعل. والتجاني الذي وضع لكل قصائده عناوين جاذبة ومعبّرة، لا يرجح أن يترك قصيدته هذى دون عنوان، فيأخذ عجز بيت فيها ويعتمده عنوانا. .
2/ مع حرص الشاعر التجاني، كما نلاحظ في قصائد ديوانه "إشراقة"، على أن يحمل أول بيت في قصيدته قافية واحدة في الصدر وذات القافية في عجزه كالتقليد، لا نجد ذلك في قصيدة "مساجد وكنائس" ، ولا في قصيدة "ربّ ما أعظم الجمال وأمجد"، فيما نلاحظ في قصيدة "غيوم" للشاعر إبراهيم ناجي استهلالها بقافية في الصدر وذات القافية في العجز. .
3/ نلاحظ أن القصائد الثلاث (اللتين للتجاني والتي لابراهيم ناجي) نظمت على بحر "الخفيف" ، ومَن يدقق في ديوان "إشراقة"، للشاعر التجاني، سيجد أن ذلك هو بحره الأثير، وبتلك القافية الساكنة المميزة . .
4/ نلاحظ أن القصائد الثلاث ، لا تتكرر فيها أيّ كلمة من كلمات القوافي التي تنتهي بحرف الدال الساكن في عجز كلّ بيت ، ولعله من الصدف الغريبة أن لا تجد كلمة أو كلمتين تتكرران عند شاعرين مختلفين يلتقيان على رويّ واحد وبحر واحد وحرف قافية واحد. . !
5/ ولا يمكن أن تغيب عن نظر المتلقي أو الناقد الحصيف، أن المعاني التي في قصيدة "غيوم"، تتوافق مع، وتتصل تكاملاً بيّناً، بذات المعاني التي وردتْ في قصيدتي التجاني، ونكاد أن نجزم بقدرٍ من الاطمئنان، أن القصائد الثلاث صدرتْ عن قاموس واحد ، ونفسٍ واحد، وعن علة واحدة بيّنة، وربما كانت قصيدة واحدة "مُزّقت" لثلاثة أجزاء، قصد التمويه وإبعاد شبهة الانتحال .
كم كان طيّباً الرّاحل المبارك إبراهيم ، وهو يحمل مخطوطة صديقه الشاعر التجاني يوسف بشير، فعبث بعضهم بمحتويات قصائد ديوانه "إشراقة"، وقد بان لي من قصيدة واحدة، أن الشاعر المصري ابراهيم ناجي قد يكون واحداً من بين هؤلاء، ولربما احتجنا لدراسات أعمق وأشمل، وبأساليب نقد علمي معتمد، إن نصل إلى نتيجة حاسمة حول الموضوع. .
هوامش :
1- ابراهيم ناجي: الطائر الجريح في المجموعة الشعرية الكاملة –دار الشروق ، 1996 ، ص 140
2- يحي محمد عبدالقادر: على هامش الأحداث في السودان، الخرطوم – الدار السودانية للكتب، (بدون تاريخ).
3- ابراهيم ناجي: مرجع سبق ذكره.
4- التجاني يوسف بشير : ديوان إشراقة، ط. 1996
5- عبد المجيد عابدين : التجاني يوسف بشير شاعر الجمال- 1962- ط3- ص 63 .
6- أحمد عبدالله سامي: الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير، دار الثقافة- بيروت (بدون تاريخ).
7- التجاني يوسف بشير ، مرجع سبق ذكره.
8- التجاني يوسف بشير ، مرجع سبق ذكره.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.