الإجراءات على الأرض تقول: إن القرار الفعلي هو استئصال منهج "الإخوان" وإزالة آثارهم التي تركوها في دولاب الدولة على مدار عام كانت دفة الحكم في أيديهم، بينما الحوار المجتمعي منقسم بين تيارين رئيسين بفروق في التأثير والقوة حول طريقة التعامل مع الجماعة التي ظلت في مواقع المعارضة طوال تاريخها الطويل الذي فاق الثمانين عاماً، وهي تلملم الآن جراحها بعدما فشلت في الاحتفاظ بالسلطة التي جاءتها على طبق من ذهب في ظل ظروف داخلية هيأت لها الوثوب على مقعد الرئاسة، ومصالح دولية سهلت لها عملية تسلم السلطة من حكم شاخ فوق مقاعده وخلعته ثورة الشعب في الخامس والعشرين من يناير 2011 . وفي الوقت الذي يطالب فيه فريق يطالب بإزالة آثار "الإخوان" في الحكم والسياسة تحت عناوين استئصالية يرى الفريق الآخر ضرورة إجراء مصالحة تاريخية مشروطة بقدرة "الإخوان" ومن ورائهم تيار الإسلام السياسي على الاندماج في العمل السياسي بقواعده المعهودة، وفي المنتصف بين الفريقين هناك رؤية يقدمها كثير من المهتمين بالشأن العام المصري تقوم على ما أسماه البعض منهم عملية فض الاعتصام الفكري التي هي بالضرورة أصعب وأكثر تعقيداً من عملية فض الاعتصام البشري وبين هذه الآراء جميعاً تنتظر جماعة "الإخوان" مصيرها الذي يبدو اليوم على المحك أكثر من أي وقت مضى . تواجه جماعة "الإخوان" أزمة ربما تتطور لتصبح الأعنف في تاريخها الممتد منذ نشأتها العام ،1928 فكل قادتها وفي مقدمهم المرشد العام محمد بديع ملاحقون قضائياً باتهامات بالتحريض على العنف والقتل، فيما فقدت إلى حد كبير ظهيرها الشعبي الذي طالما استنجدت به في أوقات الأزمات، ما فتح التساؤل عن إمكانية أن يقبل المصريون وجود "الإخوان" في المشهد السياسي المستقبلي بعدما شاهدوا عناصرها يواجهون الدولة والمجتمع بالسلاح . لأول مرة منذ تأسيسها قبل خمسة وثمانين عاماً تجد نفسها في صدام مباشر مع مجتمعها وتفتقد بصورة كاملة ظهيراً شعبياً يساندها، وقد أفضت الضربات الأمنية المتلاحقة لكوادرها الوسيطة إلى تراجع قدرتها على الحشد والتعبئة في التظاهرات وتراجع مماثل في قدرتها على استعراضات العنف في الشوارع، ومن السيناريوهات المرجحة حسب بعض المراقبين أن تتم عملية تفكيك الجماعة من داخلها، في صورة انشقاقات حادة، وتصفيات داخلية على نحو ما جرى في سنواتها الأولى ونزوع تيار فيها إلى العنف وتجاوزه إلى الإرهاب . في سيناريوهات أخرى يطرحها بعض المتفائلين ولكنها حتى في رأي هؤلاء تبدو أقل احتمالاً في تعقيدات اللحظة الآنية، ولا يصح استبعادها نهائياً في أي حسابات تتناول المستقبل، تتمثل هذه السيناريوهات في إمكانية أن تبدي كتلة "الإخوان" الرئيسة استعداداً لاستبيان الحقائق على الأرض واستيعاب ما جرى قبل 30 يونيو وبعده، وأن تتلمس أسباب الغضب المجتمعي وراء إطاحتها وتراجع أخطائها الفاحشة في السلطة، وتتلمس أسباب خسارتها أنصارها فريقاً بعد آخر . في مثل هذا السيناريو المحتمل جزئياً فإنه يكون بوسع الجماعة أن توفق أوضاعها وفق القانون بما يسمح بإشراف الدولة على ميزانياتها ومواردها، وأن يقتصر دورها على العمل الدعوي، دون خلط جديد ما بين المقدس الديني والمتغير السياسي، وربما يكون هذا هو الأساس الذي تبنى عليه شروط المصالحة الذي يطالب به فريق المتفائلين بإمكانية إعادة دمج "الإخوان" في الجماعة الوطنية من جديد . الذين يرفعون شعار "نعم للإقصاء" يؤكدون أن هناك شروطاً للإدماج والمشاركة السياسية تمنع حتماً مشاركة من يخالفها ويرفضها، هذه الشروط تقصي بالضرورة كل من يرفض الاعتراف بمفهوم الدولة الوطنية، وما يستتبعه من واجبات ومسؤوليات، وهؤلاء الذين لا يزالون يتحدثون عن دولة أممية تلغي الحدود وتمحو معاني السيادة الوطنية وتقصي بالتبعية كل من يرفض مدنية الدولة ويصر على جعل الدين وسيلة للدعاية السياسية وحشد الجماهير، وتحويل الدين إلى أيديولوجية تقبل الخطأ والصواب، وهذه الشروط لا تستثني من الإقصاء كل من يعطي لنفسه حقوقاً ينزعها عن مواطنين آخرين قد يختلفون معه في الدين أو اللون أو الفكر، حيث لا مكان لكل من لم يقروا بحقوق المواطنة كاملة دون استثناء في العملية السياسية، إضافة إلى إقصاء هؤلاء الذين يستقوون بالخارج ضد الشعب والدولة ويراهنون على أوراق الضغط الخارجية لتحقيق أجندتهم الداخلية وكلها اتهامات موجهة اليوم لجماعة "الإخوان" . الذين يتبنون منهج الإقصاء لديهم حيثياتهم التي تجد صدى كبيراً لها على الأرض ويتطوع "الإخوان" أنفسهم بمدهم بالكثير من الأسباب المنطقية ليرتفع صوتهم عالياً في الإعلام وفي المنتديات السياسية بالمطالبة بحل التنظيم والتعامل بحسم مع الجماعة التي تعتبر على نطاق واسع مجرمة وإرهابية، وتهدد الوطن في أمنه واستقراره وفي وسط هذا الفريق هناك الكثيرون الذين يرون عملية تجريم "الإخوان" ومحاكمتهم على كل الأفعال الإجرامية التي اقترفتها قيادتهم مساراً جنائياً لا يكفي للتعامل مع الظاهرة التي يرونها أعقد من أن تنفض بمجرد فض اعتصام بشري ويحتم ضرورة إجراء عملية فض للاعتصام الفكري الذي تتخندق فيه الجماعة ويطرحون مساراً آخر أكثر جذرية في رأيهم يتمثل في المحاكمة الفكرية والسياسية لمجمل أفكارهم وسياساتهم، وهذا المسار يضمن الانتقال من المواجهة الجغرافية للإخوان إلى المواجهة التاريخية معهم ويبدأ هذا المسار من وضع مادة في الدستور واضحة تحظر تكوين جماعات سياسية على أساس ديني . وأن تتم محاكمة "الإخوان" سياسياً وليس جنائياً فحسب . ويؤكد هؤلاء أن محاكمة "الإخوان" علناً وعلى أساس سياسي سيوفر فرصة نموذجية لتعرية الطبيعة الفكرية الإقصائية ل"الإخوان"، . دعاة المصالحة ينطلقون من إمكانية محتملة ولا يجوز استبعادها لأن يستوعب تيار الإسلام السياسي دروس ما جرى، ويطالبونه بإجراء عملية مراجعة شاملة للمنطلقات والأساليب والأفكار مراجعة تفضي بهم إلى قبول الفصل بين الدين والسياسة واحترام القيم الديمقراطية ويعني هذا الموافقة على منع تكوين الأحزاب على أساس ديني، وتجريم ترويجها لأفكار أو أفعال تتناقض مع الحرية والمساواة والمواطنة أو تستدعي الدين (زيفاً) بمضامين تمييزية، والتسليم بضرورة الفصل بين العمل الدعوي والمشاركة السياسية في إطار التزام كامل بالقوانين المصرية . أهم شروط المصالحة التاريخية المطلوبة تتمثل في ضبط علاقة تيار الإسلام السياسي بالدولة الوطنية ما يفرض على جماعاته وأحزابه ضرورة الخروج على الرأي العام بخطاب علني قاطع في ولائها للدولة الوطنية والتسليم بأن الشكوك المجتمعية في ولاء هذه الجماعات ستستمر لفترة، وبأنها تحتاج إلى أفعال وممارسات واقعية للطمأنة بجانب الخطاب العلني . على صعيد المواجهة القانونية مع الجماعة كان لافتاً صدور تقرير قضائي مهم من هيئة مفوضي الدولة للمحكمة الإدارية العليا، أول أمس الثلاثاء، أكدت فيه أن جماعة "الإخوان" ليس لها أي وجود قانوني، ونص على أن "الإخوان" ليسوا كياناً قانونياً، بكل المسميات التي أطلقت عليهم خلال نظر الدعوى، مثل الجماعة والجمعية والهيئة، لأنهم لم يقننوا أوضاعهم، مشيراً إلى أنه لا يجوز لأحد أن يمثل كياناً غير قانوني وأضاف التقرير: إن أنواع الأشخاص المعنوية مثل الجمعيات والهيئات محددة على سبيل الحصر في القانون المدني، وأن كيان "الإخوان" لا يندرج تحت أي منها . تتحدث الحقائق على الأرض بلغة أصدق من كل التصورات وتبقى الأسئلة الملقاة على عاتق "الإخوان" أنفسهم تبحث عن إجابات إجبارية تتعلق بمستقبلها وتحدد مسارها في المستقبل والسؤال الأكبر هو هل ستنجح المواجهة الحالية في تفكيك الجماعة فتنهار وتزول من الساحة المصرية أم تندفع القيادة الحالية للجماعة إلى تبني خيار العنف الشامل، وهو في رأي الكثيرين بمثابة انتحار تاريخي للجماعة الأبرز على ساحة تيار الإسلام السياسي . الحقيقة الكبرى التي يجب أن ينتبه إليها الجميع في تلك المواجهة المعلنة مع "الإخوان" أنها مواجهة طويلة ومتعددة المحاور ما يتطلب تعدد أساليب المواجهة، ولا شك أن النجاح فيها يتطلب دوراً واضحاً للجماهير عامة وللقوى السياسية بصفة خاصة، حيث تبرز الحاجة كل يوم إلى المشاركة السياسية لإنجاز خريطة الطريق بكفاءة وتجنب الانقسامات وتوحيد الصفوف وإعلاء شأن المصالح العليا على حساب الانتماءات الأيديولوجية، والعمل ما أمكن على استيعاب أعضاء الجماعة الذين لم تعد لديهم القدرة على التواصل مع قياداتهم، ما يحمل الجميع مسؤولية الحوار معهم لإقناعهم بأهمية المشاركة في العملية السياسية السلمية في إطار خريطة الطريق، بدلاً من المواجهة والعنف على حساب الوطن ومستقبل أبنائه، والأهم من ذلك كله أن تقدم السلطة الجديدة إنجازات على الأرض على صعيد تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية ما يوفر لها غطاءً جماهيرياً واسعاً في تلك المواجهة المحتومة . المصدر: الخليج 5/9/2013م