ما هو سرّ الصلاة ؟ و تمثيل لذلك و كان سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله ، و حضوره بكلِّيته بين يديه ، فإذا لم يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه ، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه و زلله مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رحمته ، مستطعما له ما يقيت قلبه ، ليقوى به على القيام في خدمته ، فلما وصل إلى باب الملك ، و لم يبق إلا مناجته له ، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا و شمالا ، أو ولاه ظهره ، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك ، و أقلّه عنده قدرا عليه ، فآثره عليه ، و صيَّره قلبة قلبه ، و محلَّ توجهه ، و موضع سرَّه ، و بعث غلمانه و خدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه و يعتذروا عنه ، و ينوبوا عنه في الخدمة ، و الملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا ، فكرم الملك وجوده و سعة برّه و إحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع ، فيصيبه من رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين ، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له : { و لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون }[الأحقاف :19] ، و الله سبحانه و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و اختصه له ، و خلق كل شيء له ، و من أجله كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم خلقتك لنفسي ، و خلقت كلِّ شيء لك ، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له " . و في أثر آخر : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب و تكفلت برزقك فلا تتعب ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإن و جدتني و جدت كلّ شيء ، و إن فُتَّك فاتك كلّ شيء ، و أنا أحب إليك من كلّ شيء". و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه ، و مناجاته ، و محبته و الأنس به . ما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة و ما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة و الجفوة و القسوة ، و الإعراض و الزَّلات ، و الخطايا ، فيبعده ذلك عن ربه ، و ينحّيه عن قربه ، فيصير بذلك كأنه أجنبيا من عبوديته ، ليس من جملة العبيد ، و ربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره ، و غلَّه ، و قيَّده ، و حبسه في سجن نفسه و هواه . فحظه ضيق الصدر ، و معالجة الهموم ، و الغموم ، و الأحزان ، و الحسرات ، و لا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة ، مختلفة الأجزاء ، و الحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد ، و بحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية . الكلام عن الوضوء فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ ، و يُقدم على ربِّه متطهرا ، و الوضوء له ظاهر و باطن : فظاهره : طهارة البدن ، و أعضاء العبادة. و باطنه و سرّه : طهارة القلب من أوساخ الذنوب و المعاصي و أدرانه بالتوبة ؛ و لهذا يقرن تعالى بين التوبة و الطهارة في قوله تعالى : { إن الله يحب التَّوابين و يحب المتظهرين }[ البقرة : 222] و شرع النبي صلى الله عليه و سلم للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول : "اللهم اجعلني من التوّابين ، و اجعلني من المتطهرين " . فكمَّل له مراتب العبدية و الطهارة ، باطنا و ظاهرا ، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك ، و بالتوبة يتطهر من الذنوب ، و بالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة . فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز و جل ، و الوقوف بين يديه ، فلما طهر ظاهرا و باطنا ، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه و بذلك يخلص من الإباق. و بمجيئه إلى داره ، و محل عبوديته يصير من جملة خدمه ، و لهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم و المستحبة عند آخرين. من تمام العبودية الذهاب للمسجد و العبد في حال غفلته كالآبق من ربه ، قد عطّل جوارحه و قلبه عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه ، فإذا وقف بين يديه موقف و التذلل و الانكسار ، فقد استدعى عطف سيِّده عليه ، و إقباله عليه بعد الإعراض عنه . عبودية التكبير " الله أكبر ". و أُمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه ، و يستقبل الله عز و جل بقلبه ، لينسلخ مما كان فيه من التولي و الإعراض ، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه ، و ألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس ، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه ، و طرفة عين ، لا يمنة و لا يسرة ، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه. و أقبل بكليته عليه ، ثم كبَّره بالتعظيم و الإجلال و واطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء ، و صدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه ، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره ، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله ، و كان قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه مقبل على غير الله ، معظما له ، مجلاً ، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير ، أخرجه من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية ، و منعه من التفات قلبه إلى غير الله ، إذا كان الله عنده و في قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حقّ قوله : الله أكبر و القيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين ، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه و بين الله تعالى. عبودية الاستفتاح فإذا قال : " سبحانك اللهم و بحمدك" و أثنى على الله تعالى بما هو أهله ، فقد خرج بذلك عن الغفلة و أهلها ، فإن الغفلة حجاب بينه و بين الله. و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له و تمهيدا ، و كان ذلك تمجيدا و مقدمة بين يدي حاجته. فكان في الثناء من آداب العبودية ، و تعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه ، و رضاه عنه ، و إسعافه بفضله حوائجه حال العبد في القراءة و الاستعاذة فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد و أنفعها له في دنياه و آخرته ، فهو أحرص شيء على صرفه عنه ، و انتفاعه دونه بالبدن و القلب ، فإن عجز عن اقتطاعه و تعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه و عطَّله ، و ألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك و تعالى ، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه و ليحي قلبه ، و يستنير بما يتدبره و يتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه ، و نعيمه و فلاحه ، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة. و لما علم الله سبحانه و تعالى حَسَد العدو للعبد ، و تفرّغه له ، و علم عجز العبد عنه ، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ، و يلتجئ إليه في صرفه عنه ، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته و مقاومته ، و كأنه قيل له : لا طاقة لك بهذا العدو ، فاستعذ بي أعيذك منه ، و استجر بي أجيرك منه ، و أكفيكه و أمنعك منه . نصيحة ابن تيمية لابن القيِّم و قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه و نوَّر ضريحه يومًا : إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ، و مدافعته ، و عليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب ، و يكفيكه. فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه . فأفضى القلب إلى معاني القرآن ، و وقع في رياضه المونقة و شاهد عجائبه التي تبهر العقول ، و استخرج من كنوزه و ذخائره ما عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ، و كان الحائل بينه و بين ذلك ، النفس و الشيطان ، فإن النفس منفعلة للشيطان ، سامعة منه ، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها ، و طُرد ألَّم بها الملَك ، و ثبَّتها و ذكّرها بما فيه سعادتها و نجاتها. فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن ، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه و مناجاته ، فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته و سخطه ، بأن يناجيه و يخاطبه ، و قلبه معرِض عنه ، ملتفت ، إلى غيره ، فإنه يستدعي بذلك مقته ، و يكون بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا ، و أقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك ، و قد ولاَّه قفاه ، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة و يسرة ، فهو لا يفهم ما يقول الملك ، فما الظن بمقت الملك لهذا. فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين و قيوم السماوات و الأرضين. حال العبد في الفاتحة فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة ، ينتظر جواب ربِّه له ، و كأنه يسمعه و هو يقول : " حمدني عبدي " إذا قال : { الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ}. فإذا قال : { الرَّحمن الرَّحيم } وقفَ لحظة ينتظر قوله : " أثنى عليَّ عبدي ". فإذا قال : {مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله : " مجَّدني عبدي ". فإذا قال : { إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعين } انتظر قوله تعالى : " هذا بيني و بين عبدي ". فإذا قال : {اهدِنا الصِّراط المُستقيم } إلى آخرها انتظر قوله : " هذا لعبدي و لعبدي ما قال ". و مَن ذاق طعم الصلاة عَلِمَ أنه لا يقوم مقام التكبير و الفاتحة غيرهما مقامها ، كما لا يقوم غير القيام و الركوع و السجود مقامها ، فلكلٍّ عبوديته من عبودية الصلاة سرٌّ و تأثيرٌ و عبودية لا تحصل في غيرها ، ثمَّ لكل آية من آيات الفاتحة عبودية و ذوق و وجد يخُصُّها لا يوجد في غيرها. فعند قوله : { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه الكلمة إثبات كللّ كمال للرب و وصفا و اسما ، و تنزيهه سُبحَانه و بحمده عن كلِّ سوء ، فعلاً و وصفاً و اسماً ، و إنما هو محمود في أفعاله و أوصافه و أسمائه ، مُنزَّه عن العيوب و النقائص في أفعاله و أوصافه و أسمائه. فأفعاله كلّها حكمة و رحمة و مصلحة و عدل و لا تخرج عن ذلك ، و أوصافه كلها أوصاف كمال ، و نعوت جلال ، و أسماؤه كلّها حُسنى. من معاني الحمد و حمده تعالى قد ملأ الدنيا و الآخرة ، و السموات و الأرض ، و ما بينهما و ما فيهما ، فالكون كلّه ناطق بحمده ، و الخلق و الأمر كلّه صادر عن حمده ، و قائم بحمده ، و وجوده و عدمه بحمده ، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود ، و هو غاية كل موجود ، و كلّ موجود شاهد بحمده ، فإرساله رسله بحمده ، و إنزاله كتبه بحمده ، و الجنة عُمِّرت بأهلها بحمده ، و النَّار عُمِّرت بأهلها بحمده ، كما أنَّها إنَّما وجدتا بحمده. و ما أُطيع إلا بحمده ، و ما عُصي إلا بحمده ، و لا تسقط ورقة إلا بحمده ، و لا يتحرك في الكون ذرَّة إلا بحمده ، فهو سبحانه و تعالى المحمود لذاته ، و إن لم يحمده العباد. كما أنه هو الواحد الأحد ، و إن لم يوحِّده العباد ، و هو الإله الحقُّ و إن لم يؤلِّهه ، سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " إن الله تعالى قال على لسان نبيه : سَمعَ اللهُ لمن حَمِدَه". فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده ، فإنه هو الذي أجري الحمدَ على لسانه و قلبه ، و أجراؤه بحمده فله الحمد كله ، و له الملك كله ، و بيده الخير كله ، و إليه يرجع الأمر كله ، علانيته و سره . فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد ، و هي نقطة من بحر لُجِّي من عبوديته. و من عبوديته أيضا : أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه عليه ، يستحق عليها الحمد ، فإذا حمده عليها استَّحق على حمده حمداً آخر ، و هلَّم جرا. فالعبد و لو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه ، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك ، و أضعاف أضعافه ، و لا يُحصي أحد البتّة ثناءً عليه بمحتمده ، و لو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكلِّ نعمة من ربِّه ، يحمده عليها ، فإذا حَمده على صرفها عنه ، حمده على إلهامه الحمدُ. قال الأوزاعي : " سمعت بعض قوَّال ينشد في حمامٍ لك الحمدُ إمّا على نعمةٍ و إمَّا على نقمة تُدفع". و من عبودية الحمد : شهود العبد لعجزه عن الحمد ، و أنَّ ما قام به منه ، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك ، فهو محمود عليه ، إذ هو الذي أجراه على لسانه و قلبه ، و لولا الله ما اهتدى أحد. و من عبودية الحمد : تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها و باطنها على ما يحب العبد منها و ما يكره ، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلّهم ، برِّهم و فاجرهم ، علويهم و سفليهم ، فهو سبحانه المحمود على ذلك كلّه في الحقيقة ، و إن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك ، و ما يستحق الرب تبارك و تعالى من الحمد على ذلك و الحمد لله : هو إلهام من الله للعباد ، فمستقل و مستكثر على قدر معرفة العبد بربه. و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الشفاعة : " فأقع ساجداً فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط ". عبودية {ربِّ العالمين} ثم لقول العبد : : { ربِّ العالمين} من العبودية شهود تفرّده سبحانه بالربوبية وحده ، و أنَّه كما أنه رب العالمين ، و خالقهم ، و رازقهم ، و مدبِّر أمورهم ، و موجدهم ، و مغنيهم ، فهو أيضا وحده إلههم ، و معبودهم ،و ملجأهم و مفزعهم عند النوائب ، فلا ربَّ غيره ، و لا إله سواه. عنوان : عبودية { الرَّحمَن الرَّحيم} و لقوله : { الرَّحمن الرَّحيم } عبودية تخصه سبحانه ، و هي شهود العبد عموم رحمته. و شمولها لكلّ شيء ، و سعتها لكلِّ مخلوق و أخذ كلّ موجود بنصيبه منها ، و لاسيما الرحمة الخاصَّة بالعبد و هي التي أقامته بين يدي ربه : أقم قلاناً ففق بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا ، و أنم فلانا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه ، و يتملقه و يسترحمه و يدعوه و يستعطفه و يسأله هدايته و رحمته ، و تمام نعمته عليه دنياه و أخراه فهذا من رحمته بعبده ، فرحمته وسعت كل شيء ، كما أن حمده وسع كل شيء ، و علمه وسع كل شيء ، { ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّحمة و علما} [ غافر :7] ، و غيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصَّة فهو منفي عنها. عنوان عبودية { مالكِ يومِ الدِّينِ} و يعطى قوله { مالك يوم الدِّين } عبوديته من الذلِّ و الانقياد ، و قصد العدل و القيام بالقسط ، و كفَّ العبد نفسه عن الظلم و المعاصي ، و ليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد و تفرَّد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه ، و أنه يومٌ يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير و الشر ، و ذلك من تفاصيل حمده ، و موجبه كما قال تعالى : { و قُضيَ بينَهم بالحقِّ و قيل الحمدُ لله ربِّ العالمين}[الزمر:75]. و يروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة و أهل النار ، عدلا و فضلا ، و لما كان قوله {الحمد لله رب العالمين}. إخبارا عن حمد عبده له قال : حمدني عبدي. ما معنى ( الثناء ) (التمجيد) و لما كان قوله { الرحمن الرحيم} إعادة و تكريرا لأوصاف كماله قال : " أثنى عليَّ عبدي " ، فإنَّ الثناء إنَّما يكون بتكرار المحامد ، و تعداد أوصاف المحمود ، فالحمد ثناء عليه ، و { الرحمن الرَّحيم } وصفه بالرحمة. و لما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين و هو الملك الحق ، مالك الدنيا و الآخرة ؛ و ذلك متضمِّن لظهور عدله ، و كبريائه و عظمته ، و وحدانيته ، و صدق رُسله ، سمَّى هذا الثناء مجداً فقال : " مجَّدني عبدي " فإن التمجيد هو : الثناء بصفات العظمة ، و الجلال ، و العدل ، و الإحسان . عبودية { إيَّاك نعبدُ } فإذا قال : { إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعين } انتظر جواب ربه له : " هذا بيني و بين عبدي ، و لعبدي ما سأل ". و تأمل عبودية هاتين الكلمتين و حقوقهما ، و ميِّز الكلمة التي لله سبحانه و تعالى ، و الكلمة التي للعبد ، و فِقهِ سرَّ كون إحداهما لله ، و الأخرى للعبد ، و ميِّز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إيَّاك نعبدُ } و التوحيد الذي تقتضيه كلمة { و إيَّاك نستعين } ، و فِقهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما ، و الدعاء بعدهما ، و فِقه تقديم { إياك نعبد } على { و إياك نستعين } ، و تقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخراً أوجز و أخضر ، و سرَّ إعادة الضمير مرَّة بعد مرة . تقديم العبادة على الاستعانة قلت : أراد تقديم العبادة و هي العمل على الاستعانة ، فالعبادة لله و الاستعانة للعبد ، فالله هو المعبود ، و هو المستعان على عبادته ، فإياك نعبد ؛ أي إياك أريد بعبادتي ، و هو يتضمن العمل الصالح الخالص ، و العلم النافع الدال على الله ، معرفة و محبة ، و صدقا و إخلاصاً ، فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه ، و الاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره ، و هي القول المتضمن قسم العبد. فكل عبادة لا تكون لله و بالله فهي باطلة مضمحلة ، و كل استعانة تكون بالله وحده فهي خذلانٌ و ذل. و تأمل علم ما ينفع العباد و ما يدفع عنهم كل واحد من هاتين الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعاً و دفعاً و كيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في صريح العبودية. القرآن مداره على هذه الكلمة و تأمل عِلم كيف يدور القرآن كلّه من أوّله إلى آخره عليهما ، و كذلك الخلق ، و الأمر و الثواب و العقاب و الدنيا و الآخرة ، و كيف تضمّنتا لأجلِّ الغايات ، و أكمل الوسائل ، و كيف أتى بهما بضمير المخاطب الحاضر ، دون ضمير الغائب ، و هذا موضوع يستدعي كتاباً كبيراً ، و لولا الخروج عمَّا نحن بصدده لأوضحناه و بسطناه ، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب : "مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد و إياك نستعين " و في كتاب " الرسالة المصرية ". ضرورة العبد لقوله {اهدنا الصِّراط المُستقيم } ثم ليتأمل العبد ضرورته و فاقته إلى قوله { اهدنا الصِّراط المُستقيم } الذي مضمونه معرفة الحق ، و قصده و إرادته و العمل به ، و الثبات عليه ، و الدعوة إليه ، و الصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية و ما نقص منها نقص من هدايته. و لما كان العبد مفتقراً إلى هذه الهداية في ظاهره و باطنه ، بل و في جميع ما يأتيه ، و يذره من : أنواع الهدايات التي يفتقر لها العبد . أمور فعلها على غير الهداية علماً و عملاً و إرادة ، فهو محتاج إلى التوبة منها و توبته منها هي من الهداية. . و أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها. . و أمور قد هُدي إليها من وجهٍ دون وجهٍ ، فهو محتاجٌ إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم ، و أن يزداد هدى إلى هداه. . و أمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها. . وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقاداً صحيحاً. . و أمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه ، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل ، و تُثبت فيه ضدّه. . و أمور من الهداية : هو قادر عليها ، و لكن لم يخلق له إرادة فعلها ، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة. . و أمور منها : هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها ، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها. . و أمور منها : هو غير قادر عليها و لا مريد لها ، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها و الإرادة لها لتتم له الهداية. . و أمور : هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادا و إرادة ، و علما و عملاً ، فهو محتاج إلى الثبات عليها و استدامتها ، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات ، و فاقته إليها أشد الفاقات ، و لهذا فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم و ليلة في أفضل أحواله ، و هي الصلوات الخمسُ ، مرات متعددة ، لشدَّة ضرورته و فاقته إلى هذا المطلوب. ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب و أهل الضلال ، و هو اليهود ، و النصارى و غيرهم . فانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية : مُنعم عليه : بحصولها له و استمرارها و حظه من المنعم عليهم ، بحسب حظه من تفاصيلها و أقسامها. و ضالٌ : لم يُعطَ هذه الهداية و لم يُوفق لها . و مغضوب عليه : عَرفها و لم يوفق للعمل بموجبها. فالضال : حائد عنها ، حائر لا يهتدي إليها سبيلا. و المغضوب عليه : متحيّر منحرف عنها ؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها. فالأول المنعم عليه قائم بالهدى ، و دين الحق علما و عملاً و اعتقادا و الضال عكسه ، منسلخ منه علماً و عملاً. و المغضوب عليه لا يرفع فيها رأسا ، عارف به علماً منسلخ عملاً ، و الله الموفق للصواب. و لولا أن المقصود التنبيه على المضادة و المنافرة التي بين ذوق الصلاة ، و ذوق السماع ، لبسطنا هذا الموضوع بسطاً شافيا ، و لكن لكلِّ مقام مقال ، فلنرجع إلى المقصود. عبودية التأمين و رفع اليدين و شرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلاً بإجابته ، و حصوله ، و طابعاً عليه ، و تحقيقاً له ، و لهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهم. ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما لأمر الله ، و زينةً للصلاة ، و عبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح ، و اتباعاً لسنَّة رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو حليةُ الصلاة ، و زينتها و تعظيمٌ لشعائرها. ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن إلى ركن ، كالتلبية في انتقالات الحاجِّ ، من مشعر إلى مشعر ، فهو شعار الصلاة ، كما أن التلبية شعار الحج ،(مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى و تكبيره بعبادته وحده. ) عبودية الركوع ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعاً لعظمة ربه ، و استكانة لهيبته و تذللا لعزته. فثناء العبد على ربه في هذا الركن ؛ هو أن يحني له صلبه ، و يضع له قامته ، و ينكس له رأسه ، و يحني له ظهره ، و يكبره مُعظماً له ، ناطقاً بتسبيحه ، المقترن بتعظيمه. فاجتمع له خضوع القلب ، و خضوع الجوارح ، و خضوع القول على أتم الأحوال ، و يجتمع له في هذا الركن من الخضوع و التواضع و التعظيم و الذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه ، و الخضوع للعبيد بعضهم لبعض ، فإنَّ الخضوع وصف العبد ، و العظمة وصف الرب . و تمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع ، و يتضاءل لربه ، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه ، و لخلقه و يثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك له . إذا عظَّم القلب الرب خرج تعظيم الخلق و كلما استولى على قلبه تعظيم الربِّ ، و قوى خرج منه تعظيم الخلق ، و ازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات ، و القصد و الجوارح بالتبع و التكملة. ثم شرع له أن يحمد ربه ، و يثني عليه بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن هيئاته ، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه و يثني عليه بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن تقويم ، بأن وفقه و هداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره. عبودية القيام ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال و الاستواء ، واقفا في خدمته ، بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك ، و لهذا شرع له من الحمد و المجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك. و لهذا الاعتدال ذوقٌ خاص و حال يحصل للقلب ، و يخصه سوى ذوق الركوع و حاله ، و هو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع و السجود سواء. و لهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُطيلُه كما يطيل الركوع و السجود ، و يُكثر فيه من الثناء و الحمد و التمجيد ، كما ذكرناه في هديه صلى الله عليه و سلم في صلاته و كان في قيام الليل يُكثر فيه من قول : " لربي الحَمد ، لربي الحمد " و يكرِّرها. عبودية السجود ثم شرع له أن يكبر و يدنو و يخرَّ ساجدا ، و يُعطي في سجوده كل غضو من أعضائه حظَّه من العبودية ، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه ، مسندة راغما له أنفه ، خاضعا له قلبه ، و يضع أشرف ما فيه و هو وجهه بالأرض و لاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على الأرض معفِّراً له وجهه و أشرف ما فيه بين يدي سيِّده ، راغماً أنفه ، خاضعاً له قلبه و جوارحه ، متذلِّلاً لعظمة ربه ، خاضعاً لعزَّته ، منيباً إليه ، مستكيناً ذلاً و خضوعاً و انكساراً ، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله. و قد طابق قلبُه في ذلك حال جسده ، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله ، و قد سجد معه أنفه و وجهه ، و يداه و ركبتاه ، و رجلاه فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه و هو ساجد . و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه ، و بطنه عن فخذيه و عَضُديه عن جنبيه ، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملَ بعضه بعضاً . فأحرِ به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلِّها ، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربَّه و هو ساجدٌ ".[رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه]. و لما كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة ، كما قيل لبعض السلف : هل يسجد القلب ؟ قال : " أي و الله سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عزَّ و جل ".[هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى (21/287) (23/138) إشارة إلى إخبات القلب ، و ذلّه ، و خضوعه ، و تواضعه و إنابته و حضوره مع الله أينما كان ، و مراقبته له في الخلاء و الملأ . ] الصلاة مبناها على خمسة أركان و لما بنيت الصلاة على خمس : القراءة و القيام و الركوع و السجود و الذكر . سمّيت باسم كل واحد من هذه الخمس : فسمّيت " قياماً " لقوله : { قُم اللَّيل إلاَّ قليلاً} [ المزمل :2] ، و قوله : {وقُومُوا لله قانتين} [البقرة :238]. و "قراءة" لقوله : {وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن الفَجر كان مشهُوداً} [الإسراء :78] ، {فاقرءوا ما تيَسَّر منه } [المزمل :48]. و سمّيت " ركوعاً " لقوله : { و اركعُوا مع الرَّاكعين } [ البقرة :43] ، { و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعُون}[المراسلات :48]. و " سجوداً " لقوله : { فسبِّح بحمد ربِّك و كن مّن السَّاجدين} [ الحجر : 98] ، وقوله { و اسجُد و اقترب} [العلق :19]. و "ذكراً " لقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله} [ الجمعة :9] ، { لا تُلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله } [ المنافقون :9]. و أشرف أففعالها السجود ، و أشرف أذكارها القراءة ، و أول سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه و سلم سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت بالقراءة ، و خُتمت بالسجود ، فوضعت الركعة على ذلك ، أولها قراءة و آخرها سجود. حال العبد بين السجدتين ثم شرع له أن يرفع رأسه ، و يعتدل جالساً ، و لما كان هذا الاعتدال محفوفا بسجودين ؛ سجود قبله ، و سجود بعده ، فينتقل من السجود إليه ، ثم منه إلى السجود الآخر ، كان له شأن ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه ، و يدعوه و يستغفره ، و يسأله رحمته ، و هدايته و رزقه و عافيته ، و له ذوق خاص ، و حال للقلب غير ذوق السجود و حالهن ؛ فالعبد في هذا القعود يتمثَّل جاثيا بين يدي ربه ، مُلقيا نفسه بين يديه ، مُعتَذراً إليه مما جَناَه ، راغباً إليه أن يغفر له و يرحمه ، مستَعدياً له على نفسه الأمَّارة بالسوء. لماذا الاستغفار بين السجدتين و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول : " رب اغفر لي ، رب اغفر لي ، رب اغفر لي " ، و يكثر من الرغبة فيها إلى ربه. فمثِّل أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق ، و أنت كفيل به ، و الغريم مماطل مخادع ، و أنت مطلوب بالكفالة ، و الغريم مطلوب بالحق ، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق ،؛ لتتخلص من المطالبة ، و القلب شريك النفس في الخير و الشر ، و الثواب و العقاب ، و الحمد و الذم . و النفس من شأنها الإباق و الخروج من رقِّ العبودية ، و تضييع حقوق الله عو و جل و حقوق العباد التي قبلها ، و القلب شريكها إن قوي سلطانها و أسيرها ، و هي شريكته و أسيرته إن قوي سلطانه. فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديا على نفسه ، معتذرا من ذنبه إلى ربه و مما كان منها ، راغباً إليه أن يرحمه و يغفر له و يرحمه و يهديه و يرزقه و يعافيه ، ز هذه الخمس كلمات ، قد جمعت جماع خير الدنيا و الآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا و في الآخرة ، و دفع المضار عنه في الدنيا و الآخرة ، و قد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله. فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه و أخراه و يجمع رزق بدنه و رزق قلبه و روحه ، و هو أفضل الرازقين. و العافية تدفع مضارّها. و الهداية تجلب له مصالح أخراه. و المغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا و الآخرة. و الرحمة تجمع ذلك كلّه. و الهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها. و شرع له أن يعودَ ساجداً كما كان ، و لا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ و ذلك لفضل السجود و شرفه و قرب العبد من ربِّه و موقعه من الله عز و جل ، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه و هو ساجد ، و هو أشهر في العبودية و أعرق فيها من غيره من أركان الصلاة ؛ و لهذا جُعل خاتمة الركعة ، و ما قبله كالمقدمة بين يديه ، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة ، و كما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد ، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك و هو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب ابنته و هو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال : أتذكر أمراً من أمور الدنيا و نحن نتراءى لله سبحانه و تعالى في طوافنا. و لهذا و الله أعلم ، جُعل الركوع قبل السجود تدريجا و انتقالاً من الشيء إلى ما هو أعلى منه. لماذا يكرر السجود مرتان و شُرع له تكرير هذه الأفعال و الأقوال ؛ إذ هي غذاء القلب و الروح التي لا قوام لهما إلا بها ، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع ، و الشرب نفسا بعد نفس حتى يَروى ، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فماذا كانت يغني عنه تلك اللقمة ؟ و ربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به ؛ و لهذا قال بعض السلف : " مثل الذي يصلي و لا يطمئن في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك". و في إعادة كل قول أو فعل من العبودية و القرب ، و تنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى ، و حصول مزيد خير و إيمان من فعلها ، و معرفة و إقبال و قوة قلب ، و انشراح صدر و زوال درنٍ و وسخٍ عن القلب بمنزلة غسل الثوب مرَّة بعد مرَّة . فهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه و أمره ، و دلَّت على كمال رحمته و لطفه ، و ما لم تحط به علماً منها أعلى و أعظم و أكبر و إنما هذا يسير من كثير منها. فلما قضى صلاته و أكملها و لم يبق إلا الانصراف منها ، فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنياً عليه بما هو أهله ، فأفضل ما يقول العبد في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله ، و لا تليق بغيره.