القبطان هو من يمسك بدفة السفينة ويتولَّى قيادتها، ولكنَّ معنى هذه الكلمة يتمدَّد مجازاً ليشمل من يتولَّوْن القيادة في مختلف الحقول والشجون .. وفي المقابل يتجاوز معنى كلمة القرصان السَّطو المُسلَّح في عرض البحر أو الفضاء الجوي ليشمل السَّطو في فضاءات أخرى كثيرة. عطفاً على التعاطي الحكومي مع كارثة الأمطار والسيول التي حلَّت بولايتي كسلا وغرب كردفان وخلَّفت خساراً فادحاً ومؤسفاً في الأرواح والممتلكات، قفزت إلى الذهن حادثتان ترتبطان بالقباطنة: أولاهما حادثة غرق "تايتنك" السفينة الأشهر في التاريخ الحديث والتي تذهب أغلب الرِّوايات إلى تحميل قبطانها "إدوارد سميث" القدر الأكبر من مسؤولية غرقها وهلاك الكثير ممن كانوا على متنها كونه كان مُعجباً بتصميم سفينته وضخامتها وفخامتها حد الغرور الذي جعله يعتقد جازماً أنها غير قابلة للغرق ويتجاهل الكثير من احتياطات السَّلامة قبل وأثناء إبحارها .. بل إنَّه أصرَّ على أن تُبحِر "تايتنك" بأقصى سرعة لها متجاهلاً الرسائل التي التقطتها غرفة اللاسلكي بالسفينة من بعض السفن العابرة والتي كانت تنصحه بخفض السرعة بسبب الاقتراب من الدخول في منطقة مياه جليدية .. وعندما هرع إليه مراقب السفينة ليخبره بأنَّها على وَشَك الارتطام بجبلٍ جليدي، كان الوقت قد فات لحرف السفينة المندفعة بتلك السرعة الكبيرة عن اتجاه الجبل، فارتطمت به وتسرَّبت إليها المياه بكميات كبيرة هَوَتْ بها إلى قاع المحيط. مثلما كان من الممكن لقبطان "تايتنك" أن يتفادى غرق سفينته، لو أنَّه اتبع الحرفية في ممارسة عمله ولم يتجاهل الرسائل التي التقطتها غرفة اللاسلكي، أو أن يتيح إمكانية انقاذ كلِّ من كان على متن السفينة لو أنَّه اتبع إجراءات السلامة وحمل معه ما يكفي من قوارب النجاة، فقد كان من الممكن لحكومة نظام "الإنقاذ" - التي ليس لها من اسمها نصيب - أن تدرأ، أو تخفِّف، عن مواطنيها مخاطر الأمطار والسيول لو أنَّها كانت حكومة راشدة تمتلك إرادةً تحسُّ بمعاناتهم وتنحاز لمصالحهم وتدير شؤونهم بحرفيةٍ ورؤىً علمية توجه الموارد العامة للخدمات الأساسية - ومن بينها البنى التحتية من شوارع ومصارف والإستعانة بذوي الكفاءة، لا الولاء، لدراسة حركة الرياح والسيول والتقيد بالمواصفات الفنية وتوفير مواد البناء بأسعار في متناول الناس وغير ذلك من مطلوبات التخطيط العمراني لتجنُّب كوارث الأمطار والسيول التي تضرب الآلاف كل عام - بدلاً من تركيز الصرف على أجهزة الأمن وعلى الجهاز السياسي والإداري المترهل، في المركز والولايات، بلا جدوى. يُحْمَد لقبطان "تايتنك" أنه ختم حياته بمشهدٍ أخلاقي وهو يشرف على إنقاذ من استطاع من ركاب السفينة المنكوبة، ولم يفكر في أن يحجز لنفسه مكاناً في قوارب النجاة التي كانت سعتها تقل كثيراً عن عدد الركاب الكُلِّي، وعندما أيقن أنَّ غرق السفينة أصبح أمراً حتمياً عاد إلى كابينة القيادة وأمسك بالدفة حتى أدركه الغرق وهو متشبثٌ بها .. أما قباطنة "الإنقاذ" فقد تمترسوا في مكاتبهم الوثيرة وأصَرُّوا أن يكملوا المحيط الكارثي لدائرة فشلهم بإضافة قوسٍ آخر، هو تقاعسهم المشين عن إغاثة المنكوبين في كسلا والنهود أو حتى إعلان نكبتهم وطلب إغاثتهم! الحادثة الثانية نوردها تعقيباً على تلك العبارة الأسيانة التي أطلقها أحد المواطنين المتأثرين بكارثة الأمطار والسيول وقال فيها: "الحكومة ما شغالة بينا" .. فبعد شهورٍ قليلة من حادثة غرق "تايتنك" كانت سفينة أخرى تقوم برحلة بين أروبا وأمريكا، وعندما أوغلت كثيراً في مياه المحيط جاءتها ريحٌ عاصفٌ وجاءها الموج من كلِّ مكان حتى ظنَّ مَن فيها أنهم قد أُحيط بهم .. ووسط هذا الجو المشحون بالقلق والخوف من معانقة الموت، طلب القبطان من الركاب أن يتجمعوا فى بهو السفينة انتظاراً لتعليماته باستخدام قوارب النجاة، إذا استدعى الأمر .. ومع مرور الوقت دون صدور تعليمات من القبطان، ولمَّا كانت حادثة "تايتنك" لم تزل في الأذهان، سرت شائعة بأنَّ السفينة تحمل قارب نجاة واحد سيستغله القبطان ومعاونوه تاركين البقية في مواجهة المصير المحتوم، فزاد القلق والخوف، إلاَّ أنَّ طفلاً صغيراً قفز على منضدةٍ وسط الجمع المرعوب وصاح فيهم قائلاً: "من فضلكم لا تصدقوا هذه الشائعة، أؤكد لكم أنَّ القبطان لن يتخلَّى عن واجبه .. لأنَّه أبي ويستحيل أن يهرب ويتركني للموت"، فكانت هذه الكلمات كافية لأن تعيد ثقة ركاب السفينة في قبطانهم ومعاونيه. وليس بعيداً عن كلمات ذلك الطفل الحصيف ما أشار إليه الزعيم الهندي الراحل جواهر لال نهرو في إحدى الرسائل التي بعث بها إلى ابنته من السجن وقال فيها: "الحكومة الديمقراطية - يا أنديرا - تعامل الشعب كما يعامل الرجل زوجته وأولاده، يفكر حتى وهو على فراش الموت في حاضرهم ومستقبلهم وكيف يؤمِّن لهم حياةً كريمةً بعد رحيله .. أمَّا الحكومة الديكتاتورية فإنَّها تعامل الشعب كما يعامل الرجل عشيقته، تكون لمتعته أو لا تكون". بين كلمتي القبطان والقرصان تتبدَّى جدلية القيادة الرشيدة الموثوق بها ونقيضها .. وإذا كان من يَصِلون للحكم والقيادة شرعاً يدركون أنَّ شرعيتهم تستند على استمرار ثقة المحكومين فيهم وأنَّ هذه الثقة رهينة بوجود مؤهلات فنية وأخلاقية تتعلق بكفاءة الأداء وعمق الإحساس بالناس الذين استأمنوهم أرواحهم ومصالحهم، فإنَّ من يَصِلون للحكم عنوةً، أو بشرعيةٍ زائفة، ليسوا بحاجة لهذه المؤهلات، لأنَّهم يستندون على قاعدة "لا يُسْأَلُ عمَّا يفعل" ولا يحملون أي عبء ضميري ولا يقيدهم أي التزام أخلاقي تجاه أرواح ومصالح من يحكمونهم، فيحوِّلون الحكومة من قبطانٍ يقود سفينة الوطن لبرِّ الأمان إلى قرصانٍ يسطو عليها. في ظلِّ الغياب الحكومي الفاضح عن إغاثة متضرري الأمطار والسيول، في النهود وكسلا، أطلق حزب المؤتمر السوداني مبادرة "إيد على إيد" لتقديم العون لأهلنا في المنطقتين، كما أطلقت جهات شعبية أخرى مبادرات مماثلة .. هذه دعوة عاجلة للمساهمة في هذه المبادرات والتصدي لواجب الوقوف مع أهلنا في مصابهم .. وقبل ذلك ندعو أنفسنا، وكل قوى التغيير، للتسامي فوق الشجون الصغرى وأن نُظْهِر أفضل ما فينا للتصدي لواجب تحرير وطننا من القراصنة الذين اختطفوه.