من قال إن بني أمية كلهم شر؟ ومن قال شرّهم راجح؟ فلقد أرسوا بقوة أسس الدولة العربية الحديثة فكانوا بناة أرفع الحضارات بين الأمم يومئذ، وأتوا بالترجمة وبحسن العمارة وبالبيامارستانات وهي المشافي، وبالفسقيات وهي النوافير العامة، أغدقوا على الشعراء والفنانين، شادوا القصور المنيفة والحدائق، وأجمل المساجد، ولعلهم هم الذين أتوا بهذا التصميم التقليدي لعمارة المسجد، خاصة المئذنة والميضأة والقبة والمحراب والصحن، فقد كانوا شديدي الولع بالحداثة، لذا عملوا على تطوير وجوه الحياة كافة وانفقوا بسخاء على العلماء المتخصصين في علوم الدنيا المادية، رغم انهم كانوا على جفاء مع المتقين من علماء الدين، إذ رأوا أن الولاء لله لا يجوز إلا عبر الولاء لهم، ومن أراد الخروج جهاداً لله فقد جردوا له حملات موسى بن نصير نحو المغرب، وحملات الهند والسند، وهم الذين فتحوا سمرقند والأندلس، وما أدراك ما قرطبة وقصر الحمراء، وابن رشد والموشحات وو.. بل ويؤكد أجدادنا الذين أسسوا أول دولة سودانية جامعة وهم الفونج بأنهم من فلول بني أمية الذين اختلطوا بقبائل النيل الأزرق. فيهم قال شوقي: (بنو أمية للأنباء ما فتحوا وللأحاديث ما سادوا وما دانوا * كانوا ملوكاً سرير الشرق تحتهمو فهلا سألت سرير الغرب ما كانوا؟ * عالين كالشمس في أطراف دولتهم في كل ناحية ملك وسلطان).. كل من يتباهى بعظمة الحضارة الإسلامية وسبقها لأوربا، فإنه لابد يمتدح بذلك الأمويين أولاً ثم بني العباس الذين خلفوهم فوجدوا الدرب سالكاً مطروقاً. هؤلاء القوم جيروا الدين لدنياهم أولاً ودنيا الناس من بعدهم إن شاءوا، فقد فصلوا الدين عن الدولة فجعلوا طقوس الدين لله تعالى ولكن بما لا يفقدهم مصلحة (فالحجاج رجم الكعبة ذاتها)، بينما جعلوا الدولة لهم وحدهم بوصفهم مصطفين متشبثين بحقهم، وبالتالي فإن ما لله لله، يعفو فيه ويأخذ سبحانه، وما لقيصر لقيصر، يعطي منه ما يشاء لمن يريد ويمنع من يشاء ولا يعفو عن كثير. من أراد أن يصلي فليصل في المسجد الأموي الواسع البهيج، أو في جامع القيروان، أو حتى في مسجد الرسول الكريم الذي هدموا ما أسس منه على التقوى من أول يوم، ثم بنوا أكبر منه وأكثر أبهة مما جعل قبر الرسول الكريم وبيوته جزءاً منه، وأما من أراد الجهاد فباب الجهاد مفتوح، الله أكبر وشرع الله وحده في المحاكم والمصاحف على أسنة الرماح والتحميد والتهليل على أشده فلا بأس في ذلك، لا يرتضون بغير الإسلام دينا، ثم أنه يوسع لهم ملكهم وعزتهم وريع خراجهم من الأمصار. بنو أمية قتلوا وعذبوا وارهبوا كل من اعترض على ملكهم العضوض، حتى فلذة كبد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين، ناهيك عن خيرة الصحابة الذين رضي الله عنهم دون أن يتنافى ذلك مع سياسة (شعرة معاوية)، ثم بنو أمية فقدوا الأندلس من بعد، دويلة دويلة، حينما انشغلوا بالدنيا والقصور والنساء والموائد وجمع الخراج والمخصصات من كل فج عميق ففسدوا وأفسدوا واصطرعوا في الإمارة حتى انهارت دولتهم على رؤوسهم، يا الله، إنهم ظاهرة عجيبة، دهاة واذكياء وأبطال وعشاق لعرض الحياة الدنيا من الطراز الأول، بدأوا سلطانهم بالتمرد على الخلافة الراشدة وأنهوه بالبكاء على اطلال قصورهم المنيفة. ترى هل يعرف أحد قوماً فعلوا مافعل بنو أمية بالناس وبالدولة وبالدين و بأنفسهم؟ أما أنا فلن أعرف حتى ارى نظير عمر .. بن عبد العزيز .