بعد ختام عرض تقرير «حصاد الأداء» على جلسة مجلس الوزراء يوم الخميس الماضي فتح الرئيس البشير باب النقاش، وطلب السماع «لرأي العلماء» على حد تعبيره ، وأعطى الفرصة أولاً لبروفسير عبد الله أحمد عبد الله وزير الزراعة وعميد كلية الزراعة السابق بجامعة الخرطوم، الذي ركز في حديثه على ضعف الإنتاجية في قطاع الزراعة، وعزا ذلك لعدم الاهتمام بالحزم التقنية نتيجة لضعف الصرف على البحوث الزراعية، كما أشار إلى تركيز النمو على المناطق الحضرية بدلاً من الذهاب إلى الريف لتخفيض حدة الفقر، ولفت النظر كذلك إلى المؤشرات البيئية المتمثلة في الجفاف والتصحر والانخفاض في خصوبة الأرض التي تساهم بدورها في ضعف الإنتاجية. وطالب في الوقت ذاته بضرورة هيكلة الدولة والقطاع الزراعي حتى تتواءم مع علاقات الإنتاج والشركات الجديدة والتحسن الذي طرأ على الخدمات، وقال إنه يجب التركيز على البحوث الزراعية باعتبارها المكون الرئيس لزيادة وتكثيف الإنتاج وطالب بالاستثمار والاتفاق على القطاعات الزراعية - خصوصاً القطاع المطري التقليدي والآلي- وقال إن نماذج الاستثمار المعمول بها في هذا القطاع لا تصلح ولابد من إعادة النظر فيها. كما نبه بروفسير عبد الله إلى المتغيرات الداخلية والإقليمية وأثرها على الزراعة في السودان، ولخص مواطن الضعف في هيكلة الدولة لتتواءم مع التطوير المطلوب، بالإضافة إلى أزمة دارفور وقضية حيازة الأرض بعد حل المشكلة هناك، وقال إن هذا ما يجب الانتباه له من جانب برنامج النهضة الزراعية، وإنه لابد من برامج مماثلة لبرنامج النهضة على المستوى الولائي. كما طالب متحدث آخر هو «بروفسير عبادي» بضرورة التركيز على محاصيل بعينها يملك فيها السودان قدرة على المنافسة مثل الحبوب واللحوم والزيوت والألبان، كما لابد من الاستفادة - كما قال- من القيمة الإضافية التي يمثلها التصنيع الزراعي بدلاً من الاعتماد على المواد الزراعية الأولية، خصوصاً التصنيع الغذائي الذي يساهم في رفع قيمة المنتج، كما دعا إلى اعتماد «صيغ التعاون» لجزء من مناهج التوجه الإسلامي. وتحدث من سنار واليها المهندس أحمد عباس عبر «الفيديو كونفرنس» فأشاد ببرنامج النهضة الزراعية، وقال إن البرنامج وفر بيئة طيبة وأدوات ممتازة، وضرب مثلاً لذلك بوفرة الكهرباء والمياه لمشاريع السوكي والرماش في ولايته. أما وزير الزراعة والغابات د. عبد الحليم المتعافي فقد كرس جُلّ مداخلته على قضية التمويل باعتباره المعوق الأساسي، وأفصح عن أن جملة التمويل المعتمد للاستثمار الزرعي هو «50» مليون دولار، ذهب «50%» منها للتوسع في زراعة القطن في القطاع المطري، وقال إن جملة المبلغ المعتمد للبحوث الزراعية هو «5» مليون جنيه، بينما نجد أن موازنة البحوث الزراعية في إيران تصل إلى «300» مليون دولار وفي البرازيل إلى «350» مليون دولار، وهي كما نرى مقارنة تكاد أن تكون صفرية! وقرب نهاية الجلسة، وبعد أن أدلى الوزراء والخبراء بمداخلاتهم، التفت رئيس الجمهورية إلى حيث أجلس وإلى جانبي زميلي الصادق الرزيقي رئيس تحرير «الإنتباهة» وقال الآن نريد أن نسمع رأي الصحافة، فليتفضل طه النعمان، فتقدمت إلى الكرسي الوزاري الشاغر أمامي حسبما أشاروا إليَّ، فشكرت برنامج النهضة ومسؤوليه على توجيه الدعوة لي لحضور هذه الاجتماع الوزاري حول قضية اعتبرها من أكبر القضايا التي تؤرق الوطن، ودرجت على تسميتها ب«المسألة الزراعية» في السودان، لتطاول تعثرها والعقود المتعاقبة التي استهلكتها في محاولة إيجاد حل لها دونما جدوى، وقلت إنني لا أريد أن أتطاول على السادة العلماء والخبراء الذين يجلسون أمامنا الآن ولديهم الكثير من المعارف والدراسات والتفاصيل المتصلة بأسباب التعثر، ولكن لدي سؤال هام وملاحظة أساسية هو عدم إقدام مصممي ومخططي برنامج النهضة الزراعية على دراسة ماضي الزراعة في السودان، لماذا كانت الزراعة ناجحة ومجدية في الماضي وفاشلة ومتعثرة الآن، وأرى أنه كان من الضروري القيام بمثل هذه الدراسة والمقارنة حتى نستفيد من «خبرة وتجربة الماضي في بناء الحاضر وصناعة المستقبل». وأضفت القول: إن أكبر معوق للنهضة الزراعية في السودان ومن واقع التقارير التي أمامنا ومن خلال إفادات السادة الخبراء والوزراء، وخصوصاً وزير الزراعة والغابات هو «التمويل»، ولكن لماذا التمويل؟! وأردفت لانريد أن نبكي على اللبن المسكوب، الذي هو هنا «عائدات البترول»، فنحن قد أضعنا على أنفسنا فرصة تكريس التمويل المتوفر عبر صادرات النفط للزراعة أولاً، بدل أن نبذل ذلك المال الوفير في بنود أقل أهمية وحيوية وجدوى، حيث ذهب مال البترول إلى الصرف الحكومي وإلى إنشاء ناطحات السحاب الأسمنتية والزجاجية، وكلها بنود كان يمكن تأجيلها وتقديم الاستثمار في الزراعة عليها، ولكن هذا- من أسف- لم يحدث. وختتمت إفادتي بالقول إنني أؤكد على ضرورة توفير التمويل وأضم صوتي إلى صوت وزير الزراعة في هذا الصدد. ثم تراجعت إلى مقعدي وتقدم الأستاذ الرزيقي الذي كرس حديثه القصير على قطاع الثروة الحيوانية بوصفه «راعي» ، في إشارة لقولي في بداية مداخلتي بأنني «مزارع» قبل أن أكون صحافياً، وربما كان هذا سر اهتمامي بقضية الزراعة، وقال الرزيقي إن الثروة الحيوانية في بلادنا تعاني من الإهمال على نطاق واسع وتحتاج لتوفير المراعي وتحديثها وتوفير المياه والخدمات البيطرية الضرورية والاستثمار فيها بشكل أوسع رعايةً وتطويراً وتصنيعاً لمنتجاتها. أما حديث الختام فقد كان من رئيس الجمهورية المشير البشير، الذي ركز في حديثه على أن أكبر معوقات الزراعة هو المزارع نفسه، وقال إن المزارعين في بلادنا لا يعملون، واستشهد بمناقشة دارت بينه وبين خبير أجنبي حول مشاكل الزراعة في بلادنا، وقال إن ذلك الخبير قال له: إن المزارع عندكم يعمل 15 يوماً في السنة بينما المزارع في بلاده يعمل 12 شهراً. كما أشار البشير إلى أن المزارعين كانوا يبيعون الجازولين ، حيث كان يصرف للواحد منهم جالون ونصف جالون، فيستخدم نصف الجالون الذي يكفي لحراثة الفدان أو ريه، ويبيع جالوناً أو أكثر من ذلك الجازولين المدعوم، معتبراً عدم اجتهاد المزارعين وتصرفهم بمدخلات الزراعة في غير وجهتها من أخطر المعوقات، ومع ذلك عندما انتقل الرئيس للحديث عن التمويل، أقر بضعفه، وقال إن الدولة ستحاول من الآن فصاعداً العمل على توفير التمويل اللازم من خلال البنوك التجارية، بحيث تصبح الدولة «ضامناً»- عبر البنك الزراعي- لاسترداد هذه البنوك لقروض التمويل، لأن هذه البنوك تعمل على أسس تجارية، وبالتالي تريد من يضمن لها سداد هذه القروض. ويمكن اعتبار حديث الرئيس في هذا الصدد بمثابة توجيه رئاسي ينتظر صياغته في شكل قرار من قبل نائب الرئيس المشرف على برنامج النهضة الزراعية وعرضه على مجلس الوزراء ليأخذ طريقه إلى التنفيذ.