تمر هذه الأيام الذكرى الثانية والعشرون لثورة الإنقاذ الوطني والتي اندلعت في الثلاثين من شهر يونيو في العام 1989م ومعلوم أن مرور أكثر من عقدين من عمر البلاد قد تخللته فصول وسيناريوهات مفرحة من جانب ومحزنة من الجانب الآخر، حيث إن حكومة الإنقاذ تعد من أكثر الحكومات التي تمت مواجهتها محلياً وإقليمياً ودولياً، فقد شهدت حصصاً من حرب الجنوب متطاولة ومريعة وعلى الرغم من إنهاء أطول حرب في القارة السمراء، إلا أن المهر الذي دفعته لقاء ذلك كان باهظاً وكلفها نصف البلاد تقريباً، في استحقاق أقرته اتفاقية نيفاشا. ولذا تأتي ذكرى الإنقاذ هذه الأيام وسط أجواء مربكة وحزينة بفعل انفصال الجنوب .. وعلى الرغم من أن الحكومة قد وافقت على نتائج الاستفتاء الذي أفضى إلى الانفصال إلا أنّ الكثيرين عابوا عليها التفريط وعدم التعامل الكريم مع أبناء الجنوب، مما قد لا يشجع البلاد لتعود موحدة مرة أخرى وسط مباركة دولية لافتة تركت الكثير من علامات الاستفهام والتساؤلات حول موقف حكومة الخرطوم الحقيقي وراء الموافقة على الانفصال بكل بساطة هكذا. إذ إنه وبينما عزا الكثيرون موافقة الخرطوم إلى مسلسل التنازلات المفروض قسراً عليها من قبل الغرب وأمريكا يرى الآخرون أن حكومة الجنوب قد واجهت الضغوط ذاتها بعدم الاستمرار في الوحدة مع الشمال وهكذا فرض الانفصال قسراً على شعب الجنوب، وقد وردت شكاوى عديدة من الأحزاب الجنوبية المعارضة تفيد بذلك وتؤكده. ولذا كان متوقعاً، بل كان حتمياً أن يقابل الشعب السوداني عيد الثورة هذه الأيام بشعور مختلف، وخوف من أن تقطع بقية أوصال بلاده على ذات الطريقة والنهج، حيث يتزامن العيد هذه الأيام مع أول انفصال تشهده بلادنا منذ أن تشكلت عبر القرون. فالشعب قد اعتاد استمرار الحرب مع الوحدة، رغم الخسائر البشرية والمادية، وقد نجد من يفضلون ذلك الوضع على الانفصال، الأمر الذي قد لا يُعزز موقف المؤتمر الوطني مستقبلاً، في تعامله مع ملفات وبؤر النزاع التي خلفتها نيفاشا، ولا زالت عالقة، وقد تدفع البلاد لتقديم المزيد من التنازلات على طبق من ذهب، اتقاءً للشرور التي بدأت تتطاير بدون توقف. ولكن رغم ذلك يرى الدكتور بهاء الدين مكاوي رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة النيلين في معرض تحليله حول الربح والخسارة مع هذا العيد الاستثنائي لثورة الإنقاذ.. يرى أن للثورة إيجابيات وسلبيات ومن الايجابيات أنها حققت طفرة اقتصادية غير مسبوقة كالبترول والسدود، وفي مجال الاتصالات، وظلت تفتح أبواب الحوار مع كل القوى السياسية أياً كانت النتائج. وقال الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي إن من إيجابيات الإنقاذ أنها لم تتكلف كما تكلفت الأنظمة العسكرية السابقة، وإنما كان هناك حوار مع كل الأحزاب منذ مجيئها للسلطة.. بدأت الانقاذ بعقد مؤتمرات للحوار حول قضايا الوطن وحول النظام السياسي والحوار الدبلوماسي ونظمت مؤتمراً آخر حول القضايا النقابية كما أن الإنقاذ لم تتخذ قرارات مؤثرة إلا استناداً لهذه المقررات وتوصياتها، كما أن السودان ظل خلال الإنقاذ حاضراً في السياسة الدولية والإقليمية ولم ينكفيء رغم العداوات الكبيرة التي واجهته أكثر من أي نظام سبقه إلا أنه ظل قادراً على مواجهة تلك المشاكل وإيجاد الحل لها.. ويرى دكتور بهاء أن الدبلوماسية السودانية نجحت في إقامة علاقات جيدة مع الدول الأخرى و تفادي كل مصير خطر يواجهها نتيجة لتربص القوى الدولية. ولكن بالمقابل يعتقد أن من أكبر سلبيات هذه الثورة أنها أحدثت صراعات عرقية وقبلية وجهوية في السودان هددت وحدته ولا تزال قضايا دارفور وجنوب كردفان تهدد الوحدة، وحينما فاوضت الحكومة هذه الحركات منحتها جزءاً من الثروة والسلطة استناداً على تلك المعايير الجهوية التي باتت الآن المعيار المادي لتقسيم الثروة والسلطة والذي شجع جماعات أخرى على حمل السلاح في وجه الحكومة المركزية، ومن أبرز السلبيات أيضاً حسب تشخيص دكتور بهاء أنه وعلى الرغم من انفتاح الإنقاذ على القوى السياسية إلا أن الأخيرة ظلت تشكو من عدم إشراكها في قضايا مصيرية كقضية الجنوب واصفاً نيفاشا بالاتفاق الثنائي. وعلى الرغم من أن هناك إيجابيات كثيرة تراها عيون الشعب بمختلف ولاياته إلا أن المنغصات أيضاً موجودة وبقوة، ولكن تظل القدرة على تجاوزها ممكنة إذا أعاد القائمون على أمر بلادنا النظر في طريقة حل القضايا بدون مهور غالية تكلف بلادنا الكثير غير المعقول.