مع مرور كل يوم يتأكد أن السودان غدًا بيدقاً مهماً في لعبة الشطرنج الأممية التي تديرها واشنطن، وفق إستراتيجيتها الشاملة إزاء القارة الأفريقية والشرق الأوسط على حد سواء. وهي إستراتيجية أحرزت فيها حتى الآن نقاطاً عديدة واختراقات كبيرة أهمها فصل جنوب السودان عن شماله والتحضير لاتخاذه منصة تمركز وانطلاق بعد أن تأكد أنه حليف موثوق يشاركها الرؤى والمصالح، سياسياً واقتصادياً. وإن كان من المبكر حتى الآن الحكم على المدى الذي ستذهب إليه الولاياتالمتحدة في تقديم الدعم الحقيقي والفعال للجمهورية الوليدة التي تحتاج كل شيء حتى تصبح دولة قابلة للنمو والاستقرار وخدمة مواطنيها وإستراتيجيات حلفائها الدوليين. فالأمثلة كثيرة على اندفاع واشنطن بالغزو المباشر أو الاختراق السياسي للبلدان والسيطرة على مقاليد الأمور فيها وانتهائها الى الفشل في تحقيق أهدافها أو أهداف حلفائها المحليين وطموحاتهم وأحلامهم في التنمية السياسية أو الاقتصادية المفضية للاستقرار، والمثالان الأقرب الى الأذهان هما العراق وأفغانستان. واشنطن تصوّب الآن عينها على دارفور، بعد أن قضت وطرها جنوباً عبر «نيفاشا» التي استثمرت فيها وقتاً وجهداً دبلوماسياً وإنسانياً كبيراً، مثلما ظلت تفعل تجاه دارفور منذ انفجار الأزمة هناك في مطلع الألفية الجديدة. فتابعت كل مراحلها ميدانياً وفي المحافل الدولية المعنية بمحاولات الحل المتعثرة، بل كانت هي -عبر مندوبها روبرت زوليك مدير البنك الدولي الحالي- العراب الأكبر الذي أقنع مني أركو مناوي وفصيله وحلفاءه بالتوقيع على تلك الاتفاقية التي تآكلت وذابت مع الأيام كما «فص الملح» على قول المصريين. ها هي واشنطن على الخط مرة أخرى، فهي لا تعدم وسيلة للتدخل في كل مرة لأنها تعلم أن الآخرين المعنيين أيضاً غالباً ما يكونون «مزنوقين» ويحتاجون إما لثقلها السياسي أو عونها الاقتصادي أو دعمها الإنساني. وبرغم أنها كانت حاضرة في كل مراحل التفاوض في الدوحة سواء مع حركة العدل والمساواة أو التحرير والعدالة وحتى مؤتمر «أصحاب المصلحة» والتوقيع النهائي للوثيقة، إلا أنها ربما كانت تفكر وتدبر لأن ينتهي الأمر بين يديها وتحت رعايتها المباشرة هناك في عاصمتها العتيدة من خلال مؤتمر تنظمه هي يحمل عنوان (DARFOUR FORUM)، أي منتدى دارفور. خصوصاً وهي تعلم كما يعلم الجميع، وبرغم ما يصدر عن الخرطوم بين كل يوم وآخر من تصريحات تقلل من شأن الحركات المسلحة الأخرى التي فجرت النزاع وأن «الدوحة» ستكون آخر المحطات الخارجية للتفاوض، تعلم أنه في نهاية اليوم وبآخره لابد من «تحضير أرواح» هذه الحركات -حتى لو ماتت- إذا ما رغبت الخرطوم في سلام شامل ودائم حقاً. من لندن، وبعد لقاء المبعوث الأمريكي لدارفور دينس ميس مع قيادات من حركة العدل والمساواة وحركة التحرير والعدالة، أعلنت الولاياتالمتحدة عن عزمها عقد مؤتمر حول دارفور في شهر سبتمبر المقبل، بحضور الحركات المسلحة بالإقليم، «لشرح مزايا اتّفاقية الدوحة» -بحسب ما جاء في الإعلان- وحث الرافضين لها على التوقيع. لكنها في الوقت ذاته دعت المجتمع الدولي -ولا نعرف أي مجتمع دولي هذا الذي لا تكون هي في صدارته- دعته للضغط على حكومة السودان لفتح باب التفاوض. هذه الدعوة الاخيرة الموجهة للمجتمع الدولي شكلاً، وللحكومة السودانية أساساً، هي في الحقيقة «بيت القصيد» في تحرك واشنطن الأخير. فكما هو معلوم ومُعلن فإن الحكومة ترفض فتح التفاوض حول اتّفاقية الدوحة مجدداً، مثلما رفضت من قبل وبإصرار «رفض فتح أبوجا» للتفاوض. وتصر -كما فعلت من قبل- على أن كل من يريد السلام عليه أن يلتحق باتّفاقية الدوحة وأعطت ثلاثة أشهر لهذا الالتحاق والتوقيع وألا يكون قد «فاتهم القطار» على قول الرئيس اليمني علي صالح وهو يرد على الشيخ الزنداني. وبرغم ذلك قدرت واشنطن أنها تستطيع تمسك الخرطوم من «الإيد البتوجعها»، فقدمت (السبت) بإعلانها «رفض التحالفات العسكرية واعتبرتها إعلان حرب» وذلك في إشارة لما عُرف «باتفاق كاودا» بين الحركة الشعبية «قطاع الشمال» وذات الفصائل الدارفورية المدعوة «لمنتدى واشنطن» وهي حركات العدل والمساواة وتحرير السودان بجناحيها الرئيسيين بقيادة مناوي وعبد الواحد. ولم يكن هذا هو «الطُعم» أو الإغراء الوحيد الذي قدّمه المبعوث ميس، بل قال لدى لقائه رئيس حركة التحرير والعدالة التجاني سيسي إن بلاده تريد أن تتأكد من انتقال سلسل للنازحين الى قراهم الأصلية بعد توقيع اتفاقية الدوحة، وهذا أيضاً من ضمن هموم الحكومة ويدخل ضمن إستراتيجيتها الأخيرة الرامية «لتفكيك المعسكرات» التي أصبحت حاضنة لاستمرار وإنعاش التمرّد وموئلاً للحركات الرافضة للتفاوض، خصوصاً حركة عبد الواحد، وقدم السيسي من جانبه تأكيدات قوية لدنيس حول أوضاع النازحين وضرورة نقلهم إلى مناطقهم الأصلية. وكما سبقت الإشارة، فإن واشنطن لا تعوزها الوسائل للتدخل في كل مرة، خصوصاً مع «المزنوقين» مثلنا، وها هو التجاني سيسي «ينقل للمبعوث الأمريكي صعوبة إيفاء الخرطوم بكل متطلبات التنمية في دارفور في ظل فقدان إيرادات النفط، أي إنه «يعتذر مقدماً» بالنيابة عن الحكومة ويطلب من الولاياتالمتحدة - بل يحتم عليها بحسب صيغة الخبر- دعم إقليم دارفور بما يحقق الاستقرار المنشود. لكن المبعوث الأمريكي الذي كان يعرف «زنقة» الموقعين على اتفاقية الدوحة، أعلن دعم بلاده للاتفاقية وتقديم مساهمات فعّالة، لكن لم يحدد نوع الدعم أو حجمه، وذلك من خلال مؤتمر المانحين، مع التزام للسيسي «بتدريب كوادر حركة التحرير» ولا ندري إن كان هذا التدريب سيتم على طريقة «فيالق السلام» التي تفرخها الاستخبارات الأمريكية أم عبر جهات أخرى أكثر «مدنية ومهنية».. مرة أخرى ستجد الخرطوم نفسها أمام واشنطن في موقف «لا بريدك ولا بحمل بلاك».. فماذا ستفعل هذه المرة؟.. الله يجيب العواقب سليمة!