يا إلهي.. كيف لي ولقلبي الصغير أن يتسع لهذا الحزن الكبير.. كيف لي أن أكتب وشظايا الأبجدية تبتعد عني وحرائق الأحزان تقترب مني.. تسحقني.. تلذعني بسياط من لهيب تحرق دمي.. تملأ قلبي بالرماد وغبار الألم المطحون. - يا إلهي.. كيف لي أن أصدق هذا النبأ المحزون ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.. يقولون إن طبيعة الأشياء تولد صغيرة وتكبر مع الأيام والسنوات.. إلا الحزن فإنه يولد كبيراً ويصغر مع الأيام والسنوات.. ولكن الحزن على العندليب (الأخضر) زيدان فإنه سيظل كبيراً.. كبيراً وينمو ويتشاهق مع الأيام والسنوات.. اللهم صبراً آل زيدان.. اللهم صبراً آل السودان.. اللهم صبراً يا كل مسافات الزمان والمكان.. فقد كان زيدان أقحوانة السودان التي عطر بفوحها وبوحها الجهات الأربع في السودان.. وليس هذا فحسب.. وإنما كان زيدان ثروة قومية وصادراً نقدياً شاهقاً يأخذ مكانه في قمة صادراتنا إلى دول الجوار وإلى الدول الأخرى.. كان كالذهب الأسود والذهب الأبيض ونزيف جراح الهشاب. - كان يمتد عطره وفوحه وبوحه إلى غابات كينيا ومرتفعات أثيوبيا وتلال كمبالا وساحل العاج وجزر القمر وغابات السافنا ومدائن المطر التي رقصت على أنغام زيدان وسهرت مع أغنياته حتى السحر. - يا لقلبي.. يا لصوت الكروان الذي سكن في صوت زيدان فزاده زيدان جمالاً على جمال.. فأصبح به الوجود جميلاً.. كيف أصدق أيها الأحباب.. كيف أصدق كيف سكت الرباب فانفتح للأحزان ألف.. ألف باب.. أعزيك يا وطني على هذا المصاب.. سكت الرباب في زمن الوحشة واليباب فكيف نعيش نهارات العذاب ومغرب العمر آتٍ لا محالة.. فلي ولكم يا صحابي أن نبكي (جبار الليالي) ولكن العزاء.. كل العزاء في (قصر الشوق) الذي بناه التجاني شاعر الجمال والوجدان وسكن فيه زيدان ردحاً طويلاً من الزمان.. لم يبرحه سواء في الحياة أو فيما بعد الحياة.. إنه يا سادتي قصر التجاني وزيدان الذي سيظل خالداً وحياً في حواصل أبيات شعر خضر سكن فيها إنسان السودان وقد بناها التجاني وغناها زيدان. - عند سماعي نبأ رحيل فنان السودان زيدان هيأت نفسي لاستقبال جثمان الفقيد في مطار الخرطوم الدولي.. ولكن ظرفاً طارئاً حال دون ذلك.. بل حال دون حضوري إلى سرادق العزاء.. ولكن العزاء كل العزاء أن أعزي عبر هذه الكلمات النائحات آل الراحلة والدته (أم الحسن عبد الله فارس) وهي من بلدة الشوك بمنطقة القضارف.. وكان الفقيد الغالي زيدان قد تم دفنه إلى جوارها حسب وصيته في مقابر البنداري بالحاج يوسف.. كما أعزي خال الفقيد الأخ محمود حامد وابن شقيقة الفقيد سامي أم بدي.. بل وكافة أبناء أهله التعايشة بحي العباسية العريق بأم درمان.. وكذلك أهله التعايشة في الرماش ورهيد البردي وكل بلدات ومدن السودان.. وأخص بالعزاء آل الراحل الأميرلاي حسن الزين كبير التعايشة وأحد الضباط العظام من جيل الرواد في قوة دفاع السودان.. ومن الرسميين أعزي الأستاذ السموأل خلف الله وزير الثقافة والإعلام الاتحادي.. والدكتور محمد عوض البارودي وزير الثقافة ولإعلام بولاية الخرطوم.. وكذلك أعزي الدكتور ياسر الفادني معتمد شرق النيل.. وفي مساق المبدعين والأدباء والفنانين أعزي صديقه ورفيق مشواره الإبداعي في شوارع القمر الأستاذ التجاني حاج موسى.. والدكتور حمد الريح.. والفنان صلاح مصطفى.. والموسيقار عمر الشاعر.. والدكتور عبد القادر سالم.. والشاعر هلاوي وصديقه الحميم عبد الله الكردفاني. - وفي عروستنا (آخر لحظة) أعزي مصطفى أبو العزائم وعبد العظيم صالح وأعزي الأخ الغالي مؤمن الغالي الذي يسكن في دواخله ناقد فني ولكن ضل طريقه إلى كتابة العمود السياسي.. وأعزي الأخ عابد سيد أحمد مدير قناة الخرطوم الذي يتمتع بحس فني وإبداعي رائع.. ووضح ذلك جلياً في بشريات برامج القناة. - وأخيراً وليس آخر أعزي نفسي في مصابي الخاص والعام برحيل عندليب السودان زيدان الذي أثرى وجدان كل أهل السودان.. فالراحل الفنان زيدان كان واحداً من نجوم الإبداع والطرب الأصيل الذين شكلوا الوجدان الإبداعي لإنسان السودان شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.. عفواً الجنوب الذي رحل مؤخراً إلى الانفصالية الجغرافية.. وأذكر أن أحد القادة الجنوبيين قال لي في ذات مرة إن حفلات (الترم ترم) التي كانت تقام (عندهم).. لا يكتمل بريقها إلا بسماع عدد من أشرطة أغنيات الفنان زيدان وفنان أفريقيا الأول الموسيقار وردي.. والفنان الراحل خليل إسماعيل.. (يوم بيوم نبيع الكمبا).. والفنان صلاح مصطفى (سوداني بلدنا وكلنا «أكوان»). - أيها السادة استأذنكم في تقديم (فلاش باك) عن الراحل الجميل الفنان زيدان.. حيث شهد حي الموردة صرخة ميلاده الأولى في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي.. تلقى تعليمه الأول بمدينة كادوقلي.. حيث كان والده يعمل بها في وزارة الزراعة.. وبعدها عاد به والده إلى أم درمان حيث واصل الطالب آنذاك زيدان دراسته بمدرسة بيت الأمانة والمرحلة المتوسطة بمدرسة حي العرب.. والمرحلة الثانوية بالأهلية بأم درمان.. وكان زيدان قد انضم إلى الفرقة الموسيقية بالمدرسة تحت إشراف الأستاذ محمد أحمد قاسم وكان مشرفاً على النشاط الفني والموسيقي بالمدرسة.. ومن خلال هذه الفرقة الموسيقية تفتحت موهبته وكان يعزف آنذاك على صفارة من الأبنوس.. يعزف عليها ألحان أغاني الفنانين الكاشف وأحمد المصطفى وكابلي ووردي.. إلى أن التقى بالموسيقار صالح عركي وكان ذلك في بواكير الستينيات.. حيث تعلم العزف على آلة العود على يد الموسيقار صالح عركي وبعدها أصبح يجيد أغاني الموسيقار الكبير وردي حتى أطلق عليه لقب (وردي الصغير).. وفي عام 1963م أجيز صوته أمام لجنة الأصوات بالإذاعة وكان قد أدى أغنية (بالي مشغول يا حبيبي).. وأغنية (ما هو عارف).. وأغنية (بيني وبينك والأيام قصة حب طويلة) للموسيقار الشاهق وردي.. وكانت أغنية (بالي مشغول) من كلمات الشاعر الكبير رب السيف والقلم (سعاتو) عوض أحمد خليفة.. وكان من ألحان الموسيقار المهول عبد اللطيف خضر ود الحاوي.. وبعد ذلك غنى العندليب الأخضر عدداً من الأغنيات الرائعة منها (ما سألت عليك).. (لغيرك ما بقدر ألوم) التي لحنها الفنان الموسيقار السني الضوي.. كما غنى أغنية (وداع) للشاعر الكبير أحمد ناجي.. واحتضنه بعد ذلك الموسيقار أحمد زاهر الذي قدم له العديد من الألحان التي صنعت نجومية الفنان زيدان.. حيث قدم أغنية (معذرة).. وأغنية (أكون فرحان).. وعندما نضجت تجربته الفنية قدم من ألحانه (ما أصلو ريدا).. ثم (قصر الشوق).. ثم (فراش القاش).. ثم (في بعدك يا غالي).. (ليه كل العذاب).. وقد أحدثت هذه الأغنية والأغنيات التي سبقتها ضجة واسعة.. ثم جاءت مرحلة أغنيات (أخونك).. ثم (نبع الحنان).. ثم (غرام الروح).. ولعل أداؤه المتفرد لرائعة الشاعر ود القرشي (عدت يا عيدي بدون زهور وين قمرنا ناس البدور.. غابوا عني) كان لها أثر هائل على مسيرته الفنية. - رحم الله الفنان زيدان بقدر ما قدم من فن بديع.. وشدوٍ رفيع لإنسان السودان.