تحدثت في المقال الأول من هذه السلسلة الثلاثية عن المحور الأول المطلوب توفره لتحقيق المناخ المناسب للتنمية، وإعادة تأهيل المشاريع الإنتاجية، وهي بدورها وبعد تحقيقها تقود إلى تحقيق المحور الثالث، وهو رفاهية المواطن.. المحور الأول كان عن ضرورة العمل على وقف الحروب بكل أشكالها في جنوب كردفان، النيل الأزرق، أبيي، إضافة إلى خلق علاقة متميزة محترمة مع دولة جنوب السودان، وبذلك يسود الأمن والاستقرار ونزيف الأموال والدماء العزيزة جداً.. وقف الحروب وخلق العلاقة الودية مع دولة الجنوب في هذا الوقت بالذات، إعمالاً لفضيلة العفو عند المقدرة، لأن حكومة السودان أثبتت بالبيان بالعمل التفوق العسكري والتماسك، وفي نفس الوقت تفادياً للإفراط في القوة، ومنح الفرصة للتآمر الخارجي المتربص والمراقب للأحداث، حتى تبلغ مدى المبرر للتدخل السافر، كما حدث في ليبيا، ويمكن أن يحدث في سوريا. بعد التحقيق الناجح لمحوري الأمن والاستقرار من جهة، والتنمية وإعادة التأهيل للمشاريع وإنسياب عائدات البترول من جهة أخرى، والتي يمكن أن ترتفع إلى 70% إذا تم حل وإزالة التوتر مع دولة الجنوب، يمكن أن تحصل حكومة السودان عبر التفاوض الواقعي إلى حوالي 50% من عائدات البترول، متمثلة في نسبة الآبار في السودان، رسوم النقل عبر الأنابيب، ورسوم معالجة الخام قبل الضخ في الأنابيب، ويمكن إعادة ما لا يقل عن 20% من نصيب بترول دولة جنوب السودان ضمن عائدات صادرات حيوية من الشمال إلى الجنوب، هناك 172 سلعة مطلوبة في الجنوب من الشمال.. ولا يوجد لحكومة الجنوب خيار أفضل من التعامل في هذا المجال مع حكومة السودان، عليه يجب على القلة من متطرفي الجنوب في القيادة السياسية الكف عن استفزاز الشمال بالتصريحات المتواصلة بدعم السودان، بتعالٍ غير لائق بما يشبه شراء رضاء حكومة السودان بالمال، متجاوزين الواقع، وهو شراء استقرار الجنوب وكفاية مواطنيه من الضروريات للحياة اليومية في تبادل محترم للمال والسلع. شعب السودان من رئيسه حتى أصغر مواطن فيه، مشبع بقيمة العزة، وهو في نفس الوقت رفيع الخلق وسهل، حتى قال الشاعر الفذ المرحوم إدريس جماع: هين تستخفه بسمة الطفل،، قوي يصارع الأجيال حاسر الرأس عند كل جمال،، مستشف من كل شيء جمال.. وقال المغني عثمان اليمني: إن درت السمح تعال يازول وأن درت الكعب أرح يازول. الرفاهية تعني: توفر السلع والخدمات الضرورية في مقدور الغالبية العظمى من الشعب تحت مظلة الحرية والعدل والمساواة. توفر السلع والخدمات يتم بسرعة مذهلة فور توقف الحروب بكل سلبياتها، من إهدار للمال والأرواح، وعدم الأمن والأمان للمواطن، خلافاً لما كان سائداً في الفترة من 2005م إلى 2010م، إذ استقر فيها سعر الصرف للدولار «2» امتلأت المحال التجارية الكبيرة والصغيرة بكل أنواع السلع الضرورية والكمالية، ودارت عجلات التنمية الصناعية والعمرانية، حتى أصبح السودان ملاذاً آمناً للاستقرار وكسب العيش لدى رعايا دول مجاورة وغير مجاورة مثل أثيوبيا، أرتيريا، غرب أفريقيا، تركيا وشرق آسيا.. وبدأت الهجرة العكسية للسودانيين من الخارج، ومتلأت شوارع الخرطوم بملايين السيارات، وأصبح في كل منزل تقريباً أكثر من سيارة، وهاتف سيار لكل فرد تقريباً، وزادت بصورة ملفته للنظر أعداد البنوك التجارية الأجنبية، وأماكن المأكولات الأجنبية الراقية، والمقاهي الفاخرة، وازدهرت تجارة وصناعة الأثاث، والمعدات الكهربائية، والمستشفيات الخاصة، حتى صوالين الحلاقة، والمخابز، ومراكز التجميل، والعلاج الطبيعي لم تسلم من هذا الغزو الأجنبي، وكانت كل تلك مؤشرات رفاهية.. يجب أن يعود كل ذلك بعد أن بدأ في انحسار. العنصر المهم في الرفاهية، قدرة الغالبية العظمى من المواطنين على الحصول على السلع والخدمات المتوفرة، وهذا لا يأتي إلا بالتنمية، وإعادة تأهيل المشاريع المنهارة، وتشجيع الاستثمار الأجبني فيها، مثل مشروع الجزيرة، محالج القطن، صناعات الغزل والنسيج، صناعات الجلود والسكر، ومشاريع الزراعة المطرية والمروية، وبذلك يمكن خفض نسبة العطالة إلى الحد الأمثل، وبالتالي رفع الغالبية العظمى وقدرتها المالية للحصول على السلع المتوفرة، والخدمات المتاحة. العنصر الثالث لتحقيق الرفاعية هو الحرية الاجتماعية والسياسية، الحرية الاجتماعية تكمن في إعادة الحياة إلى الحدائق العامة وزيادتها في كل الأحياء، المنتديات الثقافية ودعمها وتشجيعها بالمال، المقاهي التي أغلقت أبوابها تجب إعادتها إلى سيرتها الأولى، ثم الدعم الكبير للرياضة بكل أنواعها، وإنشاء المسارح الصغيرة في كل حي. هذا بجانب إعادة النظر في قانون وإجراءات النظام العام، أو أمن المجتمع، بحيث يصبح الأصل في القانون والإجراءات ضبط الشارع العام في مظاهره السالبة، وليس قاصراً على الزي الفاضح فقط، فهناك ظواهر سالبة مزعجة مثل المتسولين، المتشردين، وقيادة الشباب الطائشة للسيارات، وأن يكون ضبط الشارع هو الأصل والاستثناء، مداهمة والفنان والمقاهي. العنصر الرابع في الرفاهية هو الحرية السياسية، وفي هذا الصدد أقول إن ما هو متوفر الآن من حرية سياسية في الصحف، الإذاعات، ومحطات التلفزيون، لم يتوفر في السودان منذ العام 1885م وحتى اليوم، أي حوالي مائه خمسة وعشرين عاماً باستثناء أحد عشر عاماً في الفترات من 1956م إلى 1958م 1964- 1969م.. وأخيراً من 1985-1989م أي نسبة حوالي 8% من تاريخ السودان في 125 عاماً.. يمكن أن نقول إن هذا العنصر من الرفاهية متوفر وتجب المحافظة عليه، العدل متوفر بدرجة كبيرة في المحاكم، لكن المساواة في بعض الأوجه غير متوفرة، خاصة في تعامل البنوك في التعسر المالي الكبير، إذ يتدخل البنك المركزي في بعض الأحيان حماية لبعض الأفراد، خاصة بعد أن يثبت أن ضماناتهم أقل بكثير من التمويل الممنوح، وأيضاً عدم المساواة في تعيين طالبي الوظائف -الخريجين- في المؤسسات الحكومة عليه، وبقليل من المرونة السياسية، وبعد النظر، والتسامح، يمكن تحقيق الرفاهية والاستقرار في السودان. مهندس مستشار