اذا كنت تعرف اسرار الابتسام او تدرك معنى الحياء فان جلال كردمان لم يمت. فاذا التقيت جلال يوما ما ولو برهة فلن تقدر على مفارقته دون ان تضمن جمال صديقا ابد الدهر. جلال كردمان يعطيك ابتسامة لم ترها من قبل ثم تلمس فيه حياء من هو أحيى من فتاة حيية. عند مولده فى مطلع الستينات كانت مدينة نيالا موعودة بذلك السحر « الطفل جلال » الذى أضاف الى المدينة القا زاد من محاسنها التى لا نملك لها عدا. حبى فى رمال واديها الطاهر ولعب مع اقرانه فى جداول مياهها الخريفية التى تغسل الارض عاما تلو الاخر ليمشى فيها جلال، فمثله لا يمشى الا على ثرى الطهر. كل من عرف جلال كردمان فى طفولته وصباه وشبابه لابد ان يذكر كل لحظة التقاه فيها دون نسيان، اما الذين لم يلتقوه فهم يعرفونه أيضاً!!!! فمن منا لا يعرف الابتسام والحياء ؟؟؟؟ انهما جلال كردمان . كان يمشى بيننا كاحد الانبياء يتأمل شيئا لا نعرفه ، ينزوى بعيدا كالنساك ثم يعود إلينا باسما حانى الراس خجلا فيسحرنا بمحياه ويتقى بذلك سهام المشاغبة من أقراننا الذين يتجمعون لللهو فى ساحات مدرسة نيالا الثانوية فى الأوقات التى تفصل بين درس وآخر. كان جلال كردمان لا عب كرة قدم من طراز اخر. فهو فى الميدان كالزهرة نجم تنظر الى السماء فيخطف بصرك اولا ثم تبدو الأنجم الاخرى من بعده اما اذا ارسل جلال خطاه يمشى فى الارض إنسانا يعاشر الناس فتخال إليك كل محاسن الدنيا مخلوقة فى صورة انسان. كردمان اسم لا يتجذر فى اى بقعة من نواحى دارفور ولكن عائلة جلال لا تنسب الا لنيالا فقد جاء والده اليها من احدى نواحى السودان الشمالى ليلد جلال وثلة من أشقائه ويصبح جلال الباسم الحيي الخلوق النبيل ابرز علامات مدينة نيالا، حتى بعد رحيله منها الى الخرطوم بقيت صورته وسيرته محفوظتان فى مستودع ثروات المدينة فمثل جلال لا يستقر الا فى سفر الخلود. فى ديسمبر عام ألفين وعشرة ذهبت الى السودان اول مرة بعد تسعة عشر عاما من الغياب لنقل مشاهد الاستفتاء فى الجنوب. ذهبت مجردا من المشاعر والأشواق فجل تفكيرى كان منصبا حول الجولات المكوكية التى تنتظرنى بين الخرطوم وجوبا. لقد اتفقوا جلال كردمان واحمد عبد الباقى والجنرال اسماعيل فضل المولى «عكاشة» وعاصم الصويم ود. اسامة وشرف دبدب وابراهيم تاخا وآخرون ان يحتفلوا بى فى حديقة الموردة فى ام درمان. لن أنسى تلك الأمسية . فعندما اتجهت صوب المكان كانت الذكرى قد هاجت واستبدت بالفؤاد الأشواق فجاءت المشاعر تجرنى الى مطلع الثمانينات ونحن شخوص تتشكل احيانا وتلهو أحايين اخرى فى مسارح مدينة نيالا الخضراء. تخيلوا معى هذا المشهد، شخص مقبل على لقاء اصدقاء لم يقابلهم منذ ثلاثين عاما!!!! هل يمكن استبيان ملامحهم بسهولة؟ وكيف يمكن مداراة الدهشة والزمن قد طبع على وجوه الصبية الأصدقاء بصمات ثلاثين عاما؟ كيف يبدو احمد او عاصم او شرف ....... توقعت ان تعقدنى الدهشة عند رؤية كل الوجوه او ان استغرق وقتا فى التعرف عليها عدا وجه واحد لم اكن اعبأ به. ذلك هو وجه جلال كردمان فقد دخلت مشارف المكان فلاحت لى من بعيد ابتسامة لم تفلح السنوات الثلاثون الا ان تزيدها القا وتؤكد للناظر من بعيد او قريب ان صاحبها هو جلال كردمان. ازدانت المقاعد والمناضد بمفارش بيضاء وكان جلال بهيا اكثر بريقا تتدفق منه ابتسامة نقلتنى أعايش من جديد جمال ايام رمى عليها الزمن ثلاثين عاما ولكنها بدت حية وانا اطالع وجه جلال كرمان . برغم خطورة مرض السرطان فقد كان جلال غير عابئ، فعند لقائنا فى حديقة الموردة قال لى انه فعل كل ما ينبغى له. كشف لى باطن قدمه التى تسلل عبرها السرطان وأرانى الموقع الذى استأصل منه الاطباء السرطان ولكن لم يكن جلال يدرى ان السرطان قد تسرب عبر قدمه وامتلك مساحات فى جسده اعيت الدواء والمداوين. جلسنا فى حديقة الموردة كأننا فى «كامب ديفد » المطعم المجاور لجامع الكوارتة قبالة مدرسة نيالا الثانوية ، فالوجوه هى الوجوه نفسها التى كانت تلتقى مطلع الثمانينات فى ذلك المنتجع المدرسى ليلة كل خميس، ذهب الحديث بنا مناحى شتى ، يحسبه البعض ذكرى ولكنه بحضور جلال كردمان عاد حقيقة عايشناها مرة اخرى فى تلك الأمسية كانها وليدة زماننا الحاضر. لقد برع شرف دبدب بمواقفه الهزلية فى اغراقنا فى ضحك لا ينتهى فهو رياضى يلعب كرة القدم مثل جلال. وحتما لعب جلال مباراة ضده يوما ما فى الساحة الشعبية آنذاك والتى تسمى اليوم إستاد نيالا. شرف هو قصير القامة ولذلك اسموه دبدب يمتاز بسرعة فائقة ويستخدم الهزل فى المراوغة خاصة اذا انفرد بحارس المرمى، يقول شرف تمكنت فى احدى المباريات من التقاط الكرة من وسط الملعب وتخطيت اخر دفاعات الفريق الخصم لأجد نفسى فى خط ستة وجها لوجه امام حارس المرمى فاخذت ارقص واسأله اين تريدنى ان اسجل الهدف يمينك ام شمالك؟ وبينما كنت افعل ذلك شعرت فجأة بقوة عارمة قذفتنى والكرة خارج الملعب فى اتجاه الزاوية اليسرى!! انه دفاع الخصم تمكن من اللحاق بى لينهى تلك المسرحية العبثية التى كنت أمثلها داخل ميدان كرة القدم انفجرنا ضحكا وضحكت ابتسامات جلال توحى لشرف ان الامر كان يحتاج الى فن وليس هزل... ذلك هو جلال يعرف تماماً الأفعال التى تناسب المواقف فهو لاعب فنان كما اسماه ابن دفعتنا عباس الوسيلة والذى هو الاخر ابرع من لعب الكرة الطائرة فى مدرسة نيالا الثانوية تلك الايام. سالت جلال عن نجم اخر فى بيتهم كان يتقدمنا فى نيالا الثانوية وهو شقيقه كمال كردمان فأجابنى بحزن انه هو الاخر توفاه الله . لقد ذهب كمال فى ريعان شبابه تماماً كما لحق به الان شقيقه جلال وكان الأرواح الطاهرة الباسمة لا تعرف مستقرا الا فى السماوات العلى حيث تاتلف فى حياة البرزخ من جديد. هل مات جلال كردمان حقا؟ كلا فالابتسامة والحياء بقيتا فينا كما زرعها اخضرارا يتخطى تقلبات الفصول وهكذا يبقى كردمان خالدا فى حياتنا ولكن اذا كنا نطمع فى المزيد فان صاحب الابتسامة قد ذهب بعيدا وسما الى حيث النعيم والابرار وبقينا نحن فى الارض نموت يوما اثر الاخر فمن عرف جلال كردمان لا يعرف للدنيا طعما فى غيابه.