دعاني حفيدي محمد ميرغني التوم إلى حفل تخرجه في جامعة السودان- هندسة الكترونيات- تخصص اتصالات.. وأصر أن أشهد الحفل خاصة وأن والده العميد .م. ميرغني التوم في مأمورية خارج العاصمة.. وذلك بصالة الريفيرا الأربعاء قبل الماضية.. وقد كان الحفل منظماً.. فالصالة ليست غاصة بالحضور بدرجة مزعجة.. وكان حضور الأطفال مناسباً ولعل موجة البرد كان لها أثر في هذا الحضور المناسب رغم أن عدد الخريجين لم يكن قليلاً.. وعند دخولي كان يمسك (بالمايكرفون) شاب هو مذيع الحفل.. آخذ عليه إكثاره من الأخطاء اللغوية في حفل تخريج جامعي.. وكان إلى جانبي ابني محمد- خريج لغة عربية-ووالدة الخريج وهي معلمة.. استشهدت بهما على تلك الأخطاء.. وأرجو من الخريجين في حفل تخريجهم أن يتحروا اختيار المذيع.. فهو العنوان للحفل.. لا الفنان.. أعرف أن أي متحدث أو مذيع أو خطيب قد يخطيئ أخطاء بسيطة مهما بلغ إلمامه بالنحو.. وهذه تعتبر زلة لسان.. أما الأخطاء الكثيرة المتلاحقة.. فهي تدل على عدم المعرفة.. وكان على حفيدي محمد ميرغني التوم إلقاء كلمة الخريجين.. فأشفقت وقلت لوالدته الأستاذة إلهام ثابت (الله يستر).. ولكنه بحمد الله اجتاز الامتحان.. ومرت الكلمة المكتوبة بدون أخطاء إلا أن المايكرفون يبتعد أحياناً عن فيه. الذي أدهشني أن بعض الخريجين والخريجات يختارون معزوفات وأغاني أجنبية ليزفوا بها.. وأشاهدهم وهم يقومون بدور (المايستور) الذي يقود الفرقة الموسيقية.. فيشيرون إلى زملائهم الذين يقومون بدور الترديد والرقص معهم.. كما يشير (المايسترو) بعصاه.. مما يدل على أنهم يعرفون الأغنية (ومرتفعاتها ومنخفضاتها.. ووقفاتها).. وأنها مألوفة لديهم.. يمارسون غناءها أو الاستماع إليها من الأجهزة والتفاعل معها والرقص عليها.. حتى أجادوها.. وأتساءل هل يعرفون أغاني الحقيبة ويتفاعلون معها.. أو يهضمون الغناء الحديث.. وقطعاً لا أعني الجديد أو الشبابي- كما يسمونه- ولكني أعني غناء أحمد المصطفى.. وحسن عطية، وعثمان حسين، وذلك الرعيل المبدع.. وللحقيقة فقد كان الاختيار الرائع الذي تكرر كثيراً.. أغنية (جناي البريدو).. هو الأكثر مناسبة للتخرج.. فهي تحكي عن آمال أم.. وتمنياتها لابنها وهي ترضي كل الخريجين بالإشادة بكل التخصصات.. والمهن.. وحاجة الناس لها.. وما يمكن أن يقدمه المتخرج لقومه الذين ينتظرون تخرجه ليؤدي واجبه نحوهم.. وقد أعجبني كثيراً (الكوبليه) الذي يقول: (يخلص مدرستو.. الليها حمستو.. ما أسمع الخاينة.. تقول لي جكستو.. بس أسمع بت الناس.. تقول لي عرستو).. وللأم الفضل في تزويد ابنها بالحماسة دائماً.. فهي تريد أن تتباهى به بين رفيقاتها.. (وبالمناسبة فالكلمة هي الحماسة وليست الحماس كما يقول الكثيرون- أما الحماس بكسر الحاء.. فهو التشاور والتقاتل).. والمشهد الرائع جداً.. هو امتنان وعرفان من قبل الخريجين نحو أماتهم.. فكثير منهم من انحنى يقبل يد أمه ثم هوى إلى قدميها يقبلهما.. مما جعل عيني تفيضان بالدموع.. وقد زاد حفيدي محمد ميرغني التوم بأن خلع الروب وألبسه أمه.. وأخذ يزفها بدلاً عن أن تزفه.. وسرت خلفهما وأنا كأنني في يوم عرسه.. وقد كان فعلاً عرساً للخريجين سعدت أمهاتهم اللاتي حضرن (جديدهم) كما يقول مطلع الأغنية (جناي البريدو.. أحضر جديدو.. وأحننوا في إيدو.. يا الله حضرني).. أحسست أن هذه الأغنية مفصلة لتكون أغنية تخرج. فالتحية لمن صاغ كلماتها.. ومن لحنها.. ومن تقوم بأدائها.. والأم التي كانت في الماضي لا تعرف شيئاً عن ابنها إلا أنه (يروح المدرسة.. ويجيء من المدرسة). وأنا معلم كانت كثير من نساء الحي.. يأتين لي شاكيات من تصرف أبنائهن ويطلبن مني معاقبتهم.. وبعضهن لا يدرين في أي سنة دراسية أبناؤهن ولا من يصادقون.. ولا أين يتأخرون بعد انتهاء الدراسة.. وكل ما يهمهن إعداد الطعام لهم وغسل (الجلابية البيضاء والعمة) آخر الأسبوع.. والأم اليوم هي التي تهتم بدراسة أبنائها.. تاركة للأب عبء معالجة الأمور الحياتية الأخرى.. فهي التي تراجع معهم الدروس اليومية.. وهي التي تعد لهم الزي المدرسي.. وتحضر لهم (الساندوتشات) وتوقظهم مبكراً وقد جهزت لهم الشاي أو العصير.. وتشرف على من يترحلون (بالترحيل) وهي التي تتأكد من قيامهم بأداء الواجبات.. وتكشف ضعفهم في العلوم وتعمل على إيجاد معلمين يدرسونهم بالمنزل.. وتعد مكان تدريسهم والعمل على إكرام المعلم.. وفي موسم الامتحانات تجمد الأم نهائياً علاقاتها الاجتماعية (طبعاً إلا العزاء.. فأصحابه لا يرحمونها).. وتحسب نفسها في حالة طواريء.. تضايقها زيارات الأخريات.. وتعتذر لكل لائم على تقصيرها بامتحانات الأولاد.. ومنهن من تطلب من أقربائها تأجيل الأعراس والمناسبات التي تتطلب مشاركتها إلى ما بعد الامتحانات.. وتنسى في هذا الموسم حتى الاهتمام بنفسها.. وزينتها.. ولا غرابة أن استحدثت وزارة التربية في إعلان الشهادة ذكر الأم اعترافاً بفضلها في متابعة أبنائها.. بل إن بعض الأمهات يقابلن إدارة المدرسة في حالة طلب (والي الأمر).. رحم الله شوقي القائل: الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعباً طيب الأعراق ونحن بحمد لله قد أعددناها يوم أن وفرنا تعليم البنات بعد أن كان مرفوضواً من عامة الناس.. فأصبح الآباء يتنافسون في تعليم بناتهم وينفقون عليه تماماً كما على أبنائهم.. ولم يقف الحد عند أن تكون الأم جامعية.. بل إن كثيراً من الجدات (الحبوبات) جامعيات أيضاً.. فهن قد ذقن حلاوة العلم فحرصن على تعليم أولادهن ويسعدن به. تحية لكل أم.. ولكل خريج.