حميد.. يا أنت.. يا آخر عصافير الربيع التي غادرت حدائق اللارنج والبرتقال والجمال فغدت الأبجدية السودانية أرملة.. يا أنت .. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضاً نواح) وما أظن النواح يشفي الجراح.. يقولون الأشياء والكائنات تولد صغيرة وتكبر مع الأيام إلا الحزن.. فإنه يولد كبيراً ويصغر مع الأيام.. ولأن الأقوال والقواعد الذهبية تنصهر أحياناً بصهد الحريق الكبير.. فإن الحزن على حميد ولد كبيراً وسيظل كبيراً في الذواكر إلى أن يرث الله الأرض والقمر والشعر والمطر. حميد.. يا أنت.. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضا نواح).. يا ديوانك (أرضاً سلاح) جاء (قيدومه) للبوح غير المباح.. البوح الذي جاء في الديوان كالصراخ المبحوح المطرز باليتم والحزن والأسى.. البوح المبحوح عن أثمال العراة والحفاة الذين تختلج خطاويهم على أرصفة المسغبة ويمشون ولا يستطيعون ويسقطون تحت أقدام الشمس جوعى وهم يصرخون ويفنون ويحترقون على محفة من أعواد الصندل ليس كالهندوس ولا كعروس النيل التي ما عرفت كيف تتنفس تحت الماء فغرقت وماتت وعاش الفرعون وهو يتناول وجبة من أعشاب النهر التي ينتزعها من كبد النهد المصلوب على صدر العروس النائمة في عتمة الأبدية. حميد.. يا أنت.. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضاً نواح) نم مفتوح العينين إلى جوار عروس النيل واهنأ بالفرح النبيل وترانيم الخليل.. أما نحن فسنظل نثرثر فوق النيل ولا نستطيع أن نكتب مثلما كتبت.. ولا نستطيع أن نعيش مثلما عشت لأنك عشت وستعيش في غرفات قلوب العراة والحفاة الذين تختلج خطاويهم علي أرصفة المسغبة لأنك منهم ومنهم ولن يستطيع القدر أن ينزعك منهم ولكن الموت انتزعك منهم.. انتزعك ومراسم خطبتك لعروس النيل والبوح الجميل لم تكتمل بعد.. فقد انتزعك الموت يا (حميد) وفي نفسك شيء من حتى.. وفي قلمك قطرة من مداد أخضر كان ينتظر البذار مرة أخرى في أرضك ولكن الموت قالها قبل الأوان (أرضاً نواح). الحديث يا سادتي عن شاعرنا حميد يطول ويطول.. هذا الشاعر الذي نحت اسمه بأظافره على جدار الزمن الجميل الذي جمله (حميد) بشعره الجميل. و(حميد) يا سادتي لم يكن شعره جميل فحسب.. وإنما تشاهق فوق الجمال وأصبح جميل الجمال ومن ثم أحدث ثورة في كتابة الشعر الحديث.. شعر العامية المطهم بالمفردة العربية الفصيحة.. فأصبح شعره خلاسي الطعم والمذاق والرائحة.. وكان شعر (حميد) ثائرً ومتحرراً من قيود القافية المضنية التي تحرر منها من قبل الشاعر العربي الثائر بدر شاكر السياب والبياتي ونازك الملائك.. وهنا في بلدي كان قد تحرر منها الشاعر المغني خليل فرح وود حد الزين إسماعيل حسن والسر عثمان الطيب الذي كان الراحل ويا سبحان الله ينوي حضور حفل تدشين ديوانه (بحر المودة) ولكن إيقاع الموت كان أسرع وتحول (بحر المودة) من مجراه القديم وهو يفسح الطريق لبحر قادم آخر هو بحر الدموع الذي فاض وملأ المجرى القديم ولكن العزاء كل العزاء جاء في نهر (نهر المودة) الذي روى أرضنا الطيبة التي تشاهق بذارها واشتعل النور والنوار على أرضنا الطيبة المعطاءة. جاء ديوان (أرضاً سلاح) وقبله صدرت لشاعرنا الراحل المجموعة الكاملة من دار عزة للطباعة والنشر.. ومن هذه المجموعة (السرة بت عوض الكريم) و(أرضاً سلاح) هذا الديوان الذي أهداني إياه أحد الأصدقاء الأوفياء.. وهذا الديوان يضم بين دفتيه أربع وعشرين قصيدة.. منها بسم السلام.. مرق الحلم.. سوقني معاك يا الحمام.. غنواتنا طعم.. ملح الشاعر.. تعلق.. و.. تعلق.. حق الغني.. هذا الجميل.. بشارة.. كسوة الكعبة.. زبد زيف الدوار ثم قصيدة (أرضاً سلاح) وهي تعد كبرى قصائد شاعرنا الراحل في ديوانه الذي حمل عنوان هذه القصيدة التي جاءت في (578 ) شطرة.. وربما تكون هذه القصيدة هي الوحيدة بين قصائد الشعر في بلدي في عدد شطراتها. من المعلوم أن شاعرنا الراحل (حميد) كانت قد جمعت بينه وبين الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد صداقة حميمة زادتها قوة وحدتهما في المنافي بالدوحة.. وكان الشاعر (حميد) قد رثي صديقه العزيز مصطفى سيد أحمد بقصيدة حملت عنوان (مصابيح السما الثامنة وطشيش).. وشاعرنا (حميد) كان قد شهق شهقة ميلاده الأولى بمدينة نوري بالولاية الشمالية.. وكان ذلك في عام 1956م وتلقى تعليمه الأولي والأوسط بالمدينة نفسها.. ثم تلقى تعليمه الثانوي بمدرسة عطبرة الشعبية الثانوية.. وفي عام 1978 تم تعيينه بهيئة الموانيء البحرية وبعدها ترك العمل بالهيئة وحملته أجنحة المنافي إلى البعيد حيث عمل بالمملكة العربية السعودية وكان قد أحيا فيها عدداً من الأمسيات الشعرية.. فضلاً عن أنه شارك في بعض المشروعات الإبداعية كان بعضها متعلقاً بالتوثيق لتجربة الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد ثم عاد بعدها إلى الخرطوم وعمل لفترة قصيرة مديراً عاماً لدار الأشقاء للطباعة والنشر التي يمتلكها الوجيه صلاح إدريس الذي درج على التعاطف مع المبدعين والشعراء والفنانين.. غير أن شاعرنا الراحل (حميد) وبروحه الرومانسية وعشقه للانعتاق والتمرد على القيود وأضواء المدينة.. فعل ما فعله (مصطفى سعيد) بطل رائعة الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال).. ومن ثم حمل شاعرنا روحه المتعطشة للحرية والإنعتاق وصنع لنفسه موسماً للهجرة إلى الشمال حيث الجمال وراحة البال ورائحة طيوب حدائق اللارنج والبرتقال والجمال. وشاعرنا العظيم الراحل (حميد) كان قد ارتبط في بداية مشواره الفني بالفنان الراحل ياسين عبد العظيم.. وبعدها تغنى له الكثير من مطربي الطنبور وفي مقدمتهم الفنان محمد جبارة ومحمد كرم الله وعادل عثمان الطيب ومحمد النصري.. كما أن الفنان الكبير الراحل مصطفى سيد أحمد كان قد تغنى بعدد من قصائده التي ذاع صيتها.. كما أنه غنت له فرقة عقد الجلاد بقيادة المؤلف الموسيقي الشهير والمايسترو الكبير عثمان النو.. كما غنت بعض قصائده الفنانة حنان النيل التي كان شدوها النبيل يبكي النيل وشدو الخليل وزفرات الليل. (حميد).. يا أنت.. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضاً نواح).. سيبقى الحزن عليك (أرضاً نواح) حتى يرث الله الأرض والقمر والشعر والمطر.. ورغم القمر والشعر والمطر.. فإن أرضنا الطيبة ربما يصيبها المحل حزناً عليك.. وربما يجف الطل والندى على أوراق الأزهار في حدائق الجمال.. لأنك يا (حميد) قد كنت أنت الجمال.. كل الجمال الذي أودعه الخالق في مياسم كل الأزهار في بلدي.